الإسلاموفوبيا "ليسوا مثلنا"
الدّكتور طلال عتريسي
انتشر خطاب كراهيّة وتحريض ضدّ الإسلام والمسلمين في كثير من الأدبيّات الإعلاميّة والسياسيّة في معظم الدول الغربيّة بعد عمليّات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 التي اتّهم تنظيم القاعدة بتنفيذها، والتي أدّت إلى انهيار برجيّ مركز التجارة العالميّ في نيويورك.
ساهم في انتشار هذا الخطاب إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش الابن حربًا "صليبيّة" على الإرهاب بعد تلك العمليّات.
لم يكن هذا الحادث هو الأوّل من نوعه الذي أثار قلق الغرب من "تهديد الإسلام". سبق ذلك بنحو عقدين فقط انتصار "ثورة إسلاميّة" في إيران أطاحت بأحد أهمّ حلفاء الغرب، ورفعت شعارات العداء للولايات المتّحدة، وإسرائيل، والاستقلال السياسيّ والثقافيّ عن الغرب.
ترافقت تلك "التهديدات" من الخارج مع "تهديدات من الداخل" إثر التحوّلات الديموغرافيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي عرفتها الجاليّات المسلمة في البلدان الأوروبيّة، والتي أطلقت العنان لموجة جديدة من "الإسلاموفوبيا" بعد اعتداءات وتفجيرات وعمليّات انتحاريّة في عواصم ومدن أوروبيّة عدّة نفّذتها مجموعات تنتمي إلى تنظيمات إسلاميّة متشدّدة، فاقمت من اعتبار الإسلام تهديدًا، ومن المسلمين أعداء.
لم تقتصر موجة الإسلاموفوبيا على استنكار الاعتداء ات والتفجيرات، بل امتدّت تلك الموجة في كثير من الأحيان إلى الإسلام نفسه وإلى المسلمين عامّة، خاصّة أولئك الذين يعيشون في أوروبّا، أو الذين يريدون القدوم إليها. و"الفوبيا" هي مصطلح نفسي، يعني الخوف الشديد (الخوّاف) ويستخدم للدلالة على الخوف المبالغ فيه وغير المنطقي (مثل الخوف من الأماكن المظلمة، أو المساحات الضيّقة، أو الارتفاع الشاهق) والتي تنتج عادة عن خبرة شخصيّة سلبيّة في هذه المجالات. كذلك الإسلاموفوبيا هي تعبير يستخدم للدلالة على كراهيّة، أو على خوف غير عقلانيّ، تجاه الإسلام، والمسلمين، وتجاه الثقافة الإسلاميّة، وهي تعني أيضًا التمييز تجاه الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الثقافة. ما أدّى إلى ممارسات واعتداءات جسديّة ولفظيّة ضدّ ممتلكات وأماكن عبادة، وضدّ أشخاص يظهرون انتماءهم الدينيّ من خلال الحجاب أو النقاب.
تتجاوز "الإسلاموفوبيا" كتعريف ومصطلح الحالة الفرديّة، إلى سلوك مجتمعي عامّ تجاه الإسلام والمسلمين، يكاد يلامس العنصريّة، وتعّبر عنه الكتب الدراسيّة، والمؤلّفات الأدبيّة والثقافيّة، والتغطية الإعلاميّة، وبرامج الأحزاب السياسيّة [1]...
"الإسلاموفوبيا" هي نتاج تحوّلات عدّة على مستوى العلاقة التاريخيّة بين العالم الإسلاميّ والغرب من جهة، وعلى مستوى التحوّلات المعاصرة التي حصلت في المجتمعات الإسلاميّة، وفي داخل الدول الغربيّة نفسها من جهة ثانية.
لا يعتبر الاهتمام بالإسلاموفوبيا جديدًا، فقد كتب الكثير عن هذه الظاهرة التي تتشابه من حيث الفكرة، والسلوك، وردود الفعل تجاه المسلمين، مع مفهوم "الجماعة العرقيّة، أو الإتنيّة" الذي يعتبر من المفاهيم الرئيسة في علم الاجتماع. وكلمة "إتنيّة" مشتقّة من اليونانيّة، (Ethno) بمعنى شعب، أو أمّة، أو جنس. "وفي العصور الوسطى أطلق هذا اللفظ في اللغات الأوروبيّة على من هم ليسوا مسيحييّن أو يهودًا، ولكنّ في العصور الحديثة استخدم اللفظ في العلوم الاجتماعيّة ليشير إلى جماعة بشريّة يشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأيّ سمات أخرى مميّزة، بما في ذلك الأصل والملامح الجسمانيّة، ولكنّها تعيش في المجتمع نفسه والدولة نفسها مع جماعة أو جماعات أخرى تختلف عنها في إحدى هذه السمات"[2].
يُرجع مؤرّخو الحقبة الاستعماريّة أوّل استعمال لمفهوم "الإسلاموفوبيا – الذي يعني "رُهاب الإسلام" أو الخوف المرضي من الإسلام – إلى نهايّات القرن التاسع عشر وبدايّات القرن العشرين.
فقد استعمل علماء اجتماع فرنسيّون هذا المفهوم لوصف معاداة جزء من الإدارييّن الفرنسييّن للمجتمعات المسلمة التي كانوا يتولّون إدارة شؤونها في زمن الاحتلال، ورفضوا أن يتعايشوا معها، أو يندمجوا في أنساقها الاجتماعيّة، نظرًا لما تُمليه المهام الإداريّة والسياسيّة المسندة إليهم. ولذا يعتبر بعض الباحثين أنّ إحدى مهام الاستشراق كانت إعداد "الكفاءات" المناسبة للعمل في الإدارات الاستعماريّة، أمّا المهمّة الثانية فكانت الدراسات الميدانيّة للمجتمعات المسلمة[3].
تجدّد خطاب "الإسلاموفوبيا" بعد ما عرف ب 11 سبتمبر 2001 إثر الهجمات التي اتّهم تنظيم القاعدة بتنفيذها على برجيّ مركز التجارة العالميّ في نيويورك، والتي أتاحت للولايات المتّحدة الأميركيّة أن تشنّ حربًا عالميّة على الإرهاب "الإسلاميّ"، برّرت في كثير من الأقطار الغربيّة، خطابٌ سياسيّ وإعلاميّ "إسلاموفوبيّ" متطرّف، سعت الأحزاب اليمينيّة المتشدّدة في دول غربيّة عدّة إلى استثماره لتكريس الخوف من الإسلام والمسلمين وتوظيفه لغايات انتخابيّة، رفعت معها شعارات التهديد والخوف من "أسلمة أوروبّا".
كان من تداعيات هذا الخطاب اليميني "الإسلاموفوبيّ" تنامي الأعمال العدائيّة ضدّ المسلمين والعرب، فحرقت بعض المساجد وتعرّضت بعض المقابر للتدنيس في أكثر من مناسبة، كما ظهرت مجموعات من شبّان اليمين تعتدي من حين إلى آخر بشكل منظّم ومنهجي على المسلمين في شوارع وأزّقة المدن الأوروبيّة، وصولاً إلى دعوة بعض الأدباء والكتّاب إلى ما أطلق عليه رئيس "حركة من أجل فرنسا"، "فرنسا من دون الإسلام". والمقصود بذلك مواجهة الخطر الذي يشكّله الإسلام على مستقبل فرنسا[4].
كما استعادت الأزمة الماليّة العالميّة التي واجهتها أوروبّا في عام 2007 موجة كراهيّة جديدة ضدّ المسلمين، مع ادّعاء اليمين المتطرّف أنّ الهجرات القادمة من شمال أفريقيا والشرق الأوسط هي سبب الأزمة، لأنّ هؤلاء المهاجرين يُزاحمون الأوروبييّن الأصلييّن في الحصول على فرص العمل، ويُكلّفون الميزانيّة العموميّة نفقاتٍ باهظة، وهم في الوقت نفسه يبنون مستقبلهم في بلدانهم الأصليّة عبر استثمار ما يجنونه في المهجر[5].
لا يمكن تفسير الإسلاموفوبيا الغربيّة تجاه الإسلام والمسلمين ببعد واحد فقط. أيّ لا يمكن القول إنّها تعبير عن خوف الغرب من الإسلام. ثمّة أبعاد أخرى لهذه الإسلاموفوبيا، فعلاقات الغرب مع الإسلام والمسلمين ونظرته إليهم، لم تكن دائمًا وفق منوال واحد، بل مرّت بمراحل تاريخيّة مختلفة وشهدت تحوّلات تداخلت فيها عوامل ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة، حصلت في المجتمعات الإسلاميّة وفي المجتمعات الغربيّة، أنتجت "فوبيا" هي مزيج معقّد من الكراهيّة والاحتقار والاستعلاء والخوف.
تعود الإسلاموفوبيا في الذاكرة الغربيّة إلى التاريخ القديم، عندما وصل المسلمون إلى تخوم "الحضارة الأوروبيّة" ووقفوا على أبواب فيينّا. وإلى الحروب الصليبيّة التي خرجت فيها الجيوش من قلب أوروبّا في مدينة (Clermont Ferrant) الفرنسيّة "لتحرير" المدن المقدّسة في الشرق وفي فلسطين التي "احتلّها" المسلمون. ولا تزال كتب التاريخ والروايّات والأفلام السينمائيّة تستعيد تلك المرحلة من تاريخ الصدام الإسلاميّ – الأوروبي.
وما يؤكد رسوخ هذه الإسلاموفوبيا في الذاكرة الغربيّة، ما قاله الجنرال "اللنبيّ" الذي كان يقود القوّات البريطانيّة التي احتلّت مدينة القدس سنة 1917: "الآن انتهت الحروب الصليبيّة"، وكان أوّل غربيّ يدخل هذه المدينة منذ تحريرها على يد صلاح الدين الأيّوبي.
كذلك ما قاله قائد القوّات الفرنسيّة الجنرال "غورو" بعد اجتياح قوّاته مدينة دمشق إثر انتصارها في معركة ميسلون عام 1921، بعدما توجّه إلى قبر صلاح الدين الأيّوبي قائلاً "ها قد عدنا يا صلاح الدين". ما يعني أنّ تلك المرحلة من التاريخ التي حقّق فيها المسلمون انتصارًا على أوروبّا لم تمح من الذاكرة الغربيّة، ولم تخفِ الرغبة في الثأر ممّا حقّقه المسلمون في تلك المرحلة.
يمكن أن نطلق على المرحلة التي هيمنت عليها الرغبة في الثأر من التاريخ "مرحلة الكراهيّة". هذه المرحلة التي انقضت منذ مئات السنين، لا تزال في الواقع، وهذا أمر طبيعيّ من مكوّنات الذاكرة الغربيّة (الأوروبيّة) السلبيّة تجاه الإسلام والمسلمين، ولم تمح أو تنسَ، وهي تستعاد، في كتب التاريخ وفي الأفلام السينمائيّة وفي بعض الروايات التاريخيّة، لأنّ "المختلف ينحو دائمًا إلى أن يصبح عدوًّا... وجهنّم هي الآخرين، وكذلك الشرق هو الآخر"[6].
ساهم مفكّرون وفلاسفة أوروبيّون في تشكّل هذه الثقافة السلبيّة تجاه الإسلام والمسلمين. منهم كنموذج على سبيل المثال أرنست رينان، وهو من أعمدة الفكر في فرنسا طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1823 – 1892) وهو مؤرّخ، وفيلسوف، وعالم لغات. وقد زار سوريا ولبنان ومصر وتركيا واليونان... لكنّه ذهب إلى حد العنصريّة في الاستنتاجات التي اعتبر فيها "أنّ العقليّة السامية مضادّة للعلم والفلسفة، على عكس العقليّة الآريّة الأوروبيّة المحبّة لهما منذ زمن الإغريق، ولهذا تخلّف الشرقيّون وتقدّم الأوروبيّون"[7]، كما أطلق رينان في الخطاب الذي افتتح به عام 1862 درس اللغات العبريّة والكلدانيّة والسريانيّة في كولاج دي فرانس (College de France) سلسلة من التأكيدات الأسطورية والعرقيّة الطابع، يحدّد فيها ماهيّة المزايا الوراثيّة العليا العائدة للحضارة الغربيّة، التي تتناقض مع النواقص الوراثيّة للشرق:
"ما تزال إلى يومنا هذا الشعوب الهنديّة – الأوروبيّة والشعوب السامية على اختلافها الكامل. وأنا لا أقصد هنا اليهود، الذين كان لقدرهم التاريخي المتفرّد والمثير للإعجاب أن خصّهم بمكان استثنائي في الإنسانيّة... أمّا العربيّ على الأقل، والمسلم بمعنى أوسع، فهو اليوم أبعد ما يكون عنّا. ذلك أنّ المسلم والأوروبيّ هما، في مواجهة واحدهما الآخر، كائنان ينتمي كلّ منهما إلى جنس مختلف، لانعدام أوجه الشبه والمشاركة بينهما في طريقة التفكير والشعور"[8]... ولم يعرف الشرق أبدًا، وبخاصّة الشرق السامي، حيّزًا وسطًا بين الفوضى الشاملة التي اتّصف بها البدو الرحّل من العرب، والطغيان الدموّي والعبثيّ الجائر... وفي السياسة، كما في الشعر والدين والفلسفة، يبقى على الشعوب الهنديّة - الأوروبيّة، واجب البحث عن الأمور بكلّ دقائقها، كما عن التوفيق بين المتناقض من الأمور وتعقيداتها المجهولة تمامًا من الشعوب السامية والتي سبق لتنظيمها أن اتّصف على الدوام ببساطة مؤسفة وقاتلة... أمّا المشاعر الرقيقة، وتلك الأحلام الشغوفة، وذلك التجلّي العظيم للواجب. فهي كلّها صنعة عرقنا، ونتاج مناخنا... "
ينتهي خطاب رينان في هذا الصرح العلمي بالدعوة إلى تدمير العقيدة الإسلاميّة تدميرًا كاملاً: "في هذا الوقت، يتمثّل الشرط الأساس الضامن للانتشار الحضارة الأوروبيّة، في تدمير الشيء السامي تدميرًا كاملاً، وفي تهديم السلطة الثيوقراطيّة التي تقوم عليها العقيدة الإسلاميّة، ذلك أنّ هذه الديانة لا تستطيع إلى الوجود سبيلاً إلاّ كديانة رسميّة. بينما تندثر عندما تتحوّل إلى ديانة حرّة وفرديّة. والعقيدة الإسلاميّة ليست فقط دين الدولة، على غرار الكاثوليكيّة في فرنسا، وعلى غرار ما هي عليه اليوم في إسبانيا، وإنّما هي الديانة التي تقصي الدولة... والإسلام إنكار كامل شامل لأوروبّا، والإسلام تعصّب، وهو استخفاف بالعلم واحتقار له وقمع للمجتمع المدني. ومن شأن البساطة الفظيعة التي يتّصف بها الفكر السامي أن تقلّص الدماغ البشري، فتوصّده أمام كلّ فكرة مهذّبة وراقية، وكلّ بحث عقلانيّ، لكي تضعه أمام كلام يكرّر نفسه بشكل دائم دون أن يأتي بأيّ جديد... "[9].
ومن الطبيعيّ أن تساهم مثل هذه الآراء السلبيّة والعنصريّة تجاه الإسلام والمسلمين من شخصيّة مثل رينان في التبرير الفكريّ والفلسفي لمشاعر الكراهيّة تجاه الإسلام والمسلمين "الذين يفتقدون لأيّ بحث عقلانيّ، والذين يجب تدمير عقيدتهم تدميرًا كاملاً، لضمان انتشار الحضارة الأوروبيّة. كما ذهب إلى ذلك رينان.
عندما خرجت أوروبّا من حدودها في المرحلة الاستعماريّة في نهايات القرن الثامن عشر وبدايّات القرن التاسع عشر، ومع السيطرة الأوروبيّة على دول الشرق المسلمة، بحثًا عن الأسواق والثروات والمواد الأوّليّة التي تلبي حاجات مصانع أوروبّا الحديثة في تلك الفترة، طغى على الشعور الغربيّ تجاه المسلمين والمجتمعات الإسلاميّة، ما يمكن أن نعتبره مرحلة "احتقار".
في تلك المرحلة قدّم أغلب المستشرقين والرحّالة والفنّانين الغربييّن صورة نمطيّة عن الشرق، اتّسمت بالمجون والتخلّف والعادات الغريبة والحياة الاجتماعيّة المتخلّفة. وكان هؤلاء جميعهم يقارنون مشاهداتهم مع نمط الحياة الغربيّة. ويكفي أن نشاهد الكثير من الصور واللوحات التي تعجّ بالنساء ومجالس اللهو والشراب... التي رسمها فنّانون غربيّون لندرك طبيعة تلك الصورة التي تشكّلت في الذهن الغربيّ عن الشرق.
في هذه المرحلة تحوّلت معرفة المستشرقين بالإسلام، إلى عامل ثمين مساعد للفتوحات الكولونياليّة. ففي فرنسا انخرط أوائل المستشرقين في الجيش لتسهيل إدارة السكّان المحلييّن في المستعمرات. وقد ساهم الإرث الضخم الذي قدّمه هؤلاء، في بناء صورة الإسلام الحاليّة[10].
استعادت مؤلّفات "برنارد لويس" عن الإسلام، "هذه الديانة التي تشكّل خطرًا بالنسبة إلى الغرب"، والتي جاءت لتدعم أفكار هانتنغتون حول "صراع الحضارات"، اللغة الأكثر قدمًا في المناظرات الجدليّة الإسلاميّة – المسيحيّة التي عرفتها القرون الوسطى، واستعادة النظرة التحقيريّة التي كان ينظر بها إلى الشرق[11].
كما ساهمت مجموعة من الأحداث في استعادة هذا الخطاب "التحقيري" تجاه الإسلام والمسلمين. فالإسلام لا يمكن أن يتكيّف مع النموذج الحضاري الغربيّ، والحجاب تهديد للقيم المدرسيّة، ويتعارض مع العلمنة، ومع هويّة الدولة الفرنسيّة، وهو ليس سوى نكوص عن قيم الجمهوريّة وتراجع عنها، ولا يمكن للعلمانيّة أن تقبل بذلك. والأقلّيّات المسلمة في أوروبّا لا تريد الاندماج في المجتمعات التي تعيش فيها. وذهب حتّى بعض الفلاسفة مثل Pascal Bruckner إلى رفض مصطلح "إسلاموفوبيا" الذي يعني بالنسبة إليه استحالة أيّ نقد للإسلام الذي "يضّطهد المؤمنين" وهذا طبعا" مدان، و "يشكّك في باقي العقائد"، وهذا ما نرفضه. وعندما نمنع أي نقاش حول القرآن، وحول الممنوعات التي يفرضها، وعندما يدعونا "الإسلاموفوبييّن" إلى التمييز بين الإرهابييّن والمسلمين، فإنّهم يمارسون تشويهًا لا يحتمل بين التفكير الحرّ وبين النفاق. فكيف يحقّ لنا في فرنسا أن نسخر من يسوع، ومن البابا، ومن موسى، ومن الديلي لاما، ولكنّ ليس من محمّد خشية التهديد بالذبح. لماذا معيارين ومكيالين؟
لكي نفهم الواقع الحالي يقول Bruckner يجب أن ننطلق من واقع تاريخي مكثّف هو: جرح الإسلام أمام الحداثة الغربيّة التي لم يتمكّن من التكيّف معها. وهذا ما يفسّر ضعفه، والمعاناة التي يعيشها منذ قرن. أنّ العنف هو دائمًا من علائم العجز. أنّ جمهوريّتنا يكرهها الأصوليّون لا لأنّها تضطّهد المسلمين، بل لأنّها تحررّهم... " L’Express، 7/2/2017.
لقد اختصر الإسلام بتنوّعه العرقي والثقافيّ ب "الأصوليّة"، و "التطرّف"، و"الجهاد"، و "تعدّد الزوجات"، وبرفض العلمنة وعدم التكيّف... وفي الثمانينيّات تكيّف الخطاب الإعلاميّ مع اللحظات الساخنة التي عاشتها فرنسا...[12].
من العداء لليهوديّة إلى العداء للإسلام
انتقل هذا التعصّب العرقي والدينيّ بتبريراته الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، من الوصف النمطيّ الذي عرف عن اليهوديّ في التقاليد المسيحيّة... ذلك "الكائن الغريب، الخطير، الفاسد والمفسد، والمتمرّد على قيم المجتمع المسيحيّ وعقائده وقناعاته... والذي يستحقّ سوء المعاملة والمهانة، والعزل والتهميش، والقتل، وحتّى الإبادة الجماعيّة في أوروبّا بكلّ راحة ضمير... إلى العقيدة الإسلاميّة التي ألصق بها اليوم كلّ تلك الخصائص التي أشرنا إليها لليهوديّ، أي المنفّر، والقبيح...
لذلك نرى أنّ الشرق اليوم ما عاد الشرق السلافي، أو الشرق الأصفر، وإنّما الشرق المسلم. وأصبح كيان الإسلام بالتالي، وخلال عقود قليلة فقط كيانًا حيًّا مهدّدًا، نقيضًا للغرب تمامًا "... والصور التي تشكّلت في المخيّلة الغربيّة وقدّمتها بعض الأدبيّات الأكاديميّة والصحفيّة هي لشرق جبّار هائل القوّة والحجم: نساء خاضعات مستعبدات، ميل إلى الإرهاب، غياب للقيم الفرديّة، تعصّب دينيّ، كراهيّة للإنسان الغربيّ بشكله المسيحيّ واليهوديّ، جرائم شرف، طغاة دمويّون احتجاز للرهائن... وفي مواجهة هذا كلّه، يظهر الجبّار الغربيّ هائل القوّة وعظيم الحجم، لكنّه ديمقراطي النزعة، مؤمن بالفردانيّة محترم لها، حكيم بصير، حريص على التقدّم، ورغد العيش، مجلّ لحقوق المرأة والأقلّيّات، ومحترم لدين وهويّة كلّ فرد أيًا كان..."[13].
ساهم الاحتلال المباشر لبلاد المسلمين في الجزائر وتونس والمغرب وسوريا وليبيا ومصر وصولاً إلى الهند وباكستان... في تشكّل هذه النظرة الاستعلائيّة التي يحملها أيّ محتلّ عن أيّ شعب يحتلّه. وهذا الاستعلاء هو أحد ضرورات ومبرّرات هذا الاحتلال. فادّعى الفرنسيّون أنّهم احتلّوا الجزائر (مائة عام) لتمدينها ونقل الحضارة إليها. كذلك قال البريطانيون عندما احتلّوا العراق، وعندما احتلّوا الهند في مطلع القرن العشرين. وكما كان هذا الاحتلال من أجل التمدّن والتحضّر في الماضي، يتكرّر اليوم بذريعة الديمقراطيّة والحرّيّات، في أنحاء مختلفة من العالم (أفغانستان والعراق على سبيل المثال في 2002 و2003).
الدولة التي تأتي لتحتلّ وتعتبر نفسها صاحبة رسالة تمدين للشعوب التي احتلّتها، يعني ضمنًا أنّها تحتقر هذه الشعوب التي "تفتقد الحضارة والمدنيّة". وهي بالتالي لن تقيم أيّ اعتبار لثقافتها أو لعاداتها وتقاليدها لأنّها "ثقافات أدنى". وهذا ما يطلق عليه البعض "العنصريّة الثقافيّة"، التي تقوم على الحط من قدر الثقافات الأخرى[14].
في هذه المرحلة التي استمرّت عقودًا طويلة من الاحتلال، وصلت إلى نحو مئة سنة قبل أن تخرج فرنسا من الجزائر، وقبل أن تحصل الدول العربيّة والمسلمة على استقلالها، في منتصف القرن العشرين، مع خروج القوّات الأجنبيّة من أراضيها، انتقل "الاحتقار" من المشاعر النفسيّة والممارسات التعسّفيّة بحقّ الشعوب المحتلّة، إلى الكتب والمناهج الدراسيّة التي قدّمت العرب خاصّة والمسلمين عامّة، باعتبارهم شعوب صحراء لا يمتلكون أيّ قيم ولا أيّ حضارة. ثمّ انتقل الأمر إلى السينما التي قدّمت المسلمين عربًا أثرياء يبذّرون المال بحثًا عن الملذّات والنساء. "ومن الواضح أنّ الصورة التي نستخلصها للعرب من تحليل كتب القراءة للمرحلة الابتدائيّة في المدارس الفرنسيّة، لن تولّد لدى التلاميذ إلاّ صورة مزيّفة عن الآخرين وعن أنفسهم. فهي توحي للتلاميذ الفرنسييّن، اقتباسًا من الماضي، بإحساس التفوّق الطبيعيّ، كما توحي للتلاميذ من ذوي الأصل العربيّ بإحساس سلبيّ ناشئ عن تحقير شأنهم وتشويه صورتهم. ومن شأن الخجل المكبوت لدى الصغار من ذاتهم أو من ذويهم أن يولّد في نفوسهم ضيقًا وعذابًا قد يتحوّلان فيما بعد إلى اختلال في النظام أو إلى ثورة موجّهة ضدّ المصدر الدافع إلى رفضهم وتحقيرهم هم وذويهم"[15]. بحيث ستساهم هذه الكتب في تشكيل وعي سلبيّ لدى الأجيال الفرنسيّة الجديدة تجاه الإسلام والمسلمين. وعندما تقوم وسائل الإعلام بالتحريض المباشر ضدّ مسلمين نفّذوا عمليّة تفجير أو اعتداء مسلّح، لا يتفاجأ الوعي الغربيّ بهذا الأمر ففي الذاكرة، وفي الثقافة المدرسيّة والسينمائيّة، ما يبرّر هذا التحريض ويتفاعل معه سياسيّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.
حصلت تحوّلات كثيرة في أوروبّا نفسها وفي بلاد المسلمين منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم بعد أن انتهت مرحلة الاستعمار وحصلت أغلب الدول العربيّة والإسلاميّة على استقلالها. بعد هذا التاريخ ستتغيّر نظرة الطرفين إلى بعضهما.
تقليد الغرب:
ما أن حصلت الدول والحكومات الإسلاميّة على استقلالها منذ منتصف القرن العشرين، حتّى تطلّعت إلى الغرب الذي كان محتلاّ لتقتدي به وتنقل عنه كيفيّة بناء مؤسّساتها وجيشها وجامعاتها وإداراتها. في هذه المرحلة ستنشأ علاقة مركّبة ومتفاوتة. العرب والمسلمون يقلّدون الغرب ويقتفون أثره في إعادة بناء مؤسّساتهم ومدارسهم وجامعاتهم. والدول الغربيّة تتعامل مع المسلمين من منظور المصالح التجاريّة، والنفطيّة، والثقافيّة. أيّ أنّ العلاقات بين الطرفين لم تعد علاقة احتلال ومحتلّ، بل علاقة بين متقدّم ومتأخّر. بين عالم أوّل وعالم ثالث، أو بين شمال وجنوب. أيّ أنّها ليست علاقات احتلال، ولكنّها ليست علاقات ندّيّة في الوقت نفسه. ومن الطبيعيّ أن تستبطن العلاقات غير الندّيّة بين متقدّم ومحتلّ سابق، مع متأخّر، نوعًا من الاحتقار الضمنيّ.
"لقد عمّ الفرح عند الاستقلال: فقد تخلّص المغاربة من الوجود الأجنبيّ، وباتوا أخيرًا "لوحدهم"... لكنّ سرعان ما تبيّن لهم أنّهم لم يكونوا كذلك. فالمثقّف الذي لم يتخلّص إزاء الثقافة المهيمنة من "الأب" الثقافيّ، كان لا يستطيع أن يقف على قدميه من دون راسين أو فيكتور هوغو، أو مالاراميه، أو بروست، أو سارتر، أو ليفي ستروس... كما أنّ العامل في إصلاح السيّارات، أو في مهنة أخرى لم يكن بإمكانه التعبير عن الأدوات التي يستخدمها أو يريد إصلاحها إلاّ بالفرنسيّة"[16].
المسلمون المهاجرون في أوروبّا
ساهمت الهجرات الكثيرة من الدول العربيّة والإسلاميّة إلى أوروبّا منذ مطلع القرن العشرين، والتي سمحت بها أوروبّا نفسها نظرًا لحاجتها إلى الأيدي العاملة، في تشكّل هذا البعد الجديد والمعاصر للإسلاموفوبيا. أيّ الخوف من الإسلام في الداخل الأوروبي. لم يعد الإسلام في هذه المرحلة ذاكرة بغيضة، أو ثقافة متخلّفة، أو أثرياء، ونفطًا، وصحراء... بات الإسلام مكوّنًا أوروبيًّا داخليًّا مجتمعيًّا واقتصاديًّا وسياسيّا يصعب تحديد الخيارات الأفضل في التعامل معه.
بات الأمر بالنسبة إلى السلطات الفرنسيّة على سبيل المثال "كيف يمكن التوفيق بين عدّة سياسات متناقضة" التي شكّل الإسلام "كدين وجماعة" (ممارسات عباديّة وثقافيّة) عاملاً مركزيًّا فيها. بحيث بات الإسلام موضوعًا لكلّ السجالات بين ما أصبح يطلق عليه "الإسلام في فرنسا" و"إسلام فرنسا"[17].
في أثناء الحرب العالميّة الأولى ولدت هذه البنية المزدوجة "للإسلام في فرنسا" و"لإسلام فرنسا". وكانت المسألة الجزائريّة في قلب هذا السجال.
كانت فرنسا تعتبر نفسها "قوّة مسلمة" نظرًا لوجودها (كدولة محتلّة) في بلدان مسلمة عدّة، خاصّة في شمال أفريقيا (بلدان المغرب العربيّ). لذا كان مشروع تأسيس مسجد باريس في عام 1920 رمزًا لفرنسا كقوّةٍ مسلمةٍ. ومنذ هذه اللحظة ستتشكّل ازدواجيّة بين "إسلام فرنسا" و"الإسلام في فرنسا". كان مسجد باريس هو التعبير عن الوجه الأوّل "إسلام فرنسا" (الحكومي) في حين كانت البنى الأخرى تعبيرًا عن الوجه الثاني أيّ "الإسلام في فرنسا"، (غير الرسمي)[18].
وتعبيرًا عن هذا الاهتمام بالإسلام في فرنسا، وانسجامًا مع رغبة فرنسا في تقديم صورة إيجابيّة عن نفسها في بلاد المسلمين شكّلت لجنّة عام 1864 (أثناء الاحتلال الفرنسيّ للجزائر) لدراسة مشروع تأسيس مسجد في باريس. لكنّ هذه اللجنة اقترحت ما هو أهمّ من بناء المسجد فقط. فقد عرضت أن يتمّ بشكل متزامن في باريس ومرسيليا (حيث الكثافة من المسلمين) تشييد مسجد ومؤسّسة تعليميّة ثانويّة، ومقبرة.
كانت تلك الاقتراحات والمشاريع أساس النقاشات المستقبليّة بين مؤيّد ومعارض حول قضيّة العلاقة مع الإسلام ومع المسلمين في فرنسا، والتي تناولت:
- مركزيّة المسألة الجزائريّة في كلّ المشاريع المتعلّقة بإقامة المسلمين في فرنسا، بحيث كانت هذه المسألة في قلب كلّ الإجراءات والسياسات الفرنسيّة تجاه المسلمين في فرنسا.
- عدم التوافق بين الأوضاع المدنيّة والأوضاع الدينيّة. فالمسلم لا يعترف إلاّ بالقوانين القرآنية، وهذا لا يتوافق مع القوانين المدنيّة الفرنسيّة.
كان المقصود من هذه الإجراءات "إظهار حسن نوايا فرنسا تجاه الدين الإسلاميّ، وهو ما أطلق عليه "سياسة فرنسا الإسلاميّة"، خاصّة تجاه الجزائريّين والتونسييّن الذين تحتلّ فرنسا بلدانهم. لكنّ هذه المشاريع أثارت ردّات فعل حادّة في الصحافة الفرنسيّة، ومقالات معادية لها. فكتبت جريدة لوموند على سبيل المثال في 30 حزيران 1895: "في السابق ذهب فرسان فرنسا لقتال المسلمين في الأراضي المقدّسة، أمّا اليوم، فإنّ أحفاد الصليبييّن يشيدون مسجدًا في باريس لأحفاد أولئك الذين قاتلناهم... ".
عام 1916 مع بدايّات الحرب العالميّة الأولى أعيد طرح موضوع المسجد في إطار ضرورات السياسة المسلمة للدول المستعمرة (الكولونياليّة). وحتّى عام 1919، كان النقاش لايزال مستمرّا حول الصيغة الملائمة للتعبير عن هذا الاهتمام الفرنسيّ بالمسلمين. فطرحت على سبيل المثال بدلاً من تسمية "المسجد" التي أثارت الكثير من النقاش والاعتراض، تسمية "الجامعة الإسلاميّة"، و"المعهد الإسلاميّ"، و "الكليّة الإسلاميّة"، و "الدائرة الإسلاميّة"، و "المؤسّسة الإسلاميّة"...[19].
تطوّر وجود المسلمين في فرنسا منذ الحرب العالميّة الأولى. فنقص الأيدي العاملة دفع السلطات إلى الطلب من وزارة الحرب تجنيد عمّال جزائريّين من مناطق السيطرة الاستعماريّة. وفي خلال عامين وصل نحو 78 ألف جزائريّ إلى العاصمة الفرنسيّة للعمل في مصانع السلاح والتجهيزات العسكريّة.
إلى هذه الأيدي العاملة، تمّ تجنيد عشرات الآلاف من الجزائريّين للقتال في صفوف الجيش الفرنسيّ وسقط منهم على أرض المعركة نحو 25 ألف مقاتل. وفي المجموع تمّ جذب 240 ألف جزائريّ إلى الأراضي الفرنسيّة. وفي عام 1922 بلغ عددهم 45 ألفًا، وبعد سنتين أصبحوا 75 ألفًا. ونحو100 ألف في نهاية العقد، وقد توزّعوا في المدن الصناعيّة الكبرى.
الحرب العالميّة الثانية أدّت إلى التعامل بالطريقة نفسها مع الجزائريّين: تطويع في الجيش، وتوظيف في المصانع العسكريّة في البداية، ثمّ في أعمال البناء. ووضعت الخطط لجلب نحو 100 ألف عامل خلال أربع سنوات.
لقد كشفت هذه الحاجة أنّ "الأبيض" الذي يحتاج إلى الآخرين لحمايته والدفاع عنه ليس ذلك الكائن المتفوّق الذي يرونه في بلدانهم. لكنّ صورة أخرى تشكّلت لهؤلاء الجنود والعمّال الذين قاتلوا إلى جانب الأوروبييّن، عندما سكنوا في الضواحي الصناعيّة، كعمّال أمييّن، غير متخصّصين، محتقرين، ومهمّشين..."[20].
أرادت فرنسا في نهاية الحرب العالميّة الأولى أن تظهر تعاطفًا واعترافا بجميل الجنود المسلمين الذين سقطوا بشرف دفاعًا عن فرنسا في تلك الحرب. فاستقرّ الرأي أخيرًا على تأسيس "المعهد الإسلاميّ" وليس "المسجد". وكان ينبغي انتظار عام 1920 لكي يصدر مشروع قرار تأسيس "المعهد" في باريس. وفي عام 1926 تمّ تدشين وافتتاح هذا المعهد الذي سيصبح سفارة الإسلام في فرنسا. لكنّ مع هذا المعهد أيضًا سينتقل مركز السياسة المسلمة بوجهها الديبلوماسي من المغرب إلى باريس، وستصبح السياسة الفرنسيّة تجاه مسلمي فرنسا، شأنًا داخليًّا يخضع للأقسام الخاصّة في الدوائر الإداريّة وفي المراقبة وفي الأجهزة الأمنيّة والبلديّة في باريس. وعندما جاء مسلمو شمال أفريقيا للعمل في فرنسا، أدّت الإجراءات التي اعتمدت لاستقبال هذه الأيدي العاملة وإدارتها، إلى تجميعهم، وإلى عزلهم عن باقي المجتمع الفرنسيّ.
إنّ إشكاليّة هذه الاقتراحات، التي أرادت تنظيم علاقة فرنسا بـ "مسلميها" من خلال "استيعاب ثقافتهم"، أنّها لا يمكن أن تمر إلاّ عبر "الهويّة الدينيّة". أي أنّ الاعتراف بالآخر (الجزائريّ والمغربيّ والتونسي) واستيعاب ثقافته لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال هويّته الدينيّة. لكنّ هذه الهويّة نفسها ستصبح بالمقابل عقبة أمام اندماجه"[21].
تواصلت الهجرة من بلدان إسلاميّة أخرى غير الجزائر، من السنغال التي شارك مهاجروها أيضًا في الحرب العالميّة الأولى، كقنّاصة في الجيش الفرنسيّ، وقدّموا تضحيات كبيرة في تلك الحرب. وبقي قسم منهم بعد الحرب العالميّة الثانية للعمل في فرنسا. وهناك المغاربة أيضًا الذين على عكس الجزائريّين كانوا قلّة قبل استقلال بلادهم عام 1956. التونسيّون لم يتجاوز عددهم حتّى عام 1954 نحو 5000. كذلك الأمر بالنسبة إلى هجرات أخرى من تركيا (بلغ عددهم عام 1973 نحو 45 ألفًا) ولاحقًا من بلدان الشرق الأوسط مثل لبنان وسوريا ومصر وبعض الدول الآسيويّة مثل الباكستان، ومسلمين هنود...[22].
"هذا الإسلام المنغرّس الذي لم نكن نعيره أيّ اهتمام، تحوّل إلى معضلة كبيرة للمجتمع الفرنسيّ، الذي بدأ يتساءل عن هويّته، وعن هذا "الآخر" المسلم الذي يجاوره ولا يعرفه جيدًّا.
لقد انتقلنا من إسلام "الاهتمامات السفلى"، بحسب تعبير برونو إتيان، إلى إسلام الصفحات الأولى في وسائل الإعلام، حيث التعبير عن القلق من "التعصّب" و"التشدّد"، والتطرّف"[23].
