كلمة رئيس المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى
نائب الرّئيس الشّيخ علي الخطيب
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالميّن وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أنبيّاء الله المرسلين، ولا سيّما إبراهيم وموسى وعيسى الذين بعثوا مبشريّن ومنذرين ليهدوا الناس الحقّ ويرسوا بينهم أسس العدل والسلام.
فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ممثّلاً بالوزير الأستاذ بيار رفّول، رئيس مجلس النوّاب ممثّلاً بسعادة النائب الدّكتور قاسم هاشم، رؤساء الطوائف الروحيّة اللبنانيّة بممثّليهم أصحاب الدعوة السادة الحضور، أنقل إليكم تحيّات سماحة الإمام الشّيخ عبد الأمير قبلان ودعاءه لكم بالتوفيق في هذا المؤتمر للوصول إلى النتائج المرجوّة إن شاء الله.
ابتداءً وانطلاقًا من عنوان المؤتمر "ثقافة الحوار بين الأديان" أسجّل بعض النقاط.
أوّلاً: إنّ الأديان السماويّة من وجهة نظر إسلاميّة هي واحدة في مبادئها العامّة، وإنّما الاختلاف هو في التفاصيل التي اقتضتها الظروف، التي اكتنفت نزول كلّ واحد منها، لذلك فإنّ الإيمان بالإسلام لا يتحقّق إلا بالإيمان بسائر الأنبيّاء، والرسل السابقين ورسالتهم وكتبهم، قال تعالى: ﴿... آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النبيّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
ثانياً: إنّ الحوار هو مبدأ من مبادئ الدّين الحنيف: ﴿قُل يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾
ثالثاً: إنّ الحوار يقتضي الاعتراف بالآخر والقبول به كما هو.
رابعاً: إنّ الحوار لا يعني في النتيجة فرض الرأي على الآخر ﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ﴾
خامساً: إنّ الحوار لا يعني الحوار العقائديّ والوصول إلى صحّة أو بطلان ما يعتقده الآخر. ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُل يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ، لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُم دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾
سادساً: إنّ الإسلام يعترف كما اصطلح عليه التعبير القرآنيّ بأهل الكتاب، وهم أهل الديانات السماويّة بخصوصيّتهم العقائديّة، وحرّية ممارستهم الدّينيّة.
سابعاً: الإسلام يدعو إلى حسن الجوار والتعايش مع الآخر قال تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ ، وقد يتساءل عن استخدام هذه الصيغة القرآنيّة بنفي الله تعالى نهي المسلمين عن حسن التعامل واتّباع القسط مع الآخرين الذين لم يقاتلوا المسلمين، والجواب أنّ الفهم العامّ عند المسلمين في ذلك الوقت أنّ الإسلام يمنعهم من التعامل بالبرّ والإنصاف مع الآخر فجاء هذا النصّ القرآنيّ ليدفع الوهم.
ثامناً: إنّ الإسلام لا يكون بالفرض والإكراه وإنّما بالقناعة التامّة، انطلاقًا من تمتّع الإنسان بالحرّية التامّة التي تتيح له التفكير في جوّ من الانفتاح على الآخر، كما لا يكون بالتقليد الأعمى وقد استنكر الله تعالى على هؤلاء بقوله سبحانه: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾
تاسعاً: إنّ الإسلام يدعو إلى الإنصاف والعدل ويرفض الظلم والعدوان ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾، ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾، ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ وعن أمير المؤمنين عليّ(ع): "وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ (عن المال) قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ اَلإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ".
وقد بكى عليه السلام، حينما هوجمت بعض أطراف العراق (الأنبار) واعتدي على بعض النساء المعاهدات، قال: "وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ، قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ البَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ وَالأُخْرَى المُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاسْتِرْحَامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلا مِنْهُمْ كَلمٌ وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَل كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً"
وأقتصر على هذه النقاط لأقول:
أوّلاً: إنّ المسلمين في المرحلة الأولى من الناحية العمليّة مارسوا هذه المبادئ فلم يتعاطوا مع أهل الكتاب إلا بهذا البعد، وخصوصًا مع المسيحيّين منهم، لذلك كانت أوّل هجرة للمسلمين بعد أن أوذوا وحوصروا إلى الحبشة، حيث قال رسول الله (ص) لهم عن النجاشي ملك الحبشة: أنّه ملك لا يظلم عنده أحد، وقد عاش هؤلاء المسلمون المهاجرون تحت حمايته ورعايته، يمارسون دينهم وعباداتهم بكلّ حرّية.
ثانياً: لم يحصل في العصر الأوّل للإسلام أي صدام مع النصارى في الجزيرة العربيّة.
ثالثًا: إنّ العلاقة بين الإسلام والمسيحيّة قامت على أسس الحوار ﴿... فَقُل تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل...﴾[11] بسبب تكذيب نصارى نجران للرّسول، فكانت الدعوة إلى المباهلة وليس لشهر السلاح والقتال.
