مؤتمر نحو ثقافة الحوار بين الأديان
مؤتمر نحو ثقافة الحوار بين الأديان
تزايد الاهتمام العالميّ بقضايا الحوار على المستويات كافّة الدينيّة والثقافيّة والحضاريّة، بعد تفاقم النزاعات والصراعات الدمويّة ذات الطبيعة العرقيّة والدينيّة والسياسيّة التي شهدها العالم منذ عقود في كثير من بلدانه ومجتمعاته. وقد تجاوزت هذه الصراعات في أحيان عدّة طابعها الاجتماعيّ أو السياسيّ، لتتخذ لبوسًا دينيًاّ، مثل التكفير الذي يبرّر باسم الدّين قتل الآخر المختلف دينيًاّ أو مذهبيًاّ أو حتّى سياسيًاّ. أو مثل الإسلاموفوبيا التي ساهمت بشكل مباشر في إيجاد بيئات معادية للإسلام والمسلمين في المجتمعات الغربيّة.
يعتبر الحوار الإنسانيّ هو البديل عن خيارات العنف والإقصاء، التي تمارسها اليوم، في مناطق شتى من العالم اتجاهات دينيّة أو سياسيّة مختلفة. فقد بيّنت التجربة على مرّ التاريخ، سواء في المجتمعات الإسلاميّة، أو في المجتمعات الغربيّة، أنّ الحروب أو الصراعات الدينيّة، لم تؤدّ لا إلى إلغاء الآخر ولا إلى القضاء على عقيدته أو مذهبه. والدليل على ذلك أنّ الأقلّيات المذهبيّة والعرقيّة والدينيّة لا تزال موجودة في كلّ المجتمعات في العالم رغم انقضاء مئات السنين على الحروب التي تعرّضت لها، والمشاريع التي أرادت زوالها. لا بل إنّ ما نتج عن مثل هذه الحروب التي امتدّت عقودًا طويلة من الزمن لم يؤدّ سوى إلى تدمير المجتمعات وبثّ روح الكراهيّة فيها، وتشويه صورة الأديان التي تلتقي جميعها على الرحمة والمحبّة والتسامح.
تراجعت عام 1990 فرص الحوار والتسويّات في العالم. فقد كان هذا العام بداية تحوّل في العلاقات الدوليّة، بعد تفكّك الاتّحاد السوفياتي، وبعد أن فرضت الولايات المتّحدة نفسها القوّة الوحيدة التي تتربّع على عرش قيادة العالم.
وتراجعت في ظلّ هذا الوضع الجديد، فرص الحوار والتسويات، ليس فقط بين الأديان، أو بين الثقافات، بل حتّى بين الشعوب والدول والحكومات، ليحلّ مكانها لغة التهديد والوعيد والتلويح باستخدام القوّة.
إنّ ما يعنينا في هذا التحول هو تلك الدعوات من بعض المفكرين، ومن بعض صنّاع السياسات والمخطّطين الاستراتيجيّين الأميركيّين، إلى اعتبار الإسلام هو التهديد المقبل للحضارة الغربيّة بعد أفول التهديد السوفياتي. وكان أبرز من عبَّر عن هذه الدعوات هو صموئيل هانتنغتون، الذي ذاع صيت أطروحته الشهيرة حول "صدام الحضارات" والتي اعتبر فيها أنّ الإسلام والكونفوشيّة سيتّحدان في مواجهة العالم الغربيّ والمسيحيّة.
وقد انشغلت دوائر فكريّة وأكاديميّة وسياسيّة وبحثيّة من مختلف أنحاء العالم، بالردّ على هذه الأطروحة. وتنوّعت مفردات هذه الردود وعناوينها، مثل التأكيد على حوار الحضارات وليس صدامها، أو الحوار بين الأديان، أو حوار الثقافات... وكان المقصود من ذلك كلّه نفي فكرة الصدام واستبعادها، واعتبار الحوار بمستوياته كافّة هو ما تتوقعه البشريّة وما تبحث عنه، وما يليق بالعلاقات الإنسانيّة بعد طيّ صفحة الحروب وبناء مستقبل التعارف والاعتراف المتبادل.
لم ينقض عقد التسعينيّات حتّى دخل العالم في مواجهة جديدة عزّزت أطروحة الصدام التي روّجت لها تلك الدوائر الفكريّة والاستراتيجيّة الأميركيّة. فقد تعرّضت الولايات المتّحدة في 11 أيلول/ سبتمبر2001 لهجمات اتُّهم تنظيم "القاعدة" بتنفيذها على برجيّ مركز التجارة العالمي في نيويورك. كان من نتائجها المباشرة أن شنّت الولايات المتّحدة الأميركيّة حربًا عالميّة على الإرهاب "الإسلاميّ"، برّرت في كثير من الدول الغربيّة، خطابًا سياسيًاّ وإعلاميًّا "إسلاموفوبي" متطرّفا، وممارسات اجتماعيّة معادية للإسلام والمسلمين.
شعر العالم بالقلق والخوف من هذا النزوع إلى استخدام القوّة وتعميمها في التعامل مع المشكلات الدوليّة وفي مواجهة تنظيمات ذات طبيعة دينيّة إسلاميّة. فدعت الأمم المتّحدة إلى اعتبار عام 2001 عامًا لحوار الحضارات، بناءً لطلب تقدّم به الرئيس الإيرانيّ محمّد خاتمي. ودَعت جامعة الدول العربيّة إلى إنشاء مفوضيّة خاصّة بحوار الحضارات والثقافات. وكان المقصود من هذه الدعوات رفض أحاديّة العنف والقوّة في حل المشكلات التي باتت مهيمنة على التفكير الأميركيّ بعد نهاية الحرب الباردة وبعد الاعتداءات في 11 أيلول/ سبتمبر2001.
وأشار أمين عام الأمم المتّحدة كوفي أنان بعد تلك الاعتداءات: "أنّ الحوار ليس فقط ردًا ضروريًاّ على الإرهاب، بل هو خصمه اللدود، فحيث يسعى الإرهاب إلى بثّ الفرقة بين بني البشر يهدف الحوار إلى توحيدنا، وحيث يستند الإرهاب إلى نظرة عدوانيّة تقوم على استبعاد الآخرين، يسعى الحوار إلى احتضان الآخرين، وإلى تقبّل الفكرة القائمة على أنّ امتلاك الحقيقة ليس حكرًا على أيّ جماعة دون غيرها، وحيث يسعى الإرهاب إلى جعل التنوّع مصدرًا للصراع، فإنّ الحوار بإمكانه أن يجعل هذا التنوّع ذاته مصدرًا أساسًا للارتقاء والنموّ. وعندما يتّخذ الحوار مكانه في كلّ جزء من العالم، فإنّ الدعوات للحرب سوف تواجه بالدعوات للاتّفاق، والكراهيّة سوف تواجه بالتسامح، والعنف سوف يواجه بالتسوية، فالحوار هو أفضل إجابة على أسوأ أعداء الإنسانيّة".
لكن رغبة أمين عام الأمم المتّحدة في جعل الحوار بديلاً عن الحروب لم تتحقق. فقد استمرّت الحروب وتصاعد العنف بعد 2001، واحتلّت الجيوش الأميركيّة أفغانستان والعراق، وسقط مئات آلاف الضحايا من المدنيّين الأبرياء جرّاء ذلك. وفي أثناء مقاومة ذلك الاحتلال قامت جماعات "جهاديّة" بتفجيرات دمويّة مريعة لم تميّز بين مسلمين ومسيحيّين، ولا بين عواصم عربيّة أو إسلاميّة أو غربيّة. ما أثار المخاوف من اتّساع رقعة الصدام الدينيّ والمذهبيّ، والحاجة في الوقت نفسه إلى التأكيد على منطق الحوار بين الأديان طالما أنّ الدّين قد استخدم كأحد أهمّ أبعاد هذا الصراع، وطالما أنّ أتباع الأديان هم من يدفعون ثمن هذه الحروب على الرّغم من أهدافها الاقتصاديّة والسياسيّة والاستراتيجيّة.
على الرّغم من هيمنة منطق الحرب واستخدام القوّة لفرض الحلول للمشكلات الدوليّة، لم تتوقف اللقاءات بين المرجعيّات المختلفة الفكريّة والدينيّة لبحث قضايا الحوار، وحل المشكلات ذات الطبيعة الدينيّة، أو حتّى غير الدينيّة. وقد تنادى كثيرون من علماء، ورجال دين، ومفكّرين من الطوائف كافّة، ومن مثقّفين وباحثين، ومن هيئات دينيّة ومدنيّة واجتماعيّة إلى عقد اللقاءات للبحث في كلّ ما له تأثير على الحوار بين الأديان على المستويات المعرفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والعلائقيّة واللاهوتيّة. وتشكّلت هيئات ومرجعيّات وجمعيّات ومنتديات لبحث قضايا الحوار بين الأديان مثل "اللجنة المصريّة للعدالة والسلام" لمناقشة الشأن القبطي، وهموم المواطنة. ومثل "الفريق العربيّ الإسلاميّ المسيحيّ للحوار"، الذي حرص مع مجلس كنائس الشرق الأوسط، على "أن يكون موضوع القدس نقطة انطلاق عمليّة يلتفّ حولها المجتمعون من الجانبين". وتصلح أن تكون عاملاً موحّدًا بين المسلمين والمسيحيّين، وتكوين جبهة لمواجهة الأخطار الإسرائيليّة. كما أكّدت أوراق عمل هذا الفريق، وورش العمل والندوات التي دعا إليها على "أنّ الموقف المسيحيّ والإسلاميّ لا يقبل أيّ نوع من أنواع التمييز بين الناس على أساس الأصول العرقيّة، ولا يقبل أن تعطي فئة دينيّة نفسها حقّ اغتصاب الأرض. ويرفض هذا الموقف التدخّل الأميركيّ في العالم، وفي العالم الإسلاميّ خصوصًا تحت مظلّة الدفاع عن الحريّة الدينيّة..."
حصلت في السنوات السابقة لقاءات على المستويات الدوليّة والإقليميّة، وفي عواصم عدّة، بين المرجعيّات الدينيّة لبحث قضايا الحوار بين الأديان. كما حصلت مثل هذه اللقاءات على المستوى المحلي في لبنان الذي يعتبر "مختبرًا خاصًّا ومتميّزًا ليس فقط للحوار، بل وللعلاقات والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيّين. وهذا ما يفسّر دعوة رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة "ميشال عون"، أن يكون لبنان مركزًا عالميًاّ لمثل هذا الحوار.
لقد تنوّعت أهداف هذه اللقاءات، فتوخّى بعضها من خلال القمم الروحيّة على سبيل المثال، أن يكتفي بالمشهد الإيجابيّ للتلاقي بين هذه المرجعيّات، وتوخّى بعضها الآخر أن يبرهن للآخرين أنّه يؤيّد التسامح والحوار في التعامل مع قضيّة خلافيّة محدّدة. في حين استهدف آخرون أن يبيّنوا أنّ اللقاء بين المرجعيّات الدينيّة، وليس العنف أو التطرّف، هو الذي يمكن أن يساهم في حلّ المشكلات السياسيّة. وقد تكون نادرة هي المرّات التي عقدت فيها ندوات أو مؤتمرات لبحث قضيّة الحوار من منظور بحثيّ، وعلميّ، وأكاديميّ.
