كلمة غبطة بطريرك أنطاكيّة وسائر المشرق ورئيس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك
راعي أبرشيّة البترون المطران منير خير الله
فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ممثّلاً بالصديق الدّكتور بيار رفّول، دولة رئيس مجلس النوّاب، أيّها الأصدقاء والأحباء.
شرّفني صاحب الغبطة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكيّة وسائر المشرق ورئيس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان أن أمثّله في مؤتمر "نحو ثقافة الحوار بين أبناء الديانات"، فالحوار بين الناس، فالأديان لا تتحاور، الذي تقيمه جامعة المعارف، والجمعيّة اللبنانيّة لتقدّم العلوم، يسرّني أن ألقي باسم صاحب الغبطة كلمة في هذا المؤتمر، الذي يهدف إلى تعزيز ثقافة الحوار، عبر العودة إلى جذورنا الروحيّة والتاريخيّة وإلى تجديد العهد بالعيش معًا مسيحيّين ومسلمين في لبنان، والمنطقة العربيّة، إنّه إرث عريق تسلّمناه من آبائنا وأجدادنا، وهو يجمعنا في قِيَم الانفتاح والاحترام المتبادل والحوار الصادق، والعيش معًا بأخوة وسلام، من هنا كانت الدعوة إلى هذا المؤتمر.
إنّه مؤتمر دينيّ لا سياسيّ، ينبغي التعمّق في الحوار، حوار الدّين وحوار الحياة، لكي يقول كلّ واحد منّا كلمته فيما يجمعنا مسلمين ومسيحيّين، ويعطي رأيه في مسيرة الحوار الذي نتمنّى أن يؤدّي إلى قناعات مشتركة، فنعمل معًا على تنشئة أولادنا وشبابنا، على التحاور فيها بانفتاح واحترام وعلى تبنّيها ثوابت يسيرون بموجبها للحفاظ على لبنان الوطن الرسالة، والنموذج في العيش المسيحيّ الإسلاميّ، وعلى عيشنا في المنطقة.
في عصر العولمة وسهولة التواصل، ونموّ العلاقات بين الشّعوب، تجتهد الكنيسة جسدُ السيد المسيح السريّ، في أن تتفحص بانتباه بالغ ما هي علاقتها بالديانات غير المسيحيّة، وتعتبر أنّه في نطاق مهمّتها ورسالتها التي تقوم على تعزيز الوحدة والمحبّة بين الناس، لا بل بين الأمم، عليها أن تدرس أوّلاً ما هو مشترك بين الناس، ويقودهم إلى مصير واحد، هكذا يقدّم المجمع الفاتيكاني الثاني تعليمه حول علاقة الكنيسة بالديانات الأخرى.
أمّا من ناحية الديانة الإسلاميّة فيقول المجمع: إنّ الكنيسة تنظر بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحي القيّوم الرحمن الرحيم، ضابط الكلّ، خالق السماء والأرض، المكلِّم للبشر، ويجتهدون بأن يخضعوا بكليّتهم لأوامر الله الخفيّة، كما يخضع له إبراهيم الذي يسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلاميّ، وأنّهم يجلّون يسوع كنبيّ، وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرّمون مريم أمّه العذراء، كما أنّهم يدعونها أحياناً بتقوى، علاوة على ذلك إنّهم ينتظرون يوم الدّين عندما يثيب الله كلّ البشر القائمين من الموت، ويعتبرون أيضاً الحياة الأخلاقيّة ويؤدّون العبادة لله، ولا سيّما بالصلاة والزكاة والصوم، وإذا كانت قد نشأت على مرّ القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين فالمجمع المقدّس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي، وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معًا العدالة الاجتماعيّة، والقِيَم الأخلاقيّة والسلام والحرّية لفائدة جميع الناس.
يبيّن هذا النصّ أنّ ما هو مشترك بين المسيحيّة والإسلام ذو أهمّية كبرى، ويجدر بنا أن نعلنه على الملأ، وأن نقتنع به وأن نعمل على عيشه، وبخاصّة في هذه الأيّام التي يريد بعض العالم أن يظهر الإسلام بمظهر الإرهاب والعنف والكراهيّة، وإذا كان هناك من منازعات وعداوات في المسار التاريخي، فعلينا اليوم أن نعيد قراءتها بأذهان منفتحة وأن ننقّي الذاكرة، ونطلب المغفرة وننطلق معًا لبناء عالم جديد، يليق بالإنسان وبحريّته وكرامته هذا ما علمته كنيستنا المارونيّة وما عاشته على مرّ الأجيال في الانخراط منذ البداية مع المسلمين، فأوّل من كتب تاريخنا كان البطريرك إسطفان دويهي، في القرن السابع عشر، الذي أخذ في كتابته التزامن المارونيّ الإسلاميّ باعتبار فائق، كما يقول العلاّمة يواكيم مبارك، ووضع في المسيرة الإسلاميّة أو على هامشها كلّ ما يتعلّق بأمور الكنيسة المارونيّة بنوع أنّ التاريخين الإسلاميّ والماروني يصبحان عنده تاريخًا واحدًا، وعندما نقرأ في ما يقوله الدويهي عن نبيّ الإسلام، نرى أنّه لا يذمّ محمّدا أو يقبّحه، بل يتبنّى خلاصة ما وجده في كتب السيرة والطبقات المتوارثة إسلاميّا وكذلك ما يتعلّق بالخلفاء والوزراء ومن يذكرهم التاريخ الإسلاميّ، فهو يقبّحهم عندما يستحقون التقبيح من مؤرّخيهم، ويذكّرهم بالخير وأحيانًا بالإعجاب في بعض الأحيان عندما يستحقّون ذلك.
تعلّمنا كنيستنا المارونيّة في المجمع البطريركي الماروني، أنّ نظرة صافية في حاضر العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة، والمارونيّة الإسلاميّة، ومستقبلها تلزمنا القيام بقراءة متأنيّة وصريحة لخبرة الماضي الماروني الإسلاميّ في الشرق الإنطاكي، والهدف الأوّل من هذه القراءة هو الوصول إلى تنقية حقيقيّة للذاكرات والضمائر عبر النقد الذاتيّ والتماس المغفرة من الآخر عند حصول انتهاكات للأفراد والجماعات، وذلك بغية إقصاء كلّ حقد مترسّب من موروث الماضي، إن في نفوس الأفراد أو الوجدان الجماعيّ، ويقدّم لنا البطريرك الدويهي أنموذجًا في هذا المجال عبر القراءة الرصينة والموضوعيّة لجزء من تاريخنا في علاقته بالتاريخ الإسلاميّ، ويذكّرنا القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني، في إرشاده الرسوليّ "رجاء جديد للبنان" بهذا الماضي، ويدعونا إلى الحوار قائلاً: عاش المسيحيّون والمسلمون في لبنان جنبًا إلى جنب طوال قرون مديدة، حينًا في سلم وتعاون، وحينًا في صراع ونزاع، فعليهم أن يجدوا في حوار يراعي مشاعر الأفراد والجماعات المتعدّدة سبيلاً لا بدّ منه للعيش المشترك وبناء المجتمع.