قدمت العلوم الإنسانيّة، ومنذ أكثر من قرن،كمًا هائلًا من الأدبيات النظريّة والمعرفيّة والتطبيقيّة في المجالات الإنسانيّة والإجتماعيّة.
لكن هذه العلوم واجهت أسئلة وتحديات وأزمات عدة، منها ما يتعلق بمستقبلها، ومنها ما يعود الى مرجعّيتها الفكريّة والفلسفيّة التي استندت اليها في القطيعة مع الدين، والعداء للكنيسة في أوروبا، بحيث أراد أوغست كونت (1857-1798) على سبيل المثال، أن يجعل من علم الإجتماع "دينًا جديدًا".
كما واجهت هذ العلوم أسئلة حول الخدمات التي قدمتها منذ بداياتها، مثل علم النفس الذي كان في خدمة أصحاب المصانع في مواجهة العمال، والأنتروبولوجيا التي كانت في خدمة جيوش الإحتلال والإدارات الكولونيالية للمستعمرات.
إن السؤال الذي يواجه العلوم الإنسانيّة الغربية اليوم، هو حول المساهمة التي قدمها هذا الكم الهائل من الأدبيات والنظريات كافة، في جعل حياة البشر أفضل، إذا كانت مشكلات الإنسان الإجتماعيّة والإقتصاديّة والأخلاقيّة والنفسيّة لا تزال تتفاقم، وهي في تراجع نحو الأسوأ؟
وما هي بالتالي طريقة، أو منهجية التعامل مع نتاجات تلك العلوم وتطبيقاتها، في مجتمعات تختلف في ثقافتها ومرجعيتها الروحيّة والفكريّة عن المجتمعات الغربيّة؟
وهل على العلوم الإنسانيّة، كما فعلت العلوم الغربية، أن تكتفي باستخدام الأدوات والمناهج المعرفيّة الملائمة لفهم وشرح وتحليل ما يجري من تحولات فرديّة أو إجتماعيّة فقط ، أم يجب البحث والتفكير، ومراجعة هذه العلوم مراجعة نقديّة، من أجل نظريات ومناهج تقدم أيضًا تصورات عما يجب، أو ما يمكن أن تكون عليه المجتمعات الإنسانيّة في المستقبل.
وعندما نقول ما يجب، أو ما يمكن، فهذا يعني أن نعود إلى مبان فكريّة، أو إلى مرجعيّة معرفيّة، أو إلى منظومة أخلاقيّة، أو دينيّة، لديها تصور معين عن الإنسان، وعما يجب أن يكون عليه مستقبل هذا الإنسان. بحيث لا تكون مناهج العلوم الإنسانيّة الغربيّة ومبانيها المعرفيّة هي المناهج والمباني المرجعية الوحيدة أو النهائية في فهم الإنسان والمجتمع، مهما كانت تلك المباني طاغيّة ومهيمنة.