كلمة شيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز
الشّيخ غسّان حلبي
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة ممثّلي الرؤساء الأفاضل، الحفل الكريم، تحيّة سماحة شيخ العقل الشّيخ نعيم حسن إليكم، وإلى منظّمي المؤتمر.
وضعت عنوانًا للكلّمة "الشجاعة في ثقافة الحوار"، يعطي المؤتمر انطباعًا أوّليًّا متأتّيًا من عنوانه "ثقافة الحوار"، محور ثقافة الحوار أنّ المسألة هي القصد إلى الشيء واقتفاء أثره، وبالنتيجة استدراك الأمر نظرًا لما يشهده عالم اليوم من ممارسات، والمراد المستنتج من مواضيع محاور اللقاء المقرّرة تؤكّد هذا الأمر، هي تُجمع على البحث في الكيفيّات والمعوّقات والمؤسّسات ومستقبل الحوار وثقافته، والمنظّمون يدركون كما يتبيّن من ديباجة الدعوة، أنّ هذه الثّقافة تكاد تكون معدومة في المؤسّسات التعليميّة والدّينيّة والاجتماعيّة وسواها من المؤسّسات والهيئات ذات التأثير على تشكّل ثقافة الإنسان ونظرته إلى الآخر، ويعبّرون بوضوح عن طموحهم أن يصبح هذا الحوار كمفهوم وممارسة أحد المكوّنات الأساسيّة لشخصيّة الإنسان الفكريّة، وممارساته المجتمعيّة.
ترقى مسألة ثقافة الحوار إلى مستوى الضرورة الملحّة قياسًا إلى ما تصطدم به مجتمعاتنا أو بالأحرى بما هي مبتلية به، من نزوع نحو اختلاق مفهوم للجهاد واستخدام العنف تحت رايته بمنهج دفع مؤسّسة كالأزهر معروفة التاريخ، إلى الدعوة تكرارًا إلى القيام بمواجهة علميّة للأفكار المنحرفة والمفاهيم الخاطئة، والعمل الدؤوب على تصحيحها عبر عقد مؤتمرات متتابعة لمعالجة مواضيع بالغة الدلالة في هذا السيّاق، مثل تصحيح المفاهيم وتحريرها، والمواطنة والعيش المشترك ودور المؤسّسات الدّينيّة في مكافحة الإرهاب، إلخ...
إنّ التطرّف في دفع دلالات الإيمان الدّينيّ نحو إعدام الآخر فكريّا، تمهيدًا لتصفيته جسديًّا، هو أمر يناقض السلوك الحضاريّ الذي يتبصّره المؤمن في لطائف المعاني التي يكتنزها كتاب الله العزيز، والنأي بمزاج تكفيريّ لا يتورّع عن اتّخاذ الإرهاب دينًا، النأي عن كلّ المفاهيم السياسيّة والدّينيّة الاجتماعيّة التي تجد لها مسوّغات فقهيّة أصوليّة للتعاطي مع عالمنا المعاصر بشجاعة، لهو نهج مناف لحقيقة الرسالة الإلهيّة في مقاصدها السامية، وإذا انتفى القصد السليم التبست صدور الجاهلين به ﴿... وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ كما يقول القرآن الكريم.
إنّ تضارب المصالح الكبرى في عالمنا المعاصر فاق بوتيرة متجاوزة كلّ الحدود إشكاليّة الإرهاب، الذي بات كما تعلّمنا اللغة العربيّة مصطلحًا من الأضداد، بمعنى أنّ كُثُرًا من الضالعين في الصراع يستخدمه في وجه الآخر، ما يعنينا هو استفراد الإسلام بهذه المأثمة، من حيث أنّ طرائق تلقينه تُفضي إلى هذه البلوى، كما يقولون، وهنا تكمن الأهمّية الفائقة للعمل الجدّي المحْكم كما يجب أن يكون في موضوع ثقافة الحوار، ولا أقول بين الأديان، بل بين البشر الذين يؤمنون بالثمرات الطيّبة للرسالات السماويّة.
التعصّب والمغالاة ونبذ الآخر والتمترس خلف أسوار المونولوج، الذي يعني حرفيًّا خطاب المتكلّم لنفسه من نفسه، والحوار هو في كلّ حال ديالوج، أي الخطاب بين النفس والآخر بين الأنا ونظيرها، كقول الإمام علي عليه السلام: "... وإمّا نظير لك في الخلق"، أي شبيهها ومساويها ومثلها، ويتبيّن من استعراض عناوين البحوث التي ستتلى في هذا المؤتمر أنّ العديد من مكامن المشاكل الأساسيّة قد أخذت بالحسبان، وأنّ العديد من المشاركين هم من دول عرفت المعاناة المأساويّة من جرّاء العنف الإرهابيّ الشنيع، فضلاً عن دول ضليعة في سبر أغوار مشاكل مجتمعها المتنوّعة، وهذا كلّه يفترض أن تثمر هذه الجهود ليس فقط علمًا بالأوضاع المعقّدة المتشابكة بل وهو الأهمّ كشف سبل متابعة الحوار وتوليد ديناميّات طاقات المضيّ به قدمًا في منهجيّة خصبة تخدم الصالح الوطنيّ العامّ، ولا بدّ حاضرًا أو لاحقًا من النظر في تراكم لبنانيّ ثمين في قضيّة الحوار، خصوصًا منذ انبثاق الروح الميثاقيّة في هذا البلد، التي وإن كانت بشكل أو بآخر نتيجة إرادة سياسيّة، ولكنّها بالتأكيد وضعت أساسًا دستوريًّا لمفهوم العيش معًا، والذي يفترض بالضرورة نهج الحوار من كلّ الوجوه، هذا مكّن القادة الروحيّين من الاتّفاق الدائم على ثوابت وطنيّة، وعزّز الحركة في المجتمع المدنيّ لبذل الجهود المتتابعة للحوار الإسلاميّ المسيحيّ، دون أن ننسى أنّ لبنان لم يفتقد منذ الاستقلال كبار الرجال في المستوى الوطنيّ الذين بدوا في مقارباتهم عابرين لطوائفهم نحو فسحة إنسانيّة مشتركة خبرها وطننا في سنوات لم يكن في عين الصراعات الدوليّة، ويبدو أنّه سيكون من الجديّة التفكير ببناء الجسور الفكريّة بين العاملين المؤمنين بثقافة الحوار في كلّ المستويّات والشجاع من يبني الجسور التي يصل بها الآخر، هذا من شأنه أن يعزّز من ديناميّات الفعل، ويثري شبكات التواصل ويولد أبعادًا إضافيّة للمنظور المعتمد لدى كلّ مشارك والأهمّ هو الدفع من الحقل الخاصّ للرؤية الحواريّة إلى الحقل العامّ لها، ليس لفصلها بل لتوطيد جدواها التي تتطلّبها طبيعتها وماهيّتها (طبيعة الرؤية الحواريّة)، من حيث هي النزوع نحو المدى الإنسانيّ المشترك الذي جمع أبناء آدم، من نفس واحدة كما جاء في الكتاب الكريم: ﴿مَّا خَلقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته