الأزهر الشّريف وثقافة الحوار "تجارب عمليّة"
الدّكتور محمّد علّوش
يعود تاريخ نشأة الجامع الأزهر إلى عهد الفاطميين، في عهد الخليفة المعّز لدين الله الذي وضع أسس الجامع سنة 359هـ / 970م. وقد سمّي بالجامع الأزهر نسبة إلى السيّدة فاطمة الزهراء. ثمّ في سنة 378هـ / 988م. قرّر الخليفة العزيز بالله تحويل الأزهر الشريف إلى جامعة تدرّس فيها العلوم الدينيّة والعقليّة. وقد خصّص الخلفاء الفاطميّون موارد للإنفاق على الأزهر، وأوقفوا عليه الأحباس وزوّدوه بالمراجع والكتب.
وقد توقفت الصلاة وخطبة الجمعة في الأزهر خلال حكم صلاح الدين الأيوبي (1137 – 1193م) الذي قضى على الدولة الفاطميّة سنة 1171م. واستمرّ الأمر على هذا الحال حتّى دخل عهد السلطان الظاهر بيبرس (حكم 1260 – 1277م). فأعاد الخطبة للجامع الأزهر. وقد تلاشى دور الأزهر واضمحلّت الحركة العلميّة فيه لاسيّما مع خطّة الأيوبيين بنشر المدارس السنّيّة من حوله.
وقد ساعدت نظم الحكم السائدة في مصر أيّام المماليك والعثمانيين على استعادة الأزهر لدوره التاريخيّ وعلى ظهور زعامته سنّيًّا.
وكان للاستقلال المالي للأزهر وغنى أوقافه بالغ الأثر في ابتعاد علماء الأزهر ومشيخته عن ظلّ السلطان وحرّيّة اتّخاذ الموقف الشرعي المناسب البعيد عن هوى السلطة ورغباته. وكان له أثر في النقد والمعارضة لعلمائه طالما اطمئنّوا أنّ مواقفهم السياسيّة المعارضة للسلطان لن تجور عليهم بقطع لقمة عيشهم.
ونتيجة ضيق المستعمر خلال الاحتلال البريطاني لمصر بموقف الأزهر المعارض والمحرّض على الانتفاضة والثورة ضدّه، فقد لجأ إلى تجفيف منابع تمويله وحصر نفقاته وموارده الماليّة بإخضاعه إلى جهة حكوميّة في الإدارة المصريّة.
ومنذ عام 1915م لجأت الحكومة المصريّة الخاضعة لتوجّهات الاحتلال إلى حيلة المساعدة الماليّة للأزهر وعلمائه بما يسدّ الحاجة التي تعجز أوقافه عن تعويضها أي تقديم خمسة آلاف جنيه مصري سنويًّا مقابل ثلاثة آلاف كانت حصيلة أوقافه السنويّة على أن تضع الحكومة المصريّة يدها على إدارة الأوقاف وضبط ميزانيّتها. الأمر الذي أثّر على حرّيّة الأزهر واستقلاله السياسيّ وأخضعه رويدًا رويدًا للتوجّهات السياسيّة الحاكمة.
وما أن تهاوت مشاريع الإصلاح والتجديد في النصف الأوّل من القرن العشرين حتّى دخل الأزهر طور الحيرة والتردّد، مثلما عانى من التقلّبات العديدة التي شهدتها المنطقة العربيّة والإسلاميّة. وكان هذا جزءًا من المناخ العامّ الذي هيمن على مصر بصفة خاصّة منذ انقلاب تمّوز(يوليو) 1952م أو ما يعرف بثورة الضبّاط الأحرار، وما تبعه من تجفيف منابع التعدّديّة السياسيّة والدينيّة، وهيمنة حركات الإسلام السياسيّ على المجال العامّ بالتوافق مع الأنظمة السياسيّة.
تمّ «تأميم» الأزهر بقانون صدر تحت حكم جمال عبد الناصر عام 1961م أصبح بمقتضاه «يتبع رياسة الجمهوريّة» (مادة 2)، وأصبح شيخ الأزهر موظّفًا يختاره رئيس الجمهوريّة من دون ترشيح من داخل المؤسّسة (مادة 5). وبالتزامن مع ذلك سلب الأزهر أوقافه التي كفلت استقلاله وأقحمت فيه كلّيّات «حديثة» فانتقل من كيان مستقلّ صغير نسبيًّا متخصّص في علوم الشريعة وما يخدمها، ومن دون فلسفة إدماج واضحة، إلى جامعة حكوميّة تخرّج إلى جانب الفقيه المعمّم الطبيب والمهندس والمحاسب الذي درس مقدّمات العلوم الشرعيّة في المعاهد الأزهريّة (ما قبل الجامعيّة).
في السبعينات من القرن الماضي تزامن التوسّع في التعليم الأزهريّ مع استخدام الرئيس أنور السادات الدين أساسًا لشرعيّته، ملقّبًا نفسه بالرئيس المؤمن وواصفًا مشروعه بـ «دولة العلم والإيمان» ومتحالفًا مع تيّارات الإسلام السياسي لضرب اليسار. بعد ثورة يناير 2011م، أصدر المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة الذي حكم البلاد عام 2012م قانونًا أعاد بموجبه للأزهر حقّ انتخاب لجنة كبار العلماء التي عاد من حقّها انتخاب شيخ الأزهر. كما أعاد القانون إلى الأزهر حقّ إدارة شؤونه، وأكّد على استقلاليّته التي ألغاها قانون 1961م. بدوره سعى الأزهر بعد الثورة المصريّة إلى "الاستفادة من الوضعيّة الجديدة لتجذير دوره القيادي؛ وذلك بانتزاع صفة الوسطيّة عن حركات الإسلام السياسي، وتجسيدها تجسيدًا وطنيًّا يحظى بمقبوليّة واسعة".
منطلقات الأزهر والمحاور الضابطة للحوار لم تنطلق رؤية الأزهر الشريف في الحوار مع الآخر عامّة من قاعدة المخالِف في الدين بل من قاعدة المشترك الإنساني مع الآخر لتقريب أو إدارة ما هو مختلف عليه في سبيل تعزيز المشتركات الإنسانيّة، وليس تبيين التمايزات بين المختلفين في الأديان السماويّة. وتماشيًّا مع هذه المقاربة فقد حكمت رؤية الأزهر في الحوار مع الآخر في الوطن الواحد قاعدة الشراكة الإنسانيّة تليها الشراكة الوطنيّة التي تساوي نظريًّا ودستوريًّا بين أفراد الوطن الواحد في الحقوق والواجبات دون الاعتبار للمعتقد أو العرق أو اللغة.
وخلافًا لكثير من المؤسّسات الدينيّة الرسميّة والخاصّة على المستوى الإسلامي، فإنّ الأزهر الشريف تحكمه منذ نشأة الدولة الحديثة رؤية ثابتة، تجاه مفاهيم الحكم والدولة وإدارة المجتمع، هي بلا شكّ متقدّمة في أطروحتها على ما تلاه من مؤسّسات وما انتهت إليه مراجعات كثير من الجماعات والحركات والرؤى الفكريّة لعدد من المفكّرين المسلمين. إذ تبنّى الأزهر القول والعمل في إطار الدولة الوطنيّة الجامعة، وما تتضمّنه الرؤية من اعتراف بعقد اجتماعيّ بين الحاكم والمحكوم. وتبنّى إلى جانب ذلك المفاهيم مثل الاعتراف بالديمقراطيّة والاحتكام إلى الأكثريّة في الانتخابات، ورفض إلى جانب ذلك القول بوجود أقلّيّات دينيّة أو عرقيّة داخل الوطن الواحد بل ألزم نفسه بالحديث عن المواطن والوطن فقط حين يتمّ تناول الأطياف التي تتشكّل منها المجتمعات العربيّة.
ومن المعلوم أنّ الأزهر عبر تاريخه تقريبا يتبنّى خطًّا اعتداليًّا في فهم الإسلام وتبنّيه وفي طرحه على المستوى العالميّ وهو لا يعاني مشاكل البتّة في قضايا تشغل حركات الإسلام السياسي والتيّارات الجهاديّة العالميّة مثل قضايا الحكم بالإسلام والجاهليّة ومفاهيم الديمقراطيّة والوطنيّة والمواطنة والحرابة والقصاص والتمييز على أسس دينيّة وأهل الذمّة والدولة القطريّة. فقد تجاوز الأزهر الشريف هذه القضايا قبل عقود من انشغال حركات الإسلام السياسي بها. ولولا أنّ تدخّلاً سياسيًّا فجًّا يطال الأزهر ويعرقل سلوكه ويحدّ من إبداعه ونشاطه لما كان حال المسلمين اليوم على ما هم عليه.
ومع تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا وتزايد العمليّات الإرهابيّة في الداخل المصري وعجز النظام السياسي عن مواجهة الإرهاب منفردا، وجد الأزهر نفسه معنيًّا جدًّا باستعادة دور الإسلام المختطف من قبل جماعات العنف والتطرّف والتشدّد الدينيّ وطرح سماحة الإسلام.
يقول محمود حمدي زقزوق، رئيس مركز الحوار بالأزهر: "إنَّ التنوّع هو قانون الوجود، والحوار ينبغي أن يكون هو اللغة المشتركة التي تسود بين البشر ليزول الالتباس والخلاف، والأديان قادرة على تجاوز تلك الخلافات بسماحتها".
أنّ أهمّيّة الخطوات التي يجريها الأزهر حاليًّا أنّها تأتي بالتزامن مع تصاعد موجات العنف والتطرّف والإرهاب وتفشّي ظاهرة الطائفيّة والمذهبيّة داخل المجتمعات المسلمة نفسها.
يرى محمّد عبد الفضيل، منسّق عام مرصد الأزهر الشريف، أنّ هناك محدّدات تضبط الحوار الديني من وجهة نظر الأزهر الشريف. حيث ينطلق الأخير من مقاربة شاملة لتفعيل ثقافة الحوار وتطويرها من خلال:
أوّلاً: سرعة تجديد الخطاب الديني وتطويره قبل أن يصبح مفهومًا مستهلكًا كما استُهلكت مفاهيم كثيرة أخرى من كثرة استخدامها دون تأثير حقيقي واقعي، ويؤمن الأزهر بأنّ التجديد يجب أن يضمن عدم رفع راية الوصاية الدينيّة على حساب التوعية الدينية والتعليم الديني، والأزهر يقوم في أدبيّاته الحديثة بما يمكن أن نطلق عليه ترميم البنية التحتيّة للمفاهيم التي يتمّ استغلالها من المتطرّفين، ويقوم إلى جانب ذلك بترسيخ المفاهيم الحديثة التي تحثّ على الإيمان بالتعدّديّة والحوار والتسامح والمواطنة.
ثانيًّا: إعلاء قيمة الإنسان وترسيخها في عمق إيمان المجتمع المتديّن، والتأكيد – عند التعامل والتلاقي المجتمعيّ – على الانطلاق من الإنسان كونه مخلوقًا من الله وليس انطلاقًا من دينه أو طائفته أو لونه أو لغته، بما يضمن ترسيخ حقيقة إلهيّة مفادها أنّه لا وصيّة لأحد على أحد، وليس أحد في حماية أحد أو في ذمّته، وما إلى ذلك من مفاهيم إقصائيّة مرفوضة.
ثالثًا: إعلاء قيمة الهويّة العربيّة والثقافة الشرقيّة بما في ذلك التركيز على قيمة الوطن وما فيه من تعدّد وتداخل ثقافيّ كبير بين الطوائف الدينيّة، الوطن الذي يعبّر عنه القرآن بكلمة "الدار". قال تعالى: "والذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم".
وقوله تعالى: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا".
هذه الهويّة أو الوطن تحمل من التنوّع والتعدّد والثقافات ما ينبغي أن يفهم على أنّه سنّة وآية تصنع "الأمل" في التعايش السلميّ وليس "الألم" بسبب العيش مع الآخر المختلف.
الإدارات المعنيّة بنشر ثقافة الحوار ومكافحة التطرّف اضطلع الأزهر الشريف منذ تأسيسه بأدوار دينيّة وثقافيّة وسياسيّة ليس في تاريخ مصر فحسب، بل في تاريخ الأمّتين الإسلاميّة والعربيّة. يطرح الأزهر نفسه مشيخة ومؤسّسات، المرجعيّة العليا للمسلمين لاسيّما اتّباع المذاهب السنّيّة على الصعيد العالمي. وهو يجهد في سبيل نشر ما يراها "التعاليم الصحيحة للدّين الإسلامي"، وتفنيد ما علق به من أفكار مغلوطة، وذلك عبر مسارات متعدّدة، سنتناولها بشيء من التفصيل في هذا البحث، لاسيّما تلك المرتبطة بالتواصل مع مختلف المؤسّسات الفكريّة والدينيّة الدوليّة من أجل نشر ثقافة الحوار والدفع قدمًا بجهود التصدّي للتعصّب والعنف والتطرّف، وتأكيد أهمّيّة احترام التعدّديّة الدينيّة والمذهبيّة والفكريّة.
يتكوّن الأزهر الشريف حاليًّا من أربعة قطاعات كبرى، قطاع جامعة الأزهر، وقطاع المعاهد الأزهريّة، وقطاع مجمع البحوث الإسلاميّة، ومشيخة الأزهر الشريف، ويتعلّم في الأزهر ما يقرب من مليوني طالب وطالبة من المصريّين، وما يقرب من أربعين ألف دارس أجنبيّ من أكثر من مائة دولة.
ومنذ عام 2010 م قامت مؤسّسة الأزهر باستحداث إدارات أو مراكز تعنى بشأن الخطاب الديني وتطويره، حيث أسّست خمس مراكز أو إدارات تتبع مشيخة الأزهر، وهي "بيت العائلة المصريّة"، "مركز الحوار"، "مرصد الأزهر باللغات الأجنبيّة"، "مركز الفتوى الإلكتروني"، "مركز الترجمة". وتقوم تلك الإدارات بأنشطة وفاعليّات مكثّفة على المستوى المصري والإقليمي والدولي في مجال الحوار وترسيخ مفاهيم التعدّديّة والتسامح والتماسك الاجتماعيّ.
بيت العائلة المصريّة
نشأ بيت العائلة المصريّة في قلب مشيخة الأزهر بدعوة من شيخ الأزهر عقب الاعتداء على كنيسة القدّيسين بالإسكندريّة وكنائس أخرى في عام 2011 م. وقد استجابت لهذه الدعوة الكنائس المصريّة. ويتناوب على رئاسته منذ تأسيسه شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الأرثوذكسيّة. وقد لعبت مؤسّسة بيت العائلة المصريّة برئاسة شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الأرثوذكسيّة من خلال لجانها وفي مقدّمتها لجان الشباب والمرأة والتعليم "بتوعيّة الشعب المصري في التقريب بين وجهات النظر الإسلاميّة والمسيحيّة، وفي تأهيل وتدريب شباب الدعاة والقساوسة، وفي فضّ النزاعات التي تنشأ بين مختلف الطوائف".
ومن أهمّ إنجازات بيت العائلة خارج حدود مصر تمكّن الوفد الذي أرسله شيخ الأزهر، استجابة لطلب من رئيسة أفريقيا الوسطى السابقة من تحقيق مصالحة تاريخيّة بين الفرقاء هناك، كما جمع الأزهر الشريف تحت مظلّته وبالتنسيق مع مجلس حكماء المسلمين الفرقاء في ميانمار من المسيحيّين والبوذيّين والمسلمين لأوّل مرّة في القاهرة، وقد اتّفق المجتمعون على مواصلة الجهود حتّى تحقيق المصالحة بإذن الله على غرار مصالحة فرقاء أفريقيا الوسطى.
وسبق لوكيل الأزهر الشريف، د. عباس شومان أن دعا اللبنانيين إلى تبنّي فكرة إنشاء «بيت العائلة اللبنانيّة» على غرار «بيت العائلة المصريّة»، "لتتعدّد التجربة حتّى نرى بيت العائلة العربيّة والشرق أوسطيّة وربّما القاريّة والعالميّة".
مركز الحوار
يقوم مركز الحوار بدور كبير في فعاليّات الحوار الديني سواء بالتنظيم أو المشاركة، والنماذج كثيرة سواء على مستوى الكنيسة المصريّة أو مجلس كنائس الشرق الأوسط أو مجلس الكنائس العالمي أو الفاتيكان، وشيخ الأزهر بدأ حوارًا بين الشرق والغرب في فلورنسا العامّ الماضي، وهو حوار قائم ومستمرّ.
مرصد الأزهر الشريف باللغات الأجنبيّة
مرصد الأزهر الشريف باللغات الأجنبيّة هو فرع جديد من أفرع مؤسّسات الأزهر حيث أنشئ في الثالث من شهر يونيو/حزيران 2015 م تحت ضغط الظروف والمستجدّات التي تطال الإسلام والمسلمين. وهو مركز متخصّص يحتوي عددًا من الخلايا التي تعمل على مدار الساعة في رصد وتجميع وتحليل كلّ ما تبثّه التنظيمات المتطرّفة، ويتابع كلّ ما ينشر عن الإسلام والمسلمين في العالم على مواقع الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعيّ ومراكز الدراسات والأبحاث المعنيّة بالتطرّف والإرهاب ودراسة أحوال المسلمين والقنوات التليفزيونيّة وإصدارات الصحف والمجلاّت باللغة العربيّة وثمان لغات أجنبيّة حيّة، لنشر صحيح الدين من وجهة نظر الأزهر، وحثّ المسلمين في الغرب على الاندماج في مجتمعاتهم واحترام قوانين البلاد التي يعيشون فيها.
وقد وصف شيخ الأزهر أحمد الطيّب "مرصد الأزهر باللغات الأجنبيّة" بأنّه "عين الأزهر الناظرة على العالم"، لاسيّما وأنّه يعمل بثمان لغات أجنبيّة حيّة يقوم من خلالها بمتابعة ما يحدث في العالم من مستجدّات وقضايا يعمل على رصدها وتحليلها والردّ عليها بموضوعيّة وحياديّة لنشر الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام ووسطيّته ومن ثمّ مجابهة الفكر المنحرف والمتطرّف وتفكيكه.
ويشارك المرصد بأعضائه وتقاريره المختلفة في العديد من المؤتمرات الدوليّة التي تناقش قضايا الإسلام والإرهاب وعلاقة المسلم بغير المسلم وتعزيز قيم التسامح والرحمة والعيش المشترك وتعزيز المجتمعات المتماسكة ومناهضة الإسلاموفوبيا ومساعدة الأقليّات المسلمة على الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها مع المحافظة على هويّتهم والمساعدة على تقديم الحلول الشرعيّة والفقهيّة والعمليّة للقضايا التي يواجهونها، ويفتح المرصد أبوابه للتعاون مع المؤسّسات المعنيّة بنشر ثقافة السلام ومكافحة الكراهيّة ودعم التعدّديّة والتشجيع على تأسيس مجتمعات آمنة تنعم بالرخاء والأمن والسلام.
وثائق الأزهر ما بعد ثورة يناير
شهد الأزهر الشريف حلقات عدّة من القلق، بعضها ظهرت مع الدعوات إلى الخروج على التقليد، وفتح باب الاجتهاد، دونما تقيّد بأيّ مذهب، بحجّة أنّ التقليد تجمَّد، وأنّ الصوفيّة فسدت، كما أنّ العقيدة الأشعريّة السائدة في الإسلام السنّي، ما عادت ملائمة للرؤى الجديدة للدين وللعالم. وبعضها أتى من حركات الإسلام السياسي أو ما يسمّيه رضوان السيّد "الإحيائيّات" التي أضافت إلى التحدّيات السابقة أنواعًا جديدة مرتبطة بالشرعيّة مثل شرعيّة المجتمع والدولة. وهو قلق ناجم عن المفهوم الجديد للدين ولعلاقاته بالدولة.
وقد دفعت هذه التحدّيات لاسيّما منذ اندلاع الثورة المصريّة في 25 يناير 2011م الأزهر الشريف إلى إصدار خمس وثائق سنتناول البعض منها في هذه الدراسة.
ويخلص محمّد الحدّاد أستاذ كرسي اليونيسكو للأديان المقارنة في دراسة مستفيضة لهذه الوثائق أنّ الأزهر سعى لاستثمار الوضعين السياسيّ والاجتماعيّ من أجل تأكيد مرجعيّته العليا للإسلام في مصر وخارجها، وانتزاع صفة الوسطيّة عن حركات الإسلام السياسي.
يؤكّد السيّد أنّ الوثائق التي صدرت عقب الثورة من قبل مؤسّسة الأزهر أكّدت على تشبّع مؤسّسة الأزهر بالروح الإصلاحيّة والنهضويّة من جهة، وبروح التقليد العريق الذي لا يهتزّ ولا يخشى اتّخاذ الموقف الجريء مهما كانت المحاذير من جهة أخرى. وقد حرص الأزهر عبر وثائقه أن يعمل على حفظ وصون الدين من التهميش أو التوظيف السياسي.
-
وثيقة «مستقبل مصر في الفترة القادمة»
في يونيو/حزيران 2011م أصدر الأزهر وثيقة حول «مستقبل مصر في الفترة القادمة» دعا فيها إلى تأسيس دولة وطنيّة دستوريّة ديمقراطيّة حديثة تؤمن بالحرّيّات العامّة والخاصّة وتقوم على الالتزام بالمواثيق والأعراف الدوليّة. كما حثّ السلطة السياسيّة على منح الأزهر استقلاليّته التامّة عن السلطة للقيام بدوره والاعتراف له بحقّ تمثيل المرجعيّة العليا للإسلام وللمذاهب السنّيّة. ومن أبرز ما جاء في الوثيقة:
- تأييد مشروع استقلال مؤسّسة الأزهر، وعودة "هيئة كبار العلماء" واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر، والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهريّ؛ ليستردّ دوره الفكري الأصيل، وتأثيره العالمي في مختلف الأنحاء.
- اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصّة التي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهيّة والفكريّة الحديثة، مع عدم مصادرة حقّ الجميع في إبداء الرأي متى تحقّقت فيه الشروط العلميّة اللازمة، وبشرط الالتزام بآداب الحوار، واحترام ما توافق عليه علماء الأمّة.
- دعم تأسيس الدولة الوطنيّة الدستوريّة الديمقراطيّة الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمّة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسّساتها القانونيّة الحاكمة.
- اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحرّ المباشر، الذي هو الصيغةَ العصريّة لتحقيق مبادئ الشورى الإسلاميّة ويحدّد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكلّ أفرادها على قدم المساواة.
- أن تكون المبادئ الكلّيّة للشريعة الإسلاميّة هي المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماويّة الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينيّة في قضايا الأحوال الشخصيّة.
- الالتزام بمنظومة الحرّيّات الأساسيّة في الفكر والرأي، والتأكيد على مبدأ التعدّديّة واحترام الأديان السماويّة، واعتبار المواطنة مناط المسؤوليّة في المجتمع. والاحترام التامّ لآداب الاختلاف وأخلاقيّات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين.
- تأكيد الحماية التامّة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماويّة الثلاث، وضمان الممارسة الحرّة لجميع الشعائر الدينيّة دون أيّة مُعوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها.
وبناءً على قراءته لوثيقة الأزهر حول مستقبل مصر، يرى محمّد السمّاك أمين عام لجنة الحوار الإسلامي – المسيحي، أنّها قدّمت الضمانة في حقوق أتباع الديانات الأخرى في الاحتكام إلى شرائعهم الدينيّة، وفي ذلك تلاقٍ مع «الإرشاد الرسولي» الذي أعلنه البابا بنديكتوس السادس عشر من لبنان بعد السينودس حول الشرق الأوسط عام 2010م، الذي عقد برئاسته في الفاتيكان، والذي أكّد الحرّيّة الدينيّة للمسيحيّين
-
بيان "منظومة الحرّيّات الأساسيّة"
أصدر الأزهر الشريف بيانًا في يناير 2012م تحت عنوان "منظومة الحرّيّات الأساسيّة"، استجابة للظروف التي طرأت على مصر بعد ثورة يناير 2011م. وقد جاء البيان على شكل وثيقة تحدّد طبيعة الحرّيّات وتؤصّل لها شرعيًّا وتبيّن ما فيها من حقوق وما يترتّب عليها من واجبات بين المجتمع والدولة. وتتلخّص بنود الوثيقة فيما يلي:
تُعتَبر حرّيّة العقيدة، وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامَّة في الحقوق والواجبات حجرَ الزاوية في البناء المجتمعيّ الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينيّة القطعيّة، وصريح الأصول الدستوريّة والقانونيّة؛
إذ يقول المولى عزّ وجل: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ ويقول: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَليُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَليَكْفُرْ﴾ ويترتَّب على ذلك تجريمُ أيِّ مظهرٍ للإكراه في الدِّين، أو الاضّطهاد أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أنْ يعتنقَ من الأفكار ما يشاء، دون أنْ يمسَّ حقَّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماويّة؛ فللأديان الإلهيّة الثلاثة قداستها، وللأفراد حرّيّة إقامة شعائرها دون عُدوان على مشاعرِ بعضهم أو مَساسٍ بحرمتها قولاً أو فعلاً، ودون إخلالٍ بالنظام العامّ.
يترتَّب على حقِّ حرّيّة الاعتقاد التسليمُ بمشروعيّة التعدُّد، ورعاية حقّ الاختلاف، ووجوب مراعاة كلِّ مواطن مشاعرَ الآخرين، والمساواة بينهم على أساسٍ مَتِينٍ من المواطنة والشَّراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات.
يترتَّب على احترام حرّيّة الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجّهات التي تُدِينُ عقائدَ الآخَرين، ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد؛ بناءً على ما استقرَّ بين علماء المسلمين من أحكامٍ صريحة قاطعة قرَّرتها الشريعة السَّمحاء في الأثر النبوي الشريف: "هلا شَققتَ عن قلبه"، والتي قرَّرَها إمام أهل المدينة المنوَّرة الإمام مالك والأئمّة الآخرون بقوله: "إذا صدَر قولٌ من قائل يحتملُ الكفرَ من مائة وجهٍ ويحتمل الإيمانَ من وجهٍ واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يجوز حَمْلُه على الكفر".
حرّيّة الرأي هي أمُّ الحرّيّات كلّها، وتتجلَّى في التعبير عن الرأي تعبيرًا حرًّا بمختلف وسائل التعبير؛ من كتابةٍ وخطابة وإنتاج فنّيّ وتواصُل رقميّ، وهي مظهر الحرّيّات الاجتماعيّة التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرَهم؛ مثل تكوين الأحزاب ومنظَّمات المجتمع المدنيّ، كما تشمل حرّيّة الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحرّيّة الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي، ولا بُدَّ أنْ تكونَ مكفولة بالنصوص الدستوريّة لتسمو على القوانين العاديّة القابلة للتغيير.
حرّيّة الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديموقراطيّة، وعلى العاملين في مجال الخطاب الدِّيني والثقافيّ والسياسيّ في وسائل الإعلام مُراعاة هذا البُعد المهمّ في ممارساتهم، وتوخِّي الحكمة في تكوين رأيٍ عام يتَّسم بالتسامح وسعة الأفق، ويحتكم للحوار ونبذ التعصُّب، وينبغي لتحقيق ذلك استحضارُ التقاليد الحضاريّة للفكر الإسلامي السمح الذي كان يقول فيه أكابر أئمّة الاجتهاد: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب"؛ ومن ثمَّ فلا سبيلَ لتحصين حرّيّة الرأي سوى مُقارعة الحجَّة بالحجَّة طبقًا لآداب الحوار، وما استقرَّت عليه الأعراف الحضاريّة في المجتمعات الراقية.
- إعلان الأزهر للمُواطَنةِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ
أصدر الأزهر الشريف، 1 مارس/آذار 2017م إعلانًا يحدّد أطرًا للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيّين في الدول العربيّة، ويؤكّد مبدأ المواطنة، ويندّد بالعنف والتمييز والازدراء. وتلا شيخ الأزهر، أحمد الطيّب، الإعلان الذي يتضمّن 6 بنود في ختام مؤتمر نظمه الأزهر ومجلس حكماء المسلمين بالقاهرة على مدى يومين، تحت عنوان "الحرّيّة والمواطَنة. التنوّع والتكامل". وشارك في المؤتمر وفود من أكثر من 50 دولة، بينهم رؤساء الكنائس الشرقيّة وعلماء ورجال دين ومفكّرون وسياسيّون مسلمون ومسيحيّون من مختلف المذاهب والطوائف.
ومن أبرز ما جاء في وثيقة الأزهر في إعلانه للمواطنة والعيش المشترك الذي ألقاه شيخ الأزهر الشريف ما يلي:
مصطلح "المواطنة" هو مصطلحٌ أصيل في الإسلام شعَّت أنوارُه الأولى من دستور المدينة المنوّرة، وما تلاه من كُتُبٍ وعُهودٍ لنبيِّ الله (ص) يُحدِّدُ فيها علاقةَ المسلمين بغير المسلمين، ويُبادر الإعلان إلى تأكيدِ أنَّ المواطنة ليست حلاّ مستوردًا، وإنَّما هو استدعاءٌ لأوّل ممارسةٍ إسلاميّة لنظام الحُكمِ طبَّقَه النبيُّ (ص) وفي أوَّلِ مجتمعٍ إسلاميٍّ أسَّسَه، هو دولة المدينة.
وثيقة المدينة لم تتضمَّن أيَّ قدرٍ من التفرقة أو الإقصاء لأيِّ فئة من فئات المجتمع آنذاك، وإنّما تضمَّنت سياسات تقومُ على التعدُّديّة الدِّينيّة والعِرقيّة والاجتماعيّة، وهي تَعدُّديّة لا يُمكن أن تعمل إلاّ في إطار المواطنة الكاملة والمساواة، ذلك أنَّ الفئات الاجتماعيّة المختلفة دِينًا وعِرقًا هم "أمَّةٌ واحدةٌ من دُون الناس"، وأنَّ غير المسلمين لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
تبنِّي مفاهيم المواطنة والمساواة والحقوق يَستَلزِمُ بالضرورة إدانةَ التصرُّفات التي تتعارَضُ ومبدأ المواطنة من مُمارساتٍ لا تُقِرُّها شريعةُ الإسلام. وإنّ أوّل عواملِ التماسُكِ وتعزيزِ الإرادة المشتركة يَتمثَّلُ في الدولة الوطنيّة الدستوريّة القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وحُكم القانون.
المجتمعات العربيّة والإسلاميّة تمتلكُ تراثًا عريقًا في ممارسة العيش المشترك في المجتمع الواحد. وعلى المثقّفين والمفكِّرين أن يتنبهوا لخطورة المضيِّ في استخدام مصطلح "الأقلّيّات"، الذي يحمل في طيّاته معاني التمييز والانفصال بداعي التأكيد على الحقوق
المؤتمر يؤسّس لشراكةٍ متجدّدة أو عقدٍ مستأنَفٍ بين المواطنين العرب كافَّةً، مسلمين ومسيحيّين وغيرهم من ذوي الانتماءات الأُخرى، يقوم على التفاهم والاعتراف المتبادَل والمواطنة والحرّيّة والشراكة الكاملة بين أبناء الوطن الواحد. فقد ضرب رسولُ الله (ص) مثلاً للشَّراكة الكاملة والعقدِ القائم الجماعةَ الواحدةَ على السفينةِ الواحدةِ ذاتِ الطابقين؛ فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فوقَهم، فقال بعضُهم: "لو أنَّا خرَقْنا في نصيبِنا خَرْقًا ولم نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنا"، وقد عَقَّبَ رسولُ الله (ص)على ذلك بقولِه: "فإنْ تركوهم وما أرادوا هلَكُوا وهلَكُوا جميعًا، وإن أخَذُوا على أيدِيهم نَجَوْا ونجَوْا جميعًا".
المجتمعون من المسيحيّين والمسلمين في مؤتمر الأزهر يُعلِنون أنّ الأديان كلّها بَراءٌ من الإرهاب بشتّى صوره، وهم يدينونه أشدّ الإدانة ويستنكرونه أشدّ الاستنكار. وهم يُجدِّدون عهود أُخوتِهم، ورفضهم أيّة محاولات من شأنها التفرقة بينهم، وإظهار أنّ المسيحيّين مُستَهدَفُون في أوطانهم.
المسلمون والمسيحيون محتاجون للمزيد من المراجعات من أجل التجديد والتطوير في ثقافتنا وممارسات مؤسّساتنا. وقد كان من ضِمن المراجعات توثيقُ التواصل بين المؤسّسات الدينيّة في العالم العربي وفي العالم الأوسع؛ فقد أقمنا علاقاتٍ مع حاضرة الفاتيكان، وأسقفيّة كانتربري، ومجلس الكنائس العالمي، وغيرها. وإنَّنا لنَتَطلَّعُ إلى إقامة المزيد من صلات التعاون بين سائر المؤسّسات الدينيّة والثقافيّة والإعلاميّة في العالم العربي؛ من أجل العمل معًا في مجالات الإرشاد والتربية الدينيّة والأخلاقيّة، والتنشئة على المواطنة، وتطوير علاقات التفاهم مع المؤسّسات الدينيّة العربيّة والعالميّة؛ ترسيخًا للحوار الإسلاميّ المسيحيّ وحوار الحضارات.
خطوات عمليّة في سبيل تعزيز الحوار ومكافحة التطرّف والعنف إلى جانب ما سبق، فقد اتّخذ الأزهر الشريف عددًا من الخطوات في سبيل تعزيز الحوار ومكافحة التطرّف من خلال تنظيم المؤتمرات والندوات وعقد الشراكات مع المؤسّسات الإقليميّة والدوليّة المعنيّة بالحوار بين الثقافات ومكافحة التعصّب والتطرّف، وإعداد الدراسات، والمقرّرات الدراسيّة التي تدعم وجهة نظر الأزهر الشريف في تفسير الإسلام ونشر الوسطيّة.
مقترح مشروع قانون مكافحة الكراهيّة والعنف باسم الدين
تقدّم الأزهر الشريف إلى الدولة المصريّة بمشروع قانون لمكافحة الكراهيّة والعنف باسم الدين، حيث نصّت المادة الثالثة من مقترح القانون على أنّه لا يجوز الاحتجاج بحرّيّة الرأي والتعبير أو النقد أو حرّيّة الإعلام أو النشر أو الإبداع للإتيان بأيّ قول أو عمل ينطوي على ما يخالف أحكام هذا القانون.
والمادّة السادسة نصّت على عدم جواز طرح المسائل العقائديّة محلّ الخلاف أو التعارض العلنيّ في وسائل الإعلام على نحو يدفع المؤمنين بها للتصادم أو العنف.
في حين حظّرت المادّة السابعة المساس بالذات الإلهيّة أو الأنبياء أو الرسل أو التحريض أو التعدّي على أيّ من الكتب السماويّة بأيّ وسيلة من وسائل العلانيّة والنشر.
كما حظّر المقترح في المادّة الثامنة نشر أيّ موادّ إعلاميّة إذا كان نشرها يؤدّي إلى الحضّ على الكراهيّة أو زيادتها أو تأكيدها أو تعميقها.
ودعت المادّة العاشرة إلى نشر ثقافة التسامح والإخاء واحترام عقيدة الآخر والمواطنة وآداب الاختلاف ونبذ الكراهيّة والعنف والتعصّب والتمييز على أساس الدين.
-
إعداد مقرّر دراسي لمواجهة التطرّف ونشر التسامح وتعزيز الحوار
في فبراير/ شباط 2017، عقدت مشيخة الأزهر الشريف، لقاءً حواريًّا بمكتبة الإسكندرية تحت عنوان "نحو مستقبل أفضل للشباب" بحضور الشيخ عباس شومان وكيل الأزهر، الذي أكّد أنّ الأزهر الشريف أعدّ مقرّرًا دراسيًّا يسعى لتعميمه على الجامعات المصريّة حول الثقافة الإسلاميّة ويعالج القضايا الملحّة مثل: التطرّف والعنف والحوار والتسامح والتعايش بين أهل الأديان ودعم قيم المواطنة وعدم التمييز بين الناس على أسس دينيّة أو عرقيّة أو لغويّة. وتمّ الاتفاق مع المجلس الأعلى للجامعات لإقراره.
-
تنظيم المؤتمرات
عقد الأزهر الشريف في مصر وفي عدد من دول العالم مؤتمرات بالشراكة مع مؤسّسات وجهات دينيّة وثقافيّة وسياسيّة. وجميعها لا يخرج في مضامينه وعناوينه عن قضايا تعزيز الحوار ونشر ثقافة السلام. ومن المؤتمرات التي يستعدّ الأزهر الشريف لعقدها ذاك الذي يعقده إلى جانب "مجلس حكماء المسلمين" تحت عنوان "نحو مستقبل أفضل... شباب في مواجهة التحدّيات"، بالتعاون مع أسقفيّة كانتربيري بلندن في الفترة بين 1 -2 نوفمبر/تشرين الأوّل 2017م، بهدف تعزيز التعايش السلميّ وترسيخ أسس المواطنة الحقيقيّة وتفعيل دور الشباب في صناعة المستقبل.
-
توقيع مذكّرة مع الجامعة العربيّة لدعم الحوار والتواصل الحضاريّ
وقّع الأزهر الشريف في 2 أغسطس/ آب 2017 مذكّرة مع جامعة الدول العربيّة لدعم الحوار والتواصل الحضاريّ بين الأمم ولنشر ثقافة الإسلام الوسطي.
وتنصّ مذكّرة التفاهم على تعاون الجانبين في المجالات المتعلّقة بدعم الحوار والتواصل الحضاريّ، لترسيخ القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة المشتركة.
كما تنصّ، على أن ينسّق الطرفان جهودهما المشتركة في مجال تصحيح صورة العرب والمسلمين في وسائل الإعلام العالميّة، وأن يتعاونا في تنظيم المؤتمرات والندوات وورش العمل واللقاءات الحواريّة في الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، فضلا عن إعداد وتنفيذ مشروعات مشتركة ووضع تصوّر لتلك المشروعات وتنفيذها وفقا لترتيبات محدّدة.
الحوار مع أهل الكتاب:
لقد حثّ الإسلام على الحوار مع الآخر. وطفحت الآيات الحاثّة على التواصل والمجادلة. ويعلّمنا القران كيف أدار الله حوارًا مع أفضل خلقه وهم الملائكة حول خلق آدم وتعليمه، وكيف أدار حوارًا آخر مع شرّ خلقه وهو إبليس. لذا اعتمد الحوار أساسًا من أسس دعوة الإسلام التي لا يمكن أن تستقيم دعوته بدونه.
ولم ينظر القرآن إلى المسيحيّين واليهود باعتبارهم أعداء له، بل أطلق عليهم مسمّى "أهل الكتاب" واحتجّ بهم على مشركي العرب وحاججهم بهم، فقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾. وفي الصراع الدائر بين الفرس والروم وقف المؤمنون بدعوة الرسول الأكرم إلى جانب الروم لأنّهم أهل الكتاب.