رابعاً: ينتج عن كلّ ذلك أنّ ما حصل بعد ذلك من حروب وصراعات كانت بين المسلمين والمسيحيّين لا بين الإسلام والمسيحيّة، فالإسلام لا يتحمّل أخطاء معتنقيه، والمسيحيّة كذلك.
خامسًا: يلحق بذلك حملات التشويه التي طالت نبيّ الإسلام (ص) وعقيدته وشريعته والتزوير الذي لحق به تاريخيًّا من كُتّاب مغرضين مدفوعيّ الأجر أو حاقدين مغرضين.
وبناء عليه فإنّ الحروب المسمّاة زورًا بالحروب الدّينيّة ما هي إلا حروب منظّمة ومصالح قيّدت باسم الدّين، ورفع فيها سيف الدّين مسّلطًا على الآخرين، لما للدّين في نفوس الناس من تأثير وسيطرة تستطيع هذه الأنظمة وأصحاب هذه المصالح من خلال استخدامها، إلهاب نفوس الجماهير حتّى يسهل قيادتها إلى المحرقة التي أشعل وقودها أولئك الظالمون، إنّ استغلال الدّين لم يقتصر على جرّ أصحاب ديانة على مواجهة أصحاب ديانة أخرى، بل تعدّى إلى أصحاب الديانة الواحدة، فاستُخدمت المذهبيّة في تأجيج الصراع للوصول إلى مصالح دول عالميّة وإقليميّة، كما هو حاصل في شرقنا العربيّ والإسلاميّ للأسف.
وقد هُيّئ لهذه الفتن والحروب على مدى زمنيّ ليس بالقصير وأُعدّت الخطط وخصوصًا من قوى التسلّط الدوليّ، تارة باسم حقوق الأقليّات بتأليب المجتمعات العربيّة والإسلاميّة على بعضها وأخرى باسم الديمقراطيّة وحقوق الشّعوب في الحرّية والاستقلال، ساعدهم على ذلك الجهل والتعصّب الأعمى، والحقد بخلفيّات تاريخيّة من بعض الاتّجاهات الفكريّة التي لا تعدو كونها صنيعة قوى الهيمنة والتسلّط الدوليّ، مبنيّة على طموحات وآمال واهية وواهمة لم ينتج عنها سوى الخراب والدمار وتفكيك المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، والتخلّف الاجتماعيّ والاقتصادي والعلميّ الذي أرجع مجتمعاتنا عشرات السنين إلى الوراء، وهي بحاجة إلى أضعافها لترميم هذا التصدّع في جسم أمّتنا وشعوبها.
وأخطرها هذه اللوثة الفكريّة والتي أصيبت فيها أمّتنا والمسمّاة بالإرهاب، واندفعت بعض هذه الجماعات وبمساعدة المخابرات الدوليّة إلى الفتك السريع بأبناء جلدتها، وبني دينها وقومها ما لم نسمع له مثيلاً في تاريخ البشريّة على ما مرّ فيه من جرائم بشعة يندى لها جبين الإنسانيّة، وأتساءل هل كلّ هذا يقع بدافع الانتقام من هذه الأمّة التي أعطت للإنسانيّة كثيرًا، وساهمت في بناء الحضارة مساهمة فعّالة سجّلها لها التاريخ.
أعتقد بعد هذا أنّنا بحاجة إلى مصارحة أهل الأديان بعض للبعض الآخر ولسنا بحاجة إلى حوار الأديان، لأنّ الأديان متصالحة مع نفسها، لأنّ الدّين عند الله واحد، إنّ الحوار الذي نحن بحاجة إليه هو الحوار الذي عنوانه ما هي الأسس التي يجب أن تحكم عيشنا، وما هي القواسم المشتركة والقواعد التي من الممكن أن نتوصّل إليها لنبني حضارة الإنسان وسلام الإنسان وحرّية الإنسان وكرامة الإنسان.
ولذلك أدعو إلى حوار أوسع من الحوار الدّينيّ، إلى حوار يتّسع للحياة، إنّ البشريّة تستصرخ اليوم الدّين، وأعني بالخصوص الإسلام والمسيحيّة، للقيام بمشروع حضاريّ مشترك، يخرجها من الهوّة العميقة التي وقعت فيها وسقطت معها كلّ ادّعاءات المناهج الماديّة، إلى مشروع حضاريّ مشترك يعيد الأمل إلى بني البشر بحياة ملؤها المحبّة والسعادة والسلام ويخرجها من حياة الشقاء.
ولا بدّ لي هنا أن أشير إلى أنموذج الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وتجربتها الفريدة في الشرق، وتأكيدًا على ما قاله الرئيس نبيّه برّي في مهرجان الإمام الصدر.
أخيراً أرجو لكم في مؤتمركم التوفيق والشكر لمن رعى وأعدّ ودعا وكتب في هذا السبيل وآخر دعوانا أنّ الحمد لله ربّ العالميّن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته