كلمة المستشار العلميّ لمفتي الدّيار المصريّة
الشّيخ الدّكتور مجدي عاشور
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيّدنا رسول الله أشرف المرسلين، وعلى جميع الأنبيّاء والمرسلين، وعلى آل بيت النبيّ والصحابة أجمعين.
أشكر القائمين على هذا المؤتمر تحت رعاية فخامة الرئيس ميشال عون، وأشكر رئيس جامعة المعارف ورئيس الجمعيّة اللبنانيّة لتقدّم العلوم، ولكم جميعًا، وأنقل لكم تحيات فضيلة مفتي الديار المصريّة ودعاءه لهذا المؤتمر، ولكلّ ما فيه نفع للإنسان.
أوّلاً: نحن لا نريد حوارًا بين الأديان وإنّما نريد حوارًا بين أهل الأديان، لأنّ الأديان متواصلة ومتراكمة، من لدن سيّدنا آدم (ع) إلى سيّدنا محمّد (ص).
ثانياً: عند غياب الحوار بين أهل الأديان، وبين أهل الطوائف جميعًا ينتج لنا ما نحن فيه الآن، وهو إمّا ظهور الإلحاد وإمّا ظهور التطرّف والإرهاب، فهذا ناتج عن عدم الحوار بين المثقّفين وبين العلماء والمتخصّصين، نحن لا بدّ أن ننشئ هذا الحوار على مبادئ، هذه المبادئ تتّفق عليها جميع الأديان، من هذه المبادئ التي لا بدّ أن نظهرها للجميع، ولا يختلف عليها دينان، بل لا يختلف عليها عاقلان، وهي تنبثق من المعاملة التي وردت من سيرة رسول الله (ص) عندما دعا المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة إلى النجاشيّ، ليبيّن لنا ما هي القواسم المشتركة الكبرى بين الديانات السماويّة التي جاءت من لدن ربّ العزّة سبحانه وتعالى، مرورًا بالنماذج التي عاشها النبيّ (ص) في مكة وفي المدينة مع انفتاح الدولة، وثمّ مجيء وفد نصارى نجران، ولم يجدوا مكانًا يصلّون فيه فقال (ص): "إذا لم يجدوا مكانًا فأفسحوا لهم مكانًا في مسجد رسول الله (ص)، يصلّون فيه".
بين هذين الحدثين، مع العلاقات الدوليّة التي كان يقيمها رسول الله (ص) من خلال الوفود والرسائل والكتب، نستطيع أن نتكلّم عن حوار يقوم على أسس.
أوّل هذه الأسس هو تحديد المفاهيم، لأنّ اختلال المفاهيم، واجتزاء المفاهيم، أحدث نوعًا من اختلال هذه المفاهيم من الجماعات الإرهابيّة المتطرّفة، ففرغّوها عن معناها الصحيح وأوجدوا لها معاني لا تمتّ للدين بصلة أو ليس بينها وبين الأديان كلّها صلة، إذًا تحديد المفاهيم هو ما ينبغي أن نقِيَم عليه من دراسات وبحوث.
الشيء الثاني هو أهمّية إبراز إنسانيّة الأديان، إنّ الأديان جميعًا جاءت لهذا الإنسان وخدمته، إذ لولا الإنسان ما كانت الأديان، ولولا المكلّف ما كان التكليف، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾.
الأمر الذي بعد ذلك، أو النقطة الثالثة أنّ الأديان تدعو إلى صناعة الحياة وليس إلى صناعة الموت، والنبيّ (ص) بيّن لنا هذا وبيّن قِيَمة الحياة، فقال (ص) "إذا قامت القيامة، وفي يد أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليغرسها"، حتّى إذا شاهد علامات يوم القيامة، وأتاه هذا الشيء الداهم، أمرنا رسول الله (ص) بالحياة حتّى مع علامات الموت.
ومن أجل ذلك جاء القرآن الكريم ليبيّن قِيَمة الحياة، وأنّ الإنسان ليس مطالبًا بحماية نفسه فحسب، بل النفس الكلّيّة، ﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، لذلك فالأديان تدعو إلى صناعة الحياة.
الأمر الرابع، لا بدّ أن نحدّد أنّ التديّن ليس هو الدّين، الدّين علم، الدّين رحمة، الدّين حكمة، الدّين نفع، التديّن سلوك، تطبيق، ممارسة، لذلك لا نؤاخذ الإسلام بفعل المسلمين، ولا المسيحيّة بفعل المسيحيّين، ولا بأيّ طائفة أخرى، فينبغي أن نعلّم هذه القاعدة، إنّ التديّن ليس هو الدّين، إذا عرفنا ذلك عرفنا ما يفعله الإرهابيّون من قتل وتقتيل وغدر، في كلّ أماكن من البقعة العربيّة الإسلاميّة.
الأمر الخامس، لا بدّ أن تتعاون المؤسّسات جميعًا، وعلى رأسها المؤسّسات الدّينيّة بمختلف أطيافها، وأيضًا الأطياف الإسلاميّة والفرق فيها إن جاز التعبير بكلمة فرق، وإنّما نقول فئات أو أطياف، ووزارات الإعلام والثّقافة والجامعات، أن تتعاون على إبراز أنّ الأديان ما جاءت إلا لإظهار الأخلاق بعد العبوديّة لله عزّ وجلّ، وارتباط العبادات بمنظومة القِيَم والأخلاق، عندنا في الإسلام ﴿... وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ...﴾فمن لم تنتج صلاته خلقًا فلا صلاة له كما قال رسول الله (ص): "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا" فلا بدّ من الاهتمام بمنظومة الأخلاق والتي هي القاسم المشترك بعد توحيد الله عزّ وجلّ، للأديان السماويّة، خاصّة الإسلام والمسيحيّة.
الأمر السادس، ينبغي أن نحذّر من خطر تقديم المصلحة على القِيَم والمبادئ، القِيَم والمبادئ هي الأصول المشتركة بين الأديان وبين بني الإنسان فإذا قدّمنا المصلحة عليها صار ما نحن فيه، ﴿قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.
النقطة الأخيرة، إنّ الإسلام جاء ليبيّن أنّ وحدة الأمّة قبل وحدة الملّة، يعني لا بدّ أن نوحّد طوائف الشعب على مصالح مشتركة ومبادئ عامّة وقِيَم هي ثابتة في كلّ عقل قبل أن تكون في كلّ دين، وحرص الإسلام على إبراز هذه القيمة من وحدة الأمّة قبل وحدة الملّة، والنماذج التي ذكرتها من حياة سيّدنا رسول الله (ص) تبيّن كيف كان يتعايش مع الكافر، على حدّ هذا التعبير، وكيف كان يتعايش مع المنافق، وكيف كان يتعايش مع غير المسلم، وكيف كان يتعايش مع العصاة، وهذه النماذج يجب أن تعمّم، كي نعلم أنّ وحدة الأمّة قبل وحدة الملّة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ. ..﴾.
أخيراً نقول لا بدّ من الحوار بين أهل الأديان بما فيه نفع الناس، سيّدنا النبيّ (ص) بيّن لنا القاعدة العامّة، عندما سئل من خير الناس يا رسول الله، ما قال المسلمون أو غيرهم، وإنّما قال أنفعهم للناس، حيثما كنت نافعًا فأنت إنسان وأنت مخيّر ومفضّل.
نسأل لكم القبول، ونتمنّى لكم التوفيق والنجاح