وأوجب القرآن على المسلم الإيمان بأنبياء بني إسرائيل. فالمسيح عند المسلمين هو كلمة الله وروحه، وموسى كليم الله. والخلاف بين المسلمين وبقيّة أهل الكتاب لم يكن حول أصل الإيمان بالله الواحد الأحد ولا حول الكتب السماويّة مثل التوراة والإنجيل. وإنّما وقع الاختلاف حول تفسير تلك الكتب وتأويل أخبارها.
وقد جعل القرآن الحوار الراقي أساسًا في شرح دعوة الإسلام للآخرين وحثّ على ذلك خاصّة في التعامل مع أهل الكتاب.
وقد اشتمل القرآن الكريم على آيتين تحثّ إحداهما على الجدال مع غير المسلمين بصفة عامّة، وتحثّ الثانية على الجدال مع أهل الكتاب بتخصيص. قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾.
وقد مدح القرآن الكريم أهل الكتاب وتحديدا المسيحيين منهم في أكثر من موضع من القرآن. قال تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ والآيات التي جاءت فيها شدّة، كانت تعكس الظروف السياسيّة والاجتماعيّة لطبيعة القبائل العربيّة التي كانت تعيش في القرن السابع الميلادي لاسيّما مع تحالف اليهود مع مشركي قريش ضدّ المسلمين والتأليب عليهم دون أيّ تفسير إيمانيّ بقدر ما كان خوفًا على المكانة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي كانوا يحظون بها.
وقد استقرّ الحوار بين المسيحيّين والمسلمين بعد ذلك بصور شتّى: كالمراسلة، والمناقشة، والمناظرة في المجالس، وتأليف الكتب. ونما بذلك علما (الكلام) عند المسلمين، (واللاهوت) عند المسيحيّين، نموًا ملحوظًا، ولم يوقف الحوار إلاّ الحروب الصليبيّة، ثمّ حروب الاستعمار الغربي.
-
المسيحيون في عيون الأزهر الشريف:
لم يخرج الأزهر الشريف عبر تاريخه عن الخطّ الذي نهجه النبيّ في التعامل مع أهل الكتاب. وقد طوّر الأزهر رؤيته في تعزيز ثقافة الحوار مع أهل الكتاب.
يوضح عبّاس شومان وكيل الأزهر الشريف أنّ المسلم لا يكون مسلمًا ولا يقبل الله إسلامه إلاّ إذا آمن بالرسالات السماويّة السابقة على رسالة الإسلام، وبالرسل التي نزلت بها؛ حيث يقول تعالى: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. وأنّ المسيحيّين أقرب أتباع الديانات إلى المسلمين. ثمّ إنّ العلاقة بين الإسلام والمسيحيّة توطّدت عمليًّا من خلال بعض المواقف التي أظهرت مدى التعايش السلميّ بين المسلمين والمسيحيّين، واعتراف كلّ منهما بالآخر واحترامه لمعتقده، ومن ذلك: أنّ المسيحيّة كانت هي الحاضنة الأولى للإسلام والمسلمين؛ حيث أذن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه حين اشتدّ عليهم الإيذاء في بداية الدعوة بالهجرة إلى الحبشة. كما استقبل وفودًا مسيحيّة منها وفد نجران، وروي أنّه أذن لهم بالصلاة في مسجده، وتزوّج النبيّ بالسيّدة ماريّة القبطيّة. وأوصى المسلمين بالأقباط خيرًا، وخاصّة أقباط مصر، قائلا: "إذا افتتحتم مصرا فاستوصوا بالقبط خيرا، فإنّ لهم ذمة ورحما".
وقد ترسّخ في الفكر الأزهريّ حتميّة العلاقة بين المسلمين والمسيحيّين، وأنّ اختلاف المعتقد لا ينبغي أن يكون مانعا أو عائقا يحول دون التعايش السلمي.
-
الأزهر والفاتيكان:
تدنّت العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكيّة والعالم الإسلاميّ في سبتمبر من عام 2006 م عندما ألقى البابا بندكت محاضرة في جامعة ألمانيّة، أشار فيها ضمنيًّا إلى أنّه يعتقد أنّ الإسلام ينزع إلى العنف، ويفتقر إلى العقلانيّة. وأثار كلام البابا حينها استياء الأزهر، وقام الشيخ محمّد طنطاوي، بتجميد الحوار الفاتيكاني – الأزهري لفترة عامين.
ثمّ استؤنف الحوار مرة أخرى في عام 2008م، قبل أن يتوقّف مجدّدًا مطلع العام 2011، بعد تصريح آخر للبابا بندكت، تعليقًا على تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، حيث طالب بحماية المسيحيّين في مصر، مشيرًا إلى أنّ التفجير يمثّل اضطهادًا للمسيحيّين في الشرق الأوسط، وهو ما رأى فيه شيخ الأزهر أحمد الطيّب، تدخّلاً في الشؤون الداخليّة لمصر.
وقد أعلنت مصر استدعاء سفيرها لدى الفاتيكان احتجاجًا على تصريحات البابا. في غضون ذلك تبنّت القمّة العربيّة الاقتصاديّة الثانية التي عقدت في شرم الشيخ الأربعاء بيانًا يدين "أيّ تدخّل خارجيّ في شؤون الدول العربيّة". وأكّد البيان أنّ "حماية المواطنين المسيحيّين في العالم العربي هي مسؤوليّة الدولة وحدها".
وبعد تولّي البابا فرنسيس الأوّل رئاسة الكنيسة الكاثوليكيّة في 2013م، استؤنف الحوار شيئًا فشيئًا مع تبادل الموفدين. وبعث الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدّكتور أحمد الطيّب ببرقيّة تهنئة باسم الأزهر إلى البابا الجديد.
وأعلن الأزهر أنّ عودة العلاقات المقطوعة مع الفاتيكان رهنٌ بما يقدّمه من خطواتٍ إيجابيّة جادّة تُظهر احترام الإسلام والمسلمين، فيما عكف البابا فرنسيس، منذ انتخابه، على تحسين العلاقات بين الأديان، وزار وفد من الفاتيكان القاهرة في فبراير الماضي، وامتدّت الدعوة ليزور الطيّب الفاتيكان.
ثمّ في الرابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2014م، قام الرئيس عبد الفتّاح السيسي بعد وصوله إلى السلطة في 8 يونيو/ حزيران 2014م، بزيارة للفاتيكان، تلبية لدعوة من البابا فرنسيس. واستؤنف الحوار بين الفاتيكان والأزهر شيئًا فشيئًا. وفي مارس 2014م شارك الدّكتور محمود عزب مستشار شيخ الأزهر في مبادرة بين الطوائف لإطلاق شبكة لمكافحة شتّى أشكال العبوديّة الحديثة والاتجار بالبشر.
ثمّ في فبراير وجّه بابا الفاتيكان دعوة إلى شيخ الأزهر لزيارة الفاتيكان، وقالت مشيخة الأزهر في بيان آنذاك: "اتّفق الأزهر والفاتيكان على أهمّيّة عقد لقاء مشترك بينهما للترتيب لعودة الحوار بين الجانبين، والذي توقّف منذ سنوات بسبب بعض التصريحات للبابا السابق، والتي أسهمت في توتّر العلاقة بين الطرفين".
بدأ شيخ الأزهر الدّكتور أحمد الطيّب زيارة إلى الفاتيكان، هي الأولى في التاريخ، في الثاني والعشرين من مايو/أيار عام 2014م، التقى خلالها بابا الفاتيكان فرنسيس، وصدر بيان مشترك من شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، يؤكّد على القيم المشتركة والدعوة إلى إرساء السلام والتعايش في العالم، وضرورة نبذ العنف والتطرّف، والإعلان عن عودة حوار الأديان، بما يقوم على الاحترام المتبادل، وإعلاء روح التسامح والمحبّة بين جميع الأديان.
وبعد قطيعة استمرّت 10 سنوات بدأ الحوار الأوّل الذي جرى في الأزهر الشريف بحضور الكاردينال توران، رئيس المجلس البابويّ للحوار في الفاتيكان.
وقد أكّدت اللجنة المشتركة للحوار بين الأزهر الشريف والكنيسة الأسقفيّة أنّ الحوار بين الأديان لا يمسّ العقائد، وإنّما يسلّم كلّ طرف للآخر بعقيدته وفقّا لمبدأ "لكم دينكم ولي دين" مع المناقشة بالحكمة والموعظة الحسنة لإعلاء قيم الحقّ والعدل والعلم والتقدّم والسلام العادل وترسيخ مبادئ المواطنة والعمل على رفعة شأن الوطن وتحقيق الازدهار والتقدّم للشعوب.
ويأتي الاجتماع الدوريّ للّجنة المشتركة بين الأزهر والكنيسة الأسقفيّة تنفيذا للاتفاقيّة الموقّعة بين شيخ الأزهر ورئيس أساقفة كانتربري في 30 يناير 2002م بقصر لامبث بلندن، بالمملكة المتحدة وهو لقاء دوريّ سنويّ يهدف إلى التفاهم والتعايش والتعاون لإعلاء القيم العليا المشتركة بين أهل الأديان.
-
الأزهر والمذاهب غير السنّيّة:
لعلّ أقدم محاولة للتقريب بين المذاهب السنّيّة والشيعيّة داخل الأزهر الشريف بدأت في القرن التاسع عشر مع الشيخ محمّد عبده الذي كان يميل إلى التقريب بين المذاهب تأثّرًا بشيخه ومعلّمه جمال الدين الأفغاني الذي كان يدعو إلى توحيد المذاهب الإسلاميّة. ثمّ جاءت مجلّة "المنار" التي كان محمّد رشيد رضا يفتح صفحاتها لشتّى المذاهب الإسلاميّة.
وقد سبق مرحلة التقريب مراسلات جرت بين الإمام الخامس والعشرين للأزهر الشريف سليم البشري (1832-1916) م. والمرجعيّة الشيعيّة اللبنانيّة السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي (1873-1957) م. والتي سطّرها الأخير في كتاب له حمل اسم " المراجعات". وقد أثار الكتاب جدلاً لاسيّما مع وجود مشكّكين من دار الأزهر حول صحّة ما تضمّن من مراسلات بين الرجلين.