تواجه مشاريع الحوار في أحيان كثيرة الاعتراض من اتجاهات مختلفة دينيّة وفكريّة وسياسيّة. كما تعرف هذه المشاريع بدورها مدًّا وجزرًا، فتتقدّم حينًا وتتراجع حينًا آخر لأسباب مختلفة. فيذهب البعض على سبيل المثال إلى نفي أيّ فائدة من هذه التجارب التي لم تنجح يومًا في وقف الاقتتال أو خفض حدّة الصراع، أو حتّى في تحقيق السلام بين الناس أو بين "المؤمنين". ولذا لا يتحمّس هؤلاء كثيرًا لفكرة الحوار. في حين يذهب آخرون إلى البعد العقائديّ اللاهوتيّ عند المسلمين والمسيحيّين فيستنتج استحالة التقريب بين الطرفين على هذا الصعيد. بينما يتذرّع البعض بالتأثير السياسيّ على أطراف الحوار، ومؤسّساته، بحيث يلبّي هذا الحوار حاجات سياسيّة لهذا الفريق أو ذاك أكثر ممّا يلبّي رغبة حقيقيّة في التعارف وقبول الاختلاف.
وتعتبر الصور النمطيّة السلبيّة المتبادلة من معوّقات الحوار، ومن معوّقات التقريب بين المتحاورين، مثل الصور العنصريّة الغربيّة عن الإسلام والمسلمين في الغرب، التي حملتها رؤى تاريخيّة استشراقيّة، وأعادتها إلى الأذهان جماعات تكفيريّة برّرت القتل والذبح باسم الدّين والإسلام. بحيث تحوّل أيّ عمل إرهابيّ، مهما كان فاعله، إلى اتّهام يتجاوز الفاعلين إلى الإسلام نفسه.
وكذلك مثل الصور السلبيّة التي ربطت المسيحيّة والمسيحيّين بالتآمر الغربيّ على الإسلام والمسلمين لاحتلال بلادهم. في حين أنّ الأهداف الحقيقيّة لذلك الاحتلال ولتلك الحروب لم تكن للتبشير الدينيّ أو لنشر المسيحيّة، بل كانت لأهداف سياسيّة واقتصاديّة واستراتيجيّة، قبل أيّ أهداف أخرى.
لقد حظي "الآخر" بالاهتمام على المستويات الفلسفيّة والاجتماعيّة والقانونيّة. لأنّ الآخر هو الغريب تارة، وهو العدوّ، وهو الجار والقريب، وهو المختلف، وقد يكون هو المرآة التي تعكس وجودي، وهو المجهول الذي يثير العداء ونتوجّس منه شرًّا فنبتعد عنه ونعاديه، لأنّ "الناس أعداء ما جهلوا".
ما يعني أنّ صورة الآخر هي أحد أهمّ معوّقات الحوار، وبالتالي يفترض أن تكون أحد أهمّ مكوّنات ثقافة هذا الحوار.
ما يجري اليوم في كثير من بلداننا العربيّة والإسلاميّة، وكذلك ما نشهده في العالم من انتشار ظواهر معادية للدين عمومًا، أو تمارس القتل وسفك الدماء باسم الدّين، بات يسيء إلى صورة الدّين نفسه ويثير القلق العميق على وحدة المجتمعات واستقرارها ومستقبلها.
وما يزيد من هذا القلق، ما نشهده من طموحات ورهانات دوليّة وإقليميّة على توظيف الجماعات المتطرّفة في حروب مذهبيّة ودينيّة من أجل التقسيم والتفتيت والهيمنة، بحيث قدّمت هذه الجماعات صورة مشوّهة عن الإسلام، الذي يبرر الذبح والحرق، والسبي، وقتل الأسرى... ما لم تجرؤ أيّ جهة أخرى في الغرب على فعله من خلال الرسوم الكاريكاتوريّة أو الأفلام السينمائيّة.
ساهم في توليد بيئة الكراهيّة والتعصّب ظاهرة "الإسلاموفوبيا" التي توسّعت في الغرب، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وأدّت إلى ممارسات ومواقف سلبيّة ضدّ الإسلام والمسلمين، والتي عبّرت عنها جمعيّات ومنظّمات وأحزاب في أكثر من بلد من البلدان الأوروبيّة. كما جعلت تلك الظاهرة اندماج المسلمين في المجتمعات الغربيّة أكثر صعوبة. والمشكلة مع "الإسلاموفوبيا" كظاهرة، أنّها تتراوح بين حدي التهديد والكراهيّة. فهي تعود بالذاكرة الغربيّة إلى التاريخ القديم، عندما وصلت جيوش المسلمين إلى تخوم "الحضارة الأوروبيّة".
ولا تزال كتب التاريخ الغربيّة، والأفلام السينمائيّة، والروايات، تستعيد تلك المرحلة من تاريخ الصدام الإسلاميّ-الأوروبيّ (المسيحيّ) وتستحضرها عندما يتعرّض الغربيّون لأيّ تهديد، أو لأيّ اعتداء أو تفجير، تنفّذه جماعات إسلاميّة متطرّفة. كما تتمّ استعادة ما كتبه المستشرقون عن الإسلام، وما أكدّ عليه فلاسفة معاصرون من "أنّ الإسلام لا يمكن أن يتكيّف مع النموّذج الحضاريّ الغربيّ، والحجاب تهديد للقيم المدرسيّة، ويتعارض مع العلمنة، والأقلّيات المسلمة لا تريد الاندماج في المجتمعات التي تعيش فيها في الغرب... "
إنّ قضيّة الحوار بين الأديان، والمقصود بين أتباع هذه الأديان الذين يعيشون معًا في مجتمعات مشتركة، لأنّ من الطبيعيّ أنّ الأديان ليست هي التي تتحاور بل البشر هم الذين يفعلون ذلك، تتأثّر بلا شكّ بعوامل كثيرة تؤثّر سلبًا أو إيجابًا على هذه القضيّة. ولذا يمكن أن نلاحظ أنّ الدعوات إلى الحوار واللقاءات على هذا المستوى تفاوتت بين مرحلة وأخرى. بحيث تحمّس لها البعض، وشدّد على أهميّتها حينًا (بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001) على سبيل المثال، أو تراجع وطوى صفحًا عنها (بعد الحروب الأميركيّة على أفغانستان والعراق).
كما كان من الطبيعيّ أن يتأثّر الحوار بالأوضاع السياسيّة في هذا البلد أو ذاك، فقد تحوّلت بعض الصراعات من البعد السياسيّ أو الاستراتيجيّ إلى البعد الدينيّ، بسبب الحاجة إلى إضفاء الطابع العقائدي على هذه الصراعات. لذا تصبح وظيفة الحوار في مثل هذه الحالة ضروريّة وملحّة، لعدم تحميل الدّين مسؤولية الحروب، وللتأكيد على الأهداف السياسيّة أو الاقتصاديّة أو الاستراتيجيّة للصراعات التي تدور اليوم.
لا يمكن أن نفصل الحوار كمشروع للتلاقي والتعارف عن الصورة التي يحملها كلّ طرف عن نفسه، والتي تشكّل الوجه الآخر لصورته عن الطرف المقابل. وقد تبيّن لنا في دراسة عن كتب التعليم الدينيّ في لبنان عند المسلمين والمسيحيّين أنّ صورة الذات هي التي تحضر في هذه الكتب، في حين تغيّب صورة الآخر تمامًا عن هذا المشهد التعليميّ. وإذا كان ثمّة جانب إيجابيّ هنا في عدم تقديم صورة الآخر بشكل سلبيّ، وفي حقّ كلّ طرف أن يقدّم نفسه كما يريد أن يكون، وأن نعرفه ونفهمه كما يشاء هو أن يعرف ويفهم، فإنّ الجانب السلبيّ في الوقت نفسه، هو في غياب صورة الآخر تمامًا في الوقت الذي يعيش فيه المسلمون والمسيحيّون معًا في مجتمع واحد، وفي مدارس وجامعات مشتركة، وفي إدارات حكوميّة واحدة. ما يعني أنّ أيّ حوار في إطار علميّ وأكاديميّ يفترض التعرّف على كيف يقدّم كلّ طرف من أطراف هذا الحوار صورته عن نفسه، وكيف يقدّم صورة الآخر في كلّ ما يشكّل الثقافة الدينيّة في المؤسّسات التبليغيّة، وفي الجمعيّات الأهليّة، وفي الحوزات والمدارس الدينيّة، وفي المناهج التعليميّة، وفي وسائل الإعلام وبرامجها التثقيفيّة.
