كلمة رئيس جامعة الزيتونة – تونس
الدّكتور هشام قريسة
بسم الله الرحمن الرحيم، أيّها الجمع الكريم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اسمحوا لي أن أتقدّم إليكم بتحيّة صادقة من البلاد التونسيّة، وكذلك بتحيّة خالصة من جامعتها العريقة، جامعة الزيتونة، التي عرفت بسماحتها وفكرها المستنير اخترت في هذه الكلّمة أن أتحدّث عن لزوم التعارف والتعايش لتحقيق مهمّة الاستخلاف في الأرض، لم يكن للإنسان منذ بدء الخليقة مهمّة أعظم من تعمير الأرض، واستلزم الأمر في أصل تكوين فطرته، مدّه بمؤهّلات بدنيّة وعقليّة ونفسيّة كافية للقيام بهذه المهمّة وهي الاستخلاف في الأرض لأجل العمارة على مقتضى حكمة الله عزّ وجلّ، ثم زوّد هذا الإنسان المؤتمن على ما سُخّر له في الحياة الدنيا، برسالات سماويّة تكوّن له مخططًا يسير على منواله، ويهتدي به، فإنّ المكلّف به يحتاج في إقامة أركانه إلى اجتماع النوع البشريّ بكافّة أطيافه وأجناسه، ولذلك كان من مقاصد الأديان التواصل بين الناس وإقامة المواثيق الاجتماعيّة وإرساء نوع من الأمان الدّينيّ، لتتمكّن هذه الطوائف من التواصل المفضي إلى اختيار الأصلح من النظم الاجتماعيّة التي تساعد على تحقيق ما سمّاه ابن خلدون في مقدّمته بالعمران البشريّ.
هذا المقصد الأسمى من الخلق، والذي هو التعارف أكّده القرآن الكريم، في ذات العبارة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، وقد هيّأ الإنسان بطبعه أن يكون مدنيّا حتّى يحقّق هذا التعارف بتلاقيه مع الآخر، على أساس تعاقد اجتماعيّ يضبط مقومات هذه الوحدة المجتمعيّة التي تحصل بها عمارة الأرض، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى بعد كلّ ما هيّأه للإنسان وأمدّه من قدرات ليقوم بمهمّة التعمير، أخذ عليه ميثاق الإصلاح، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ﴾. والميثاق شامل لكلّ ما يحقّق العبوديّة لله، ويرفعه إلى مصاف المصلحين، وينأى به عن مسالك المفسدين، السّاعين إلى قطع أواصل التراحّم والتعاون بين الناس، إنّ أرقى ما في صفات الإنسان ذاك السعي الدؤوب إلى نفع الآخرين وتحقيق الخير لهم ودرء الفساد الواقع أو المتوقّع عنهم، لأنّ ذلك من بركات التحمّل الصادق للأمانة. قال عليه (ص): "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده"، وفي رواية "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمّنه الناس على دمائهم وأموالهم"، ولما كان الإفساد معطّلاً لمهمّة الاستخلاف مخرّبًا لعمليّة الإصلاح في الأرض ضكّ الله تعالى الفساد وشنّع على مرتكبيه وبيّن سوء عاقبتهم، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ﴾.
إنّ كلّ فساد أحدثه الإنسان على وجه الأرض هو عصيان صارخ منه في الائتمار لأمر ربّه، ومخافة حكمته، قال تعالى: ﴿... وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾ ولا شكّ أنّ كلّ وجوه العمل الصالح من فعل الخيرات وتجنّب المنكرات والسعي في كلّ ما يحقّق التواصل والتعارف بين الناس هي من مهمّة الاستخلاف، قال النبي (ص): "لا تزال الأمّة على الشريعة ما لم يظهر فيها ثلاث، ما لم يقبض العلم منهم، ويكثر فيهم ولد الحنث، ويظهر فيهم الصقّارون، قالوا وما الصقّارون يا رسول الله قال بشر يكون في آخر الزمان تحيّتهم بينهم التّلاعن".
إنّ قيام الحياة الإنسانيّة على ميثاق التعايش السلمي، والتعاقد الاجتماعيّ، في نظام قانوني يكفل حرّية التديّن، ويربط واجبات مختلف الأطراف السياسيّة والجماعات الدّينيّة وكذلك حقوقهم ويدير شؤونهم سلطة سياسيّة تنفيذيّة واحدة، وتتأسس مصالحهم على الانتّفاع المشترك والعادل بخيرات البلاد التي يستظلّون بوحدتها وتضامنها وأمنها، وقد بيّن النبيّ (ص) من خلال الحديث السابق الذكر، أنّ الأمّة تبقى على منهج قويم من الدّين، وعلى وحدة تضامنيّة اجتماعيّة، حتّى تظهر علامات ثلاث تكون مؤذّنة بانحلالها واضطرابها وفساد أمرها، الأولى تفشّي الجهل بعد رفع العلم، وفي هذا إشارة إلى فساد الجانب الثّقافيّ في الأمّة، الثانية كثرة الأبناء الناشئين في غير الإطار الشرعي للأسرة الذين لم تضبط أنسابهم ولم تعرف أصولهم وفي هذا إشارة إلى انهيار البناء الأسريّ في الأمّة، الثالثة كثرة اللّعن والتفسيق والتلاسن بالألقاب في الأمّة، وهذا مؤذٍ في تصدّع البناء الاجتماعيّ، وعندما تجتمع هذه الأمور الثلاثة تحيد الأمّة عن سَنَن الدّين، ويكون هذا مؤدّيًا إلى وقوع الفتن فيها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.