ثمّ في أربعينيّات القرن الماضي تجدّد الحوار بين الأزهر الشريف بمصر وبين بعض مراجع الشيعة الإيرانيّين، وكان ذلك سببًا في تأسيس "دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة".
وقد توطّدت فكرة التقارب وتابعت تقدّمها الحذر إلى أن تمّ تأسيس "دار التقريب" ثمّ تبعتها فتوى الشيخ محمود شلتوت، وهو أوّل من لقّب بالإمام الأكبر، حول جواز التعبّد على مذهب الشيعة الإماميّة.
ويقول شلتوت في هذا: "ينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك وأن يتخلّصوا من العصبيّة بغير الحقّ لمذاهب معيّنة فما كان من دين الله وما كانت شريعته تابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب فالكلّ مجتهدون ومقبلون عند الله تعالى يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات".
وفي عهده تمّ إصدار الموسوعة الفقهيّة معتمدة على المذاهب الإسلاميّة الثمانيّة، وهي الجعفري والزيدي والإباضي والظاهري، بالإضافة للمذاهب السنّيّة الأربعة المشهورة.
وقد تأسّست "دار التقريب بين المذاهب" في سنة 1947 م على يد عدد من العلماء في القاهرة وكان من أبرزهم الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمّد تقي القمّي نائبًا عن آية الله بروجردي. وأصدرت الدار مجلة رسالة الإسلام التي صدر العدد الأوّل منها سنة 1949م، واستمرّت في الصدور حتّى وصلت إلى العدد ستين الذي صدر سنة 1972م. وقد أغلقت الدار عام 1979 على خلفيّة قيام الثورة الإسلاميّة في إيران.
قبل أن يستأنف الأزهر الشريف إعادة تفعيلها عام 2006م، حيث يقول رئيس الدار الشيخ محمود عاشور: "إنّ هذه الدار مهمّتها رأب الصدع والتقريب بين أبناء الملّة الواحدة لأنّ الخلاف بين السنّة والشيعة فقهيّ، وإنّ هذه الخلافات لا تعكّر صفو العلاقات ونحن نختلف في بعض الأمور ولكن ليس في الثوابت. نحن معًا نؤمن بالله الواحد وبالقرآن وبالقبلة وبالرسول محمّد (ص) مؤكّدًا أنّ الحوار بين السنّة والشيعة أمر لا يحتمل التأجيل، وأشار إلى أنّه: "إذا كنّا نؤمن بأنّ الحوار الإسلاميّ – المسيحيّ ضرورة فلماذا نتوقّف عن الحوار مع إخوتنا الشيعة"؟
ويرى بعض الباحثين أنّ مرحلتين رئيسيّتين حكمت العلاقة بين الأزهر والتشيّع: المرحلة الأولى بدأت بالتقريب بين المذاهب السنّيّة والمذهب الجعفريّ الاثنا عشريّ. تلتها المرحلة الثانية أي مرحلة التنافس على المرجعيّة الإسلاميّة.
ولا تعتبر حال التقريب اليوم على خير ما يرام نتيجة تزايد حدّة التأزّم في المواقف السياسيّة بين القوى المتصارعة والمتنافسة على قيادة الشرق الأوسط من ناحية وتمثيل المرجعيّة العليا للمسلمين في العالم. وتبعًا لتبعيّة الأزهر سياسيًّا للموقف المصري الرسميّ فإنّ مواقف الإمام أحمد الطيّب تجاه الشيعة اتّسمت بالتذبذب مع ما يشبه تجميدًا كاملاً لعمل دار التقريب.
وقد سبقه في هذا الموقف شيخ الأزهر محمّد سيد طنطاوي، الذي رفض تلبية دعوة لحضور مؤتمر في طهران عن أهمّيّة الحوار بين المذاهب الإسلاميّة عام 2009م، معلّلاً ذلك بالظروف السياسيّة القائمّة بين مصر وإيران وتوتّر العلاقات مع حزب الله بعد القبض على خليّة للحزب في مصر عام 2009م، ومعلنا عن وقف أيّ تعامل بين الأزهر وإيران وتجميد الاتّفاقات المبرمة بين الأزهر ورجال دين شيعة.
ومن المعلوم أنّ قطاعًا كبيرًا من علماء الأزهر المتأثّرين بالتوجّه الوهّابيّ أو المنسجمين مع الموقف السياسي الرسمي غالبًا ما يرفضون أيّ عمليّة تقريب بين السنّة والشيعة وينظرون بتوجّس لطبيعة التقريب ويرون فيه استغلالاً سياسيًّا إيرانيًّا لنشر المذاهب الشيعيّة في المجتمع المصري.
وكان لجبهة علماء الأزهر وهي رابطة تضمّ عددًا من علماء الأزهر بصفة غير رسميّة من قبل مشيخة الأزهر موقفًا متشدّدًا تجاه انفتاح مشيخة الأزهر على المذهب الشيعيّ.
"حكماء الشرق والغرب" لمواجهة التطرّف وتعزيز ثقافة الحوار
من أجل التعايش السلميّ ومدّ جسور التعاون بين الشرق والغرب، وترسيخ السلام بين الناس، أطلق شيخ الأزهر أحمد الطيّب بالتعاون مع "مجلس حكماء المسلمين" عام 2015 م مبادرة لعقد حوار دوريّ بين الشرق والغرب. وقد انعقد حتّى كتابة هذه السطور خمس جولات من الحوار العالميّ.
بدأت الجولة الأولى في الثامن من يونيو/حزيران عام 2015م، بمدينة فلورنسا بإيطاليا، معلنة انطلاق الحوار العالمي، وبداية التعاون ومدّ جسور التعايش، بمشاركة نخبة المفكّرين ورجال الدين وعلماء الاجتماع من العالم العربي والإسلامي ومن إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وغيرها. وكانت محاور الجولة الأولى من الحوار: "الشرق والغرب. السبيل إلى التفاهمِ"، و"العيش المشترك في ظلّ العولمة"، و"رسالة الشّرق والغرب إلى العالَمِ المُعاصر".
عقدت الجولة الثانية في العاصمة الفرنسيّة باريس في مايو/أيار 2016م، تحت شعار "نحو حوار حضاريّ". وقد دعت هذه الجولة إلى نظام عمل محدّد يحكم عمل الأئمّة والدعاة في أوروبا، حيث "أبدى الأزهر استعداده لتدريب الأئمّة وعلماء الدين وفق المفاهيم البعيدة عن التطرّف، كما وجّهت الدعاة لنشر الفكر والثقافة الإسلاميّة الصحيحة دون انحراف أو مغالطة، وطالبت بتفعيل آليّات اندماج المسلمين الفرنسيين في مجتمعهم وكيفيّة حماية الشباب من خطر الفكر المتطرّف، وتكثيف جهود التصدّي للحملات الدعائيّة للتنظيمات الإرهابيّة على الإنترنت ومواقع التواصل".
عقدت الجولة الثالثة في سبتمبر/أيلول عام 2016م بجنيف، ودعا فيها الشيخ أحمد الطيّب إلى تدشين مشروع إنسانيّ عالميّ متكامل من أجل نشر السلام في كافّة ربوع العالم والتأكيد على قيم المواطنة والتعايش المشترك. ورفض كلّ أشكال التعصّب والتمييز العنصريّ بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الأصل، وتشجيع المبادرات الناجحة مثل "بيت العائلة" الذي أسّسه الأزهر الشريف في مصر.
واستضافت أبو ظبي بالإمارات العربيّة المتّحدة الجولة الرابعة في نوفمبر/تشرين الأوّل 2016م. حيث دعا المجتمعون "لبناء حوار مجتمعيّ إسلامي مسيحي، وإنشاء موقع رقميّ للتعريف بالمبادرات المطروحة بالاجتماع، وإقامة لقاءات شبابيّة متبادلة لطلاّب الجامعات بين المسلمين والمسيحيّين، وإنتاج أفلام وثائقيّة تبرز تجارب التعايش التاريخيّة المعاصرة، وبناء برنامج أكاديمي مشترك مدّته 5 سنوات لبحث أسس التعايش والتسامح في الأديان".
وانعقدت الجولة الخامسة في القاهرة الأربعاء 26 أبريل/نيسان 2017 م تحت عنوان "دور القادة الدينيين في تفعيل مبادرات المواطنة والعيش المشترك" حيث بحث المجتمعون آليّات تفعيل مبادرات المواطنة والعيش المشترك، ودور القادة الدينيين في نشر قيم التعايش والتسامح.
ما يحول دون قيام الأزهر الشريف بدوره:
يتعرّض الأزهر الشريف لحملات منسّقة ومتتابعة تشتّد حينًا وتخفت أحيانًا إلاّ أنّها لا تنقطع. وتأتي هذه الحملات من جهات مختلفة ولأغراض متنوّعة ومتضاربة أحيانًا. فلا يقتصر الأمر على حركات الإسلام السياسيّ باتّهام شيخ الأزهر بالتماهي مع السلطة السياسيّة على نحو كامل بما يخالف نهج الإسلام ورسالة الأزهر الشريف بل تأتي الهجمات أيضا من جهات علمانيّة ليبراليّة ويساريّة لأسباب أيديولوجيّة بالدرجة الأولى، معتقدة أنّ الأزهر عقبة كأداء أمام تجديد الفكر الديني وتطويره. وترى في مؤسّسة الأزهر مؤسّسة كهنوتيّة تريد فرض وصاية رجال الدين على الدولة والمجتمع. وحملة هؤلاء غالبًا لا تقوم على أسس موضوعيّة محايدة.
وهناك قطاع الإعلام المصري الذي غالبا ما يكون هجومه على الأزهر منسّقًا أو تبعًا لتأزّم الموقف السياسيّ بين الأزهر ومؤسّسة الحكم في البلاد. والإعلام بهجومه هذا لا يستهدف تدمير الأزهر وإلغاء دوره في المجتمع المصري بقدر ما يريده ذراعا للسلطة السياسيّة قائمًا على دعمها وشورتها ومساندتها في أيّ موقف داخليّ وخارجيّ تتّخذه. وهؤلاء غالبًا ما يعتقدون أنّ الدين يتبع السياسة وليس العكس، وما على المؤسّسات الدينيّة إلاّ أن تكون خادمةً لرؤية السلطة في إدارة الدولة والمجتمع. وهناك الجمعيّات السلفيّة التي لأسباب عقائديّة تحاول النيل من الأزهر، وتشكّك بفتاويه إذا ما كانت تتعارض مع أدبيّاتها وما تتبنّاه من أطروحات.
نقد لمناهج الأزهر:
هناك نصوص تدرس في مناهج الأزهر تناقض مفاهيم الدولة الحديثة والمواطنة. والدعوة لحرق هذه الكتب أو منع تداولها كما يشير البعض لا يعني أنّ هذه النصوص لن تعود موجودة لمن أراد الوصول إليها. المفتاح يكمن في كيفيّة قراءة هذه النصوص: هل بقراءة نقديّة أم لا؟ ما السياقات التي وضعت فيها؟ هل تسمح بتفاسير متباينة؟
الفقه داخل الأزهر في حاجة مستديمة للتجديد ومواكبة ما نعيش، لكنّ الأهمّ ثقافة المتلقي غير الناقد. السياق هو المحكّ وطبيعة المخاطَب وحدود معرفته أهم من فكر المخاطِب. التحدّي ليس في مواجهة تديين الفضاء العامّ بقدر ما هو في الثقافة السائدة، الآتية من خارج الأزهر، التي تحدّد طبيعة هذا التديين، وتحديدًا في مفاهيم تنظر بعين الشكّ إلى كلّ اختلاف، ناهيك بالفرديّة والحرّيّة الشخصيّة.
من أسباب جمود الأزهر
التمازج مع التصوّف
لا يخفي الأزهر الشريف احتفاءه بالتصوّف ومدح أصحابه. وكما هو معلوم فإنّ السّمة العامّة على أغلب علماء الأزهر هي التصوّف الذي بدأ يتقلّص لصالح بروز الفكر السلفيّ الوهّابيّ القادم من خارج مؤسّسة الأزهر. وعلى الرغم من أنّ التصوّف الراشد يقوّي من نزعة الإيمان والصفاء وتحمّل مشاقّ الدعوة والصبر على ملذّات الحياة إلاّ أنّ بعضهم يرى فيه بعدًا يحول دون تطوّر الأزهر فثمّة "تمازج تاريخيّ قد حدث بين الأزهر والمتصوّفة في مصر. وقد أدّى هذا التمازج إلى جمود العقل الأزهريّ، ورسّخ في مقابل ذلك عوامل المحافظة والركون في داخله".
التجديد الدينيّ:
اتُّهم الأزهر بالتلكّؤ في إصدار وثيقته حول التجديد الديني علمًا أنّ المداولات بشأنها استمرّت لأكثر من ثلاث سنوات حتّى يومنا هذا. وقد سرّبت الصحافة المصريّة أكثر من مرّة نصوصًا وموادًا من الوثيقة التي تمّ تنسيق مفرداتها إلاّ أنّ الأزهر كان يرفض دائمًا أن يكون ما تسرّبه الصحافة نصًّا رسميًّا مؤكّدًا أنّها مجرّد مسودّات عرضت للنقاش متذرّعًا أنّ التأخّر في التوصّل إلى إصدار الوثيقة المنتظرة مرتهن بانتظار الإجماع التامّ عليها من قبل الفئات والشخصيّات المشاركة إلى جانب الأزهر وعلمائه في الوثيقة. وفي حوار لصحيفة الأهرام يجزم صلاح فضل الناقد والمفكّر المصري وأحد المناقشين للوثيقة أنّ الوثيقة لن ترى النور لأنّ هناك جماعات محافظة داخل جامع الأزهر وهي جماعة منظّمة، وتعارض أيّ نقد أو تجديد للخطاب الديني. "متّهمًا من سمّاها بـ «القوى المحافظة»، بالسبب في عدم خروج تلك الوثيقة إلى النور، وواصفًا تلك القوى بـ «الأشدّ شراسة والأكثر تماسكًا».
-
الارتهان للسلطة المصريّة:
لم يتمكّن الأزهر من التحرّر من الوصاية السياسيّة منذ نشأته. وقد مرّت العلاقة بينه وبين السلطة الحاكمة، أيّا كان توجّهها واعتقادها، بمراحل متخبّطة. السِّمة العامّة فيها هو التدخّل المستمرّ من قبل السلطة في موقف الأزهر وعمله وفتاويه. ولم تكن العلاقة بين الطرفين على ما يرام على الدوام، بل يشوبها الشدّ والجذب، وتمرّ بفترات من التوتّر الشديد، وغالبًا ما يقف الإعلام بوجه الأزهر حين يمتنع الأخير عن الخضوع التامّ والكامل للتوجّهات السياسيّة التي أحيانًا قد تسبّب الحرج الشديد للأزهر ولدوره ولوظيفته عالميًّا.
ومن التداعيّات التي أثّرت على قوّة الأزهر ودوره العالمي نتيجة التدخّل السياسيّ المستمرّ فيه هو ضعف مؤسّسات الأزهر وافتقاده للمرجعيّة العامّة لكامل المسلمين واضمحلال دوره العالمي في الدول التي ينشط فيها دعويًّا وتربويًّا وثقافيًّا حيث يكون عمله خارج مصر مرتبطًا دومًا بطبيعة العلاقة بين النظام السياسي في مصر والدولة المستضيفة للأزهر الشريف. فإذا ما كانت العلاقة ودّيّة بين البلدين نشط الأزهر ومنح العمل. وإذا ما ساءت العلاقة ضعف دور الأزهر ووصل حدّ التضييق عليه.
ولكثرة التدخّل السياسي في نشاطه، بات ينظر للأزهر الشريف عند نخب عربيّة وإسلاميّة باعتباره ذراعًا من أذرع الدولة المصريّة في التمدّد. فهو لا يملك القدرة على توجيه السلطة السياسيّة ووعظها والضغط عليها إذا ما حصل سوء إدارة وسوء استخدام للأمانة الممنوحة لها من قبل الشعب، ولم يعد يكفي منه الصمت على الانحرافات السياسيّة على قاعدة" السكوت عن قول الحقّ خير من الخوض في الباطل" بل بات لازمّا عليه منح الغطاء الشرعي والكامل وغير المشروط لما تريد أن تمليه السلطة السياسيّة.
ومن وجهة نظر هؤلاء فإنّ السلطة تسعى إلى تهميش الأزهر متى ما وجدت الأمر يقتضي ذلك. فلا هو يستأمر ولا يستشار ولا يستأذن في أيّ قرار سياسيّ ذي صِلة بالاستقرار والسلم الأهلي داخليًّا وفي علاقة مصر الخارجيّة. وغالبا ما تلجأ السلطات إليه حينما تكون في ورطة سياسيّة أو تحتاج إلى فتاوى داعمة أمام انتقادات المعارضة السياسيّة والدينيّة للنظام السياسي.
-
التوسّع السلفيّ داخل مؤسّسات الأزهر:
يتبنّى الأزهر الشريف منهج "أبي الحسن الأشعري" في الاعتقاد. وهو على خلاف جوهريّ مع العقيدة التي أرسى قواعدها الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب في الجزيرة العربيّة، والتي تمّ ترجمتها وتجسيدها بتأسيس المملكة العربيّة السعوديّة. ويُتهم الفكر السلفيّ الوهّابيّ بأنّه متشدّد في أطروحته الدينيّة، ومتقوقع، وضائق بالحوار المذهبيّ والحوار الديني.
لقد وجد الأزهر نفسه في سنوات ما بعد الهجرة الجماعيّة لقيادات وكوادر من الحركات الإسلاميّة إلى دول الخليج في مرحلة ما بعد عبد الناصر، أيّام الرئيسين السادات ومبارك أمام انتشار واسع للفكر السلفيّ الوهّابيّ في مصر. حيث تأثّر أغلب الوافدين المصريّين إلى دول الخليج بثقافة الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب وانتشر التسلّف على نطاق واسع لاسيّما بعد عودة هؤلاء إلى جامعات مصر ومنها الأزهر الشريف.
ونتيجة للدعم الماليّ الهائل المقدّم رسميًّا للفكر الوهّابيّ السلفيّ، ولاحتضان الجامعات الدينيّة أمثال الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة، ولعمليّات الإعارة لأساتذة الجامعات والخطباء والدعاة والقرّاء من مصر إلى دول الخليج، وتبعا لعمليّة الإغداق المالي الواسع على هؤلاء الوافدين والمعارين فقد تغلغل الفكر الوهّابيّ السلفيّ في عموم مصر وانتشر حتّى دخل مؤسّسات الأزهر المختلفة. وقد أثّر على طبيعة التعليم والتلقّي والدعوة في الأزهر نفسه. وكان من شأن انتشار الفكر السلفيّ الوافد من دول الخليج تهميش دور الأزهر والتقليل من شأنه والتشكيك بصواب عقيدة علمائه الأشعريّة أو سلوكيّات أصحابها الصوفيّة.
ولا تعدّ علميّات الإعارة والاستدعاء مقتصرة على السعوديّة، بل راحت دول عربيّة أخرى مقتدرة في الخليج في استدعاء علماء من الأزهر الشريف إلى بلدانها للتدريس والخطابة.
وينقل صلاح فضل، الناقد المصري وأحد المشاركين في دراسة آليّات التجديد الديني التي كان يعمل عليها الأزهر الشريف منذ عام 2014م، في كتابه "وثائق الأزهر ما ظهر منها وما بطن" عن طبيعة العلاقة بين الأزهر بعقيدته الأشعريّة وفكر المدرسة السلفيّة والوهّابيّة، عن شيخ الأزهر أحمد الطيّب، قوله: «إن عندنا القدرة على مجابهة هؤلاء بمثل وسائلهم، مكتبة الأزهر بها أكثر من مائتي مخطوط لعلماء الأزهر في القرن الماضي، يردّون بها على محمّد بن عبد الوهّاب، بل وصل الأمر لتكفيره، ومن الممكن أن نطبع هذا ونوزّعه على أبواب المساجد، ولكنّ هذا ليس منهج الأزهر، نريد أن نجمع الكلّ تحت عباءة أهل السنّة، وليس هناك الآن سلفيّة حقيقيّة، هناك وهّابيّة، وهم يحاولون هدم الأزهر، والله غالب على أمره».
وفي هذا اتّهام واضح من قبل أرفع وأهمّ شخصيّة في مؤسّسة الأزهر الشريف وهو الشيخ أحمد الطيّب، الذي يصرّح وفقًا لما ينقل عنه صلاح فضل في كتابه أنّ السلفيّة اندثرت بعد هيمنة الفكر الوهّابيّ العامل على هدم الأزهر. وينقل عن شيخ الأزهر في لقاء جامع يضم عددا من المفكرين والمثقفين والأدباء والإعلاميين المصريين كيف تحدث شيخ الأزهر عمّا تعرّض الأزهر له من محاولات اختراق لفترات طويلة، و"كيف تسلّلت إليه بعض الدعوات الغريبة عن طابعه الوسطيّ المستنير المأثور، فحاول بعض أنصار التيّارات السلفيّة الوهّابيّة جذب بعض شيوخه وإغرائهم بالتدخّل في مناهجه عن طريق تحريف كتب العقائد الأشعريّة، لتتوافق مع مبادئهم بالتواطؤ مع ورثة الناشرين القدامى، وكيف تصدّى بحزم لهذه المحاولات كي يعيد للأزهر طبيعته النقيّة المعتدلة".
ويؤكّد صحّة ما تمّ تسريبه في الكتاب، ما أصدره "المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين" تحت عنوان " من هم أهل السنّة" الذي عقد في العاصمة الشيشانيّة غروزني في 25-27 أغسطس/ آب 2016م. والذي ضمّ إلى جانب شيخ الجامع الأزهر الإمام أحمد الطيّب عددا من العلماء الصوفيين والأشاعرة. فقد استثنى من المؤتمر علماء السعوديّة قاطبة وهو ما اعتبر في حينه خطوة لسحب المرجعيّة السنّيّة عن المملكة العربيّة السعوديّة وإخراج السلفيّة من دائرة أهل السنّة، حيث جاء في الوثيقة الختاميّة للمؤتمر الذي وقّع عليها العلماء المجتمعون بمن فيهم شيخ الأزهر أحمد الطيّب قبل أن يتراجع عن ذلك فيما بعد تحت ضغط الحملات التي وجّهت له: "أهل السنّة والجماعة هم الأشاعرة والماتريديّة ومنهم أهل الحديث المفوضة ففي الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة والحنابلة في الفقه وأهل التصوّف الصافي علمًا وخلقًا وتزكية على مسلك الإمام الجنيد وأمثاله.
الشيخ أحمد الطيّب ومجلس حكماء المسلمين:
يعتبر شيخ الأزهر أحمد الطيّب عضوًا مؤسّسًا، لـ "مجلس حكماء المسلمين". وهو يرأسه في دورته الحاليّة. وعلى الرغم من أنّ رسالة مجلس حكماء المسلمين كما يقول القائمون عليه تهدف إلى تحقيق السلام ونشر التعايش ومحاربة الطائفيّة إلاّ أنّ قطاعا كبيرًا من العلماء والمفكّرين يرونه أنشئ لأجندات بعيدة عن رسالته مثل تعزيز نفوذ الدولة المضيفة له والترويج لأطروحاتها في المنطقة والعالم ومواجهة "الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين" الذي تأسّس في 11 يوليو/تموز 2004م. واتّخذ من قطر مقرًّا له، ويترأّسه الشيخ يوسف القرضاوي، حيث كان يعتبر " الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين" أكبر مظلّة لعلماء المسلمين من المذاهب المختلفة على المستوى العالميّ إلى حين اندلاع الانتفاضات في العالم العربي عام 2011م.
فقد اتُّهم "الاتّحاد" بأنّه ذراع للدولة الراعية له ومحرض على الثورات لاسيّما بعد مواقف الشيخ يوسف القرضاوي السياسيّة في ليبيا وسوريا، الأمر الذي أحدث شرخا هائلا في الاتحاد، وأخرج منه علماء من دول عربيّة وإسلاميّة تبعا للموقف السياسي للدول التي ينتمون إليها.
تلقفت دول عربيّة على خصومة مع الدولة الراعية لـ "الاتحاد العالمي"، ومتضرّرة من مواقف علمائه، فأنشأت "مجلس حكماء المسلمين". ولم يكن ليعتدّ بالمؤسّسة الجديدة وسط الاصطفافات الإقليميّة والدوليّة لو لم يكن على رأسه قامة علمائيّة من أمثال الإمام الأكبر لجامع الأزهر الشيخ أحمد الطيّب. ولا يخفى على أيّ عاقل أو مراقب الدور والوظيفة السياسيّة لهذا المجلس. وأنّه في حقيقته ليس إلاّ غطاء وحاجة سياسيّة أكثر منها دينيّة في صراع الدول ونشوء الأحلاف السياسيّة.
أيّا ما كان التقدير لطبيعة ودور "مجلس حكماء المسلمين" فإنّي أظنّ أنّ وجود شيخ الأزهر أحمد الطيّب فيه إلى جانب صفته "الإمام الأكبر لمشيخة الأزهر" قد يضعف مؤسّسة الأزهر نفسها، ولا يقوّيها. وقد يقضي على دور الأزهر خارج مصر، حيث كان الأجدر بالشيخ أحمد الطيّب أن ينأى بالأزهر الشريف قدر المستطاع عن المؤسّسات التي يظن أنّ لها طابعًا وظيفيًّا سياسيًّا، طالما أنّ الأزهر قادر بحجمه ودوره ومكانته أن يحقّق كامل أهدافه دون الركون لأيّ جهة قد تسبّب حساسيّة هنا وهناك
الخاتمة
يدرك المتابع لنشاط الأزهر وأدبيّاته المنشورة ولكتب علمائه قديمًا وحديثًا، أنّ الأزهر تمتّع ولا يزال، بمصداقيّة علميّة رصينة، ويملك تاريخًا عريقًا، ويتميّز بحضور واسع ومحترم في العالمين العربي والإسلامي. حتّى إنّه يعتبر من المرجعيّات الأساسيّة للإسلام والمسلمين إن لم يكن المرجعيّة الأولى، أقلّه على صعيد المذاهب السنّيّة.
ما يقدّمه الأزهر من فتاوى، وما يطرحه من أفكار، وما يحمله من مبادئ ورؤى دينيّة، تحوز على نسب عالية من النضوج والفهم والإدراك لطبيعة الإسلام من ناحية ولطبيعة المجتمعات البشريّة القائمة حاليًّا من ناحية أخرى. فأغلب ما يصدر عنه يوائم بين مقاصد ومرتكزات الإسلام الأساسيّة وما اهتدت إليه الجهود العالميّة عبر شرائعها ووصاياها في تعزيز إنسانيّة الإنسان وتقدير حقوقه وحاجيّاته.
إنّ الأزهر لا يقلّ عن الفاتيكان في العمل الحثيث على نشر ثقافة السلام والحوار والاحتكام إلى الحوار البنّاء في حلّ المشاكل والتخفيف من حدّة الصراعات بين الشعوب والأمم باسم الدين. وحاجة العالم اليوم للأزهر الشريف تتمثّل فيما يحمله هذا الجامع الشامخ من قدرة وطاقة وسعة علم واحترام، من أجل الوقوف في وجه التطرّف والعنف، ولوقف اختطاف الإسلام على يد جماعات قد شوّهت الإسلام وحرّضت على أهله.
إنّ أكثر من يسيء للأزهر ودوره ويهدّد دوره الذي اكتسبه عبر قرون في العالمين العربي والإسلامي هو التوظيف السياسيّ له. ولا يحتاج الأزهر في تقديري في ظلّ الظروف التي نعيشها اليوم لأكثر من رفع اليد السياسيّة عنه وعدم التدخّل في شؤونه، والكفّ عن توظيفه في الصراعات السياسيّة داخليًّا وخارجيًّا. إذ لا شيء أقدر على إطلاق يد الأزهر في دعوته ورسالته من تركه حرًّا يمارس سيادته على نفسه ويبدي رأيه ويظهر مواقفه في القضايا التي تمسّ المسلم وغير المسلم في مصر والعالم. وإذا ما استمرّت السلطة السياسيّة في ممارسة نفوذها الظاهر والخفي على الأزهر وعلمائه واعتباره ذراعًا يخدم مصالحها الداخليّة والخارجيّة، فإنّ فعاليّة الأزهر الدينيّة والروحيّة والثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة ستضمحل شيئا فشيئًا، وسيخسر ما تبقّى له من رصيد وقيمة في نفوس المسلمين في العالم، وسيصبح من العسير عليه التأثير أو الحدّ من نشر ثقافة التكفير والتخوين والإرهاب والتطرّف التي تغزو العالم اليوم والتي تقابلها ظاهرة "الإسلاموفوبيا".
في المقابل، يتوجّب على الأزهر الشريف مكافحة الأفكار المتسلّلة إلى أروقته والتي تضيق ذرعًا بالآخر المخالف مذهبيًّا ودينيًّا. وأن يحصّن نفسه من المغريّات الماديّة والمعنويّة التي تغدق على علمائه وأساتذته من قبل جهات خارج مصر بهدف توظيفه لصالح أجنداتها السياسيّة والإيديولوجيّة البعيدة كلّ البعد عن رسالة الأزهر ومنهجه.