ولا يمكن أن يبقى الحوار استجابة لحالة طارئة من التوتّر، أو الخوف من الانزلاق نحو الصدام، أو للتعامل فقط مع واقع ما بعد الحرب. فالحوار لكي يؤتي ثماره، يحتاج إلى مؤسّسات تلعب أدوارًا مهمّة ومباشرة في التأسيس لثقافة الحوار، لأنّ هذه الثقافة وللأسف، تكاد تكون مفقودة في مجتمعاتنا المتنوّعة دينيًاّ. لذا هي تحتاج إلى البناء من القواعد التي هي المؤسّسات التعليميّة والتربويّة والدينيّة والإعلاميّة. لأنّ المواقف المعادية للدين، أو للآخر الدينيّ، هي نتاج ثقافة. وما يرتكب من ممارسات، ومن سلوكيّات عنف وقتل باسم الدّين، هي أيضًا محصّلة ثقافة.
إنّ الثقافة بمعنى التصوّرات الذهنيّة، والأفكار التربويّة المرجعيّة، والممارسات المجتمعيّة، هي الأساس الذي يمكن أن يبنى عليه بشكل جدّيّ مشروع الحوار بين الأديان، هذا إذا كنّا نريد أن ننظر إلى هذا المشروع من منظور الرهان المستقبليّ على فاعليّته ونجاحه.
إنّ الدعوة إلى ثقافة الحوار تطمح أن يصبح هذا الحوار كمفهوم وممارسة، أحد المكوّنات الأساسيّة لشخصيّة الإنسان الفكريّة ولممارساته المجتمعيّة. لأنّنا نعتقد أنّ العلاقة مع الآخر والتعامل معه يجب أن تكون وفق القاعدة التي أرساها الإمام علي عليه السلام، وتبنّتها الأمم المتّحدة شرعةً لها: "الناس صنفان، إمّا أخٌ لك في الدّين أو نظيرٌ لك في الخلق".
وتستطيع الجامعة أن تلعب دورًا مهمًّا في تشكيل هذه الثقافة عند طلاّبها الذين يأتون إليها في مرحلة عمريّة مناسبة، حيث يتعرّفون على المفاهيم، والقيم، والنظريّات، والاتجاهات التي ستساهم في بنائهم المعرفيّ من جهة، وفي تكوين نظرتهم عن العالم من جهة ثانية. وتستطيع الجامعة، بسبب بنيتها الأكاديميّة، ودورها في نقل العلم وإنتاج المعرفة وخدمة المجتمع، أن تكون معنيّة أكاديميًّا وبحثيًّا، بقضايا الحوار الدينيّ، والمجتمع التعدّديّ، وصورة الآخر، والتعامل مع الاختلاف في مناهج التفكير، في مجتمع مثل المجتمع اللبنانيّ.
إنّ الرهان على هذه الرؤية المستقبليّة، وعلى أهمّية الثقافة التي يمكن أن تنقلها الجامعة إلى طلاّبها خاصّة، وإلى المجتمع عامّة، كانا الدافع إلى عقد هذا المؤتمر الذي نظّمته جامعة المعارف بالتعاون مع الجمعيّة اللبنانيّة لتقدّم العلوم (LAAS)، وإلى تسميته "نحو ثقافة الحوار بين الأديان" الذي تصدر أعماله في هذا الكتاب.
والله وليّ التّوفيق
منسّق المؤتمر
د. طلال عتريسي