لقد بات النقاش حول الإسلام قاسيًّا ومؤلمًا، وتراوح الخطاب في هذا النقاش عن هذا الإسلام "المهاجر" بين الرفض التام، مدفوعًا بالجهل وعدم المعرفة، وبين القبول الحذر، استجابة لشعارات التعدّديّة الثقافيّة. لكنّ ذلك لم يخف تلك الأبعاد الانتروبولوجيّة في مقاربة قضيّة مثل قضيّة "الفولارد" (الحجاب)على سبيل المثال، والتي كشفت عن مركزيّة ثقافيّة حيث الـ "نحن" تجسّد العقلانيّة، والحضارة، في مقابل الـ "هم" رمز البدائيّة والتخلّف... وتراوح التعامل مع هذه القضيّة بين ممارسة الضغوط لإخضاع المسلمين للشروط الثقافيّة الغربيّة، (منع الحجاب دفاعًا عن علمانيّة الدولة في فرنسا) وبين احترام حرّيّة الرأي والمعتقد والزيّ، وبين الخوف من تنامي أعداد المسلمين وتوسّع عاداتهم وتقاليدهم في البيئات الغربيّة.
بحيث ذهب البعض إلى اعتبار أنّ ثمّة استحالة في تكيّف الإسلام مع الإرث الفرنسيّ، اليهوديّ – المسيحيّ. فهجرة المسلمين تصدم أوّل أسطورة مؤسّسة لفرنسا: البلد ذو التراث المسيحيّ، الغربيّ والأوروبي. والأوروبيّة هنا هي نتاج إرث ثلاثي يونانيّ، ورومانيّ، ويهوديّ – مسيحيّ. والذي يتلخّص عادة بثلاثيّة: القدس، وأثينا، وروما.
جرت هذه النقاشات في بيئة من "التوتّر الإيديولوجي"، ومن الانغلاق المتزايد على الذات. لكنّ ذلك كلّه، لم يقفل باب النقاش حول الإسلام في الغرب المستمرّ منذ القرون الوسطى حتّى أيّامنا هذه[24].
لقد شهدت الدول الأوروبيّة تحوّلات عميقة من جرّاء موجات الهجرة الوافدة خلال القرن العشرين. وقد بدأت أوائل هذه الموجات خلال العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب العالميّة الثانية عندما بدأت بلدان البحر الأبيض المتوسط بتزويد بلدان الشمال والغرب في أوروبّا بالأيدي العاملة الرخيصة. وكان العمّال المهاجرون من تركيا وشمال أفريقيا واليونان وحتّى من المناطق الجنوبية من إسبانيا وإيطاليا يقابَلون بالترحاب من جانب الدول المضيفة التي كانت تعاني نقصًا حادًّا في الأيدي العاملة. كما أنّ الدول التي كانت تبسط سيطرتها الاستعماريّة على مناطق عديدة في العالم سمحت بدخول العمّال الوافدين إليها من مستعمراتها السابقة. ويصدق ذلك على تدفّق العمّال الجزائريّين إلى فرنسا، والأندونيسييّن إلى هولّندا، والمهاجرين من شبه القارّة الهنديّة إلى بريطانيا[25].
كانت معظم الهجرات الإسلاميّة إلى أوروبّا، التي حصلت في مطلع القرن العشرين، من أوساط الطبقات الاجتماعيّة الدنيا التي أتت بحثًا عن عمل. لكنّ هؤلاء المهاجرين عندما وصلوا إلى "الأرض الموعودة"، وجدوا صعوبة في التكيّف مع نمط الحياة الغربيّة، ومع قيم هذه الحياة الأسريّة والأخلاقيّة التي تتعارض مع قيمهم الإسلاميّة والشرقيّة المحافظة، فآثروا الانعزال في أحياء خاصّة، أملاً في حماية هذه القيم الدينيّة والأخلاقيّة. لكنّ هذه العزلة، فاقمت النظرة السلبيّة الغربيّة إليهم وإلى عاداتهم وطريقة عيشهم. بحيث بات المهاجرون يعيشون حالة صراع نفسي وسلوكي واجتماعيّ بين التمسّك بقيمهم الدينيّة من جهة، وبين ضغوط القيم الغربيّة السلوكيّة والأخلاقيّة الجديدة غير الدينيّة من جهة ثانية.
بات المهاجر المسلم أمام خيارات ثلاثة: إمّا الاندماج في الثقافة الغربيّة، والتخليّ التدريجي عن الضوابط والقيود الأخلاقيّة التي تربّى عليها في أسرته، أو التمسّك بهذه الضوابط ورفض الاندماج في المجتمع الغربيّ، أو البقاء عالقًا بين هويّتين دون الشعور بالأمان في أيّ منهما. وسيشهد مجتمع المهاجرين هذه النماذج الثلاثة في عمليّات التكيّف التي لجأ إليها بحثًا عن الأمان النفسي والاجتماعيّ.
لم يشكّل هؤلاء المهاجرون/ العمّال أيّ قلق للمجتمعات الغربيّة في البداية، بسبب قلّة أعدادهم من جهة وبسبب طموحاتهم البسيطة التي كانت تتلخّص في الحصول على بعض المكتسبات مثل تحسين نوعيّة المسكن والإقامة القانونيّة والتحاق عائلاتهم بهم. أيّ لم يكن لهؤلاء المهاجرين في البداية أيّ تأثير في محيطهم حيث يعملون أو يعيشون. كما لم يكن انتماء هؤلاء إلى الإسلام يثير أيّ قلق جدّي في البيئات الغربيّة التي سمحت لهم بالقدوم بسبب حاجتها إليهم. فمن كان يريد إقامة شعائره الدينيّة مثل الصلاة على سبيل المثال، كان يفعل ذلك غالبًا، إمّا خلسة بشكل منعزل في مكان العمل، أو يؤجّل ذلك إلى حين عودته مساء إلى المنزل.
لكنّ تحوّلات جوهريّة حصلت ببطء وأدّى تراكمها إلى تغيير في طبيعة علاقات المسلمين في أوروبّا مع المجتمعات التي يعيشون فيها، وساهمت إلى حدّ كبير في تبلور ظاهرة الإسلاموفوبيا المعاصرة.
فعلى مستوى الداخل الأوروبي تزايدت أعداد المهاجرين تدريجيًا خلال العقود الماضية، ولم تتمكّن، ولم ترغب في الوقت نفسه السلطات الأوروبيّة من وقف تدفّق هذه الهجرة بمستوياتها كافّة (هجرة الأدمغة وهجرة العمالة البسيطة) إلى الأرض الأوروبيّة التي أتت للبحث عن عمل. وعلى الرّغم من كثير من مظاهر الاعتراض والاستياء من الأحزاب اليمينيّة التي وقفت في وجه هذه الهجرة وحمّلتها مسؤوليّات التردّي الاقتصادي، وتهديد الهويّة الثقافيّة الأوروبيّة، إلاّ أنّ السلطات الأوروبيّة لم تتّخذ قرار وقف هذه الهجرة بسبب حاجتها إلى الأيدي العاملة والشابّة. ما جعل وضع المهاجرين على مستوى الداخل الأوروبي بين حدّين متناقضين ومتعارضين: الأوّل هو الحاجة إليهم مهنيًّا، وفتح الأبواب لهم للمجيء إلى أوروبّا، والثاني هو التعامل معهم، عندما يأتون إلى أوروبّا ويعيشون فيها، كمصدر للقلق وعدم الاطمئنان.
في موازاة هذه الازدواجيّة الأوروبيّة تجاه المهاجرين المسلمين، عاش هؤلاء أيضًا ازدواجيّة مماثلة من التناقض والقلق تجاه المجتمعات الأوروبيّة التي يعيشون فيها. فقد سمحت القوانين الأوروبيّة للمهاجرين بالقدوم إلى أوروبّا، وأتاحت لهم إلى حدّ بعيد، ممارسة عاداتهم ولبس أزيائهم (الحجاب)، لكنّ ما أتاحته هذه القوانين لم يمنع في الوقت نفسه تشكّل بيئات من التحريض الإعلاميّ والسياسيّ والأمنيّ ضدّ وجودهم، بعدما آثروا العيش والسكن في مناطق متجاورة مع عرب ومسلمين آخرين، أتاحت لهم الحصول على شعور بسيط من الاندماج الاجتماعيّ والثقافيّ. هذه البيئات من التحريض سوف تزداد تفاقمًا بوجه ما عرف ب "سكّان الضواحي" حيث يعيش المسلمون معًا في أحياء تكاد تقتصر عليهم، وبسبب عوامل خارجيّة، سوف تلعب دورًا مهمًّا في تغيير نظرة المسلمين إلى أنفسهم وفي تغيير نظرة الأوروبييّن إليهم.
بدأ التحوّل في نظرة المسلمين إلى أنفسهم تدريجيًّا بعدما استجابت القوانين الأوروبيّة لطلبهم الحصول على أماكن خاصّة للصلاة، تحوّلت لاحقًا إلى مساجد يؤمّها المصلّون، وتقام فيها المناسبات الإسلاميّة، وتعقد فيها اللقاءات الاجتماعيّة، وتشرح فيها الدروس الفقهيّة وتلقى فيها خطب الجمعة أسبوعيًّا.
التحوّل الثاني حصل بعدما تمكّن المسلمون من إيجاد أماكن وأسواق خاصّة بهم لشراء ما يحتاجونه من طعام (اللحم الحلال). فقد شكّلت هذه القضيّة أزمة كبيرة للجيل الأوّل من المهاجرين الذين لم يعرفوا كيف يتعاملون مع هذه المسألة. فهم من جهة يحتاجون إلى تناول اللحم، وهم من جهة ثانية لا يستطيعون شراءه من السوق المحلّي (الأوروبي) لأنّه غير مذبوح على الطريقة الإسلاميّة.
أتاح حصول المسلمين على هذين الأمرين (مكان العبادة، وشراء اللحم الحلال) بالإضافة إلى ارتداء الحجاب في الأماكن العامّة، بداية تبلور هويّتهم الخاصّة التي كانت تشكّل مصدر قلق لهم في قلب المجتمع الأوروبي. أي أنّ مسلمي أوروبّا حصلوا على ثلاثة مكوّنات أساسيّة من مكوّنات الهويّة الثقافيّة الخاصّة:
- أماكن ممارسة العبادة (البعد العقيدي)
- أماكن شراء الطعام الحلال (البعد الشرعي للغذاء)
- ارتداء الحجاب (الزيّ المرتبط بالهويّة)
ساهمت هذه المتغيّرات الثلاثة في تغيير نظرة المسلمين إلى أنفسهم، فباتوا يشعرون بأنّهم "جماعة" وليسوا مجرّد أعداد من المسلمين. وباتوا يشعرون بأنّهم مختلفين عن أقرانهم من الغربييّن الذين يعيشون بينهم، وباتوا أحرارًا، لهم زيّهم الخاصّ وطعامهم، وأماكن عبادّتهم. ولم يعودوا مرغمين على التخفّي للصلاة، أو على شراء ما لا يحلّ أكله، أو على عدم الخروج بسبب الحجاب.
كان هذا التحوّل في الوقت نفسه بداية انفصالهم غير المعلن عن المجتمع الغربيّ الذي يعيشون في داخله. بحيث بدأت تتشكّل أسواق خاصّة بالمهاجرين لبيع اللحوم والثياب والمنتجات الآتية من بلادهم، وكانت هذه الأسواق بطبيعة الحال ملاصقة لأماكن سكنهم التي تحوّلت بمرور الوقت إلى "ضواحي" بالمعنيين الاجتماعيّ والسياسيّ. وسيكون لهذه الهويّة أبلغ الأثر على تحوّلات الإسلاموفوبيا في الداخل الأوروبي. بحيث سنشهد لاحقًا عندما يثار النقاش حول الإسلام والمسلمين في أوروبّا، تداخلاً بين انتقاد سكّان الضواحي في باريس وبين انتقاد الإسلام نفسه.
لم يكن لهذه المستويّات الثلاثة التأثير نفسه في تغيير أوضاع المسلمين وفي التأثير على علاقة الأوروبييّن بهم. فالأسواق والمتاجر الخاصّة وأماكن بيع اللحوم، والمطاعم التونسيّة والجزائريّة، والأفريقيّة وسواها التي انتشرت بشكل واسع، لم تحدث أيّ استفزاز، في البيئة الأوروبيّة بمستوياتها الشعبيّة والنخبويّة. بل على العكس كانت هذه المطاعم والمحال موضع ترحيب، يرتادها الأوروبيّون ويتذوّقون فيها أطعمة جديدة ذات مذاق خاصّ، تحوّلت بمرور الوقت إلى جزء من قائمة الطعام الفرنسيّة أو البريطانيّة أو سواها. لكنّها مع ذلك لم تؤدّ إلى اتّساع بيئة قبول المسلمين ودمجهم.
بدأت مؤشّرات الصدام مع المستويين الثاني والثالث: أيّ الحجاب والمسجد. الأوّل يتحمّل مسؤوليّته الغربيّون، بعدما اتّخذت بعض الدول مثل فرنسا موقفًا عدائيًّا تجاهه. والثاني تتوزّع المسؤوليّة عن دوره في الإسلاموفوبيا بين المسلمين والغربييّن.
أمّا التحوّل الأشدّ خطورة بالنسبة إلى الغربييّن، الذي شكّل بالنسبة إليهم تهديدًا وجوديًّا، هو ذاك الذي نتج عن تلك الدراسات والإحصائيّات التي بدأت تدقّ ناقوس خطر التغيّر الديموغرافي في أوروبّا استنادًا إلى تراجع نسبة الولادات الأوروبيّة، وتزايد أعدادها عند المسلمين. نشرت تلك الدراسات القلق في أوروبّا التي تحوّلت إلى مجتمعات هرمة، ستفقد هويّتها بمرور الوقت مع استمرار هذا التزايد في هجرة المسلمين وفي تزايد أعداد ولاداتهم في أوروبّا.
إنّ كثافة الهجرة العالميّة منذ الحرب العالميّة الثانية، وخلال العقود الأخيرة، على وجه التحديد، أصبح قضيّة سياسيّة مهمّة في كثير من البلدان. كما إنّ تصاعد معدّلات الهجرة في العديد من المجتمعات الغربيّة أصبح يثير التساؤل حول المفاهيم الشائعة عن الهويّة الوطنيّة، ما أدّى في جانب منه إلى إعادة النظر في معنى المواطنة في تلك البلدان"[26].
أصبحت قضيّة الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي من خارج بلدانه، واحدة من أكثر القضايا الإشكاليّة سياسيّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. حتّى أنّ هذه الهجرة كانت أحد أسباب رغبة بريطانيا في الخروج من هذا الاتحاد بعد استفتاء شعبي لجأت إليه في حزيران/يونيو 2016. خاصّة بعد تفاقم أزمة اللاجئين السورييّن وتخبّط دول الاتحاد في معالجتها.
في هذا الإطار من القلق الديموغرافي الثقافيّ اعتبر 43% من الألمان، عام 2016 أنّ وجود المسلمين "يشكّل تهديدًا للهويّة الألمانيّة". في حين كانت هذه النسبة 40 في المئة عام 2010.
كما وقف رئيس هنغاريا Victor Orban علانيّة ضدّ استقبال المهاجرين، واعتبر نفسه مدافعًا عن "أوروبّا المسيحيّة المهدّدة". كذلك فعلت منظّمة "مواطنون أوروبيّون ضدّ أسلمة الغرب في ألمانيا (PEGIDA) التي نظّمت عشرات التظاهرات في مناطق عدّة من ألمانيا ضدّ هجرة المسلمين.
يرتبط هذا الخوف من الهجرة بالمستقبل. "أنظروا إلى الشباب في ألمانيا، كم هو عدد المتحدّرين من الهجرة. ربّما كانوا أقلّيّة اليوم. ولكنّ هل سيبقى الحال على ما هو عليه بعد 20 أو ثلاثين سنة؟"[27].
وفي استبيان وزّعته مؤسّسة (Chatam House) على مواطني بلاد مثل النمسا، وبلجيكا، وفرنسا، وألمانيا، واليونان، وهنغاريا، وإيطاليا، وبولونيا، وإسبانيا، والمملكة المتّحدة، كان السؤال هو التالي: "هل تعتقد أنّ على بلدك أن يقفل الأبواب أمام المهاجرين؟". النتيجة كانت واضحة: بات انتشار الإسلاموفوبيا على نطاق واسع في مجمل البلاد الأوروبيّة "[28].
ولا يتردّد "كلود لومبير" عضو "المجلس الأعلى للدمج" ومؤسّس وناشر مجلّة لوبوان (Le Point) الأسبوعيّة الفرنسيّة في تأكيد القول: "أنا إلى حدّ ما إسلاموفوبيّ. نحن لنا الحقّ في محاربة العنصريّة وفي قبول الممارسات السلميّة للإسلام. ولي الحقّ، في الاعتقاد، ولست وحدي من يفكّر هكذا، أنّ الإسلام، وأؤكد أنّ الإسلام كدين وليس الإسلامييّن، يستحضر مجموعة من الخرافات الماضية، وطريقة مهينة في معاملة المرأة، ويجعل شريعة القرآن فوق قوانين الدولة. وهذا ما يجعلني إسلاموفوبيّ"[29].
نتج هذا "الخوف" من مجموعة من التحوّلات المهمّة التي حصلت منذ مطلع الثمانينيّات، والتي سيكون لها تأثير كبير في تشكّل الإسلاموفوبيا المعاصرة التي تخشى من الإسلام والمسلمين. ولن تقتصر هذه الإسلاموفوبيا على "تهديد" المسلمين المفترض لنمط الحياة الغربيّة، أو للاستقرار في الغرب، بل سيتّسع أفق هذا الخوّاف (الخوف الشديد) ليطرح على بساط الشكّ والقلق مستقبل الغرب نفسه ومستقبل هويّته الدينيّة والثقافيّة. "وفي هذه الحالة سينظر إلى الأجانب باعتبارهم غرباء وبرابرة ومنحطّين أخلاقيًّا ومتخلّفين عقليًّا"[30].
التحوّل الأوّل هو ما أطلق عليه "الصحوة الإسلاميّة"، أو "صعود الإسلام"، أو "عودة الإسلام" الذي نجم عن الثورة الإسلاميّة في إيران (1979) التي فتحت آفاق التغيير أمام الحركات الإسلاميّة في معظم البلدان الإسلاميّة، وجعلت هذه الحركات في موضع الاهتمام العالميّ على المستويّات البحثيّة والأمنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. وقد أدّت هذه الثورة إلى تصدّع وخسارة أحد أهمّ حلفاء الغرب (نظام الشاه) في الشرق الأوسط.
وتناولت وسائل الإعلام والمطبوعات المختلفة في تلك الفترة الإمام الخميني، كشخصيّة دينيّة، والثورة الإسلاميّة بالسوء وتوجيه التهم والتحريض (خميني فوبيا). أي أنّ هذه الوسائل عملت على تقديم صورة سلبيّة إلى الرأي العامّ الغربيّ عن الإسلام الذي أدّى إلى التغيير وإلى الثورة في إيران. "وقد أثارت الخمينيّة القلق من العودة القويّة للنظام الإسلاميّ، وللسلطة الإسلاميّة من جديد، كما كانت في العهود السابقة والتي كانت غالبًا عامل تحفيز طوال التاريخ الإسلاميّ"[31].
التحوّل الثاني هو سقوط الاتحاد السوفياتي (1989). فقد بدأ الترويج بعد هذا السقوط للخطر الأخضر القادم من الإسلام، على الغرب. وقد عبّرت نظريّات(هانتنغتون) عن توقّعات وسيناريوهات هذا الصراع المقبل بين حضارة الغرب والإسلام.
أي أنّ مثل هذه الأفكار والنظريّات التي تمّ الترويج لها على نطاق واسع، ساهمت في تشكيل حالة الخوف على المستويّات الفكريّة والشعبيّة من هذا الإسلام "القادم".
ما أن زال الاتحاد السوفياتي، بنهاية القرن المنصرم، حتّى عادت الثقافة السياسيّة الغربيّة مسرعة على نحو مثير للعجب إلى التقاليد القروسطيّة القديمة، ثمّ تلك الاستعماريّة، التي تضمر العدائيّة للديانة الإسلاميّة... التي لا ترى فيها إلاّ عائقًا أساسيًّا يعترض سبيل تطوّر عبقريّتها وقيمها وتوسّعها في أصقاع العالم.
لقد أصبح الشرق ضرورة يستحيل تفاديها أو تجاهلها في الخطاب الأسطوري الغربيّ. فلا وجود لغرب من دون شرق، ومن دون شرق لا صدام للحضارات على الإطلاق، ولا تشنّجات ولا مخاوف، ولا انتشار عسكري، ولا نظام الأحلاف العسكريّة بغرض الذود عن "العالم الحرّ" وقيمه ضدّ العدو المتربّص.
أمّا واقع الشرق وقوامه وحقيقته، فكلّها أمور لا تلقى إلاّ القليل من الأهمّيّة... وقد يستشعر به تارة كشرق "أدنى" أو "أوسط"، وتارة كشرق ناء بعيد "أقصى". واليوم يبدو أنّه وصل إلى قلب أوروبّا، إلى تلك النقطة المركزيّة من الغرب، عبر تمدّد الأعداد الكبيرة من المغتربين المسلمين، التي بات من الصعوبة بمكان ضبطها[32].
التحوّل الثالث هو اعتداءات 11 سبتمبر2001: وما سيليها من اعتداءات وتفجيرات وعمليّات انتحاريّة قام بها أفراد ينتمون إلى جماعات ومنظّمات إسلاميّة مثل القاعدة وداعش.
بعد هذه الاعتداء ات اعتبرت الولايات المتّحدة أنّها تخوض حربًا مقدّسة ضدّ "الإرهاب الإسلاميّ". كانت هذه الحرب التي امتدّت إلى أكثر من بلد من بلاد المسلمين مثابة تبرير رسمي لإسلاموفوبيا الخوف والكراهيّة في وقت واحد.
لكنّ طبيعة هذا الخوف كانت محدودة بما فعلته تلك التنظيمات الإسلاميّة، من عمليّات وتفجيرات سواء داخل البلدان الغربيّة، أو خارجها على مؤسّسات وسفارات في دول العالم كافّة. أي أنّ هذا التهديد والخوف من تداعياته لم يكن خوفًا وجوديًّا مثل الخوف الديموغرافي. بل خوفًا أمنيًّا تعاملت معه الحكومات الغربيّة بما يتناسب مع طبيعته.
يلخّص "ميشال هولبك" الكاتب الفرنسيّ الشهير هذا الخوف "الوجودي" من مستقبل انتشار الإسلام في فرنسا في روايته "Soumission " التي يتخيّل فيها كيف سيصبح رئيس الوزراء مسلمًا، وكيف سيصل الحزب الإسلاميّ إلى السلطة في بلجيكا أيضًا، ويتلقّى التهنئة من رئيس الحكومة المسلم في فرنسا، وكيف ستفرض جامعة السوربون في باريس الحجاب على طالباتها... وستتولّى المملكة السعوديّة الإنفاق على هذه الجامعة "التي ستصبح أغنى جامعة في العالم"، وتمنع الاختلاط، وتضاعف رواتب الأساتذة، وسيسمح بتعدّد الزوجات في فرنسا[33].
هذه الإسلاموفوبيا الديموغرافيّة لا حلّ لها. لا يمكن للإجراءات الأمنيّة أن توقفها، أو أن تحدّ منها. حتّى الهجرة لا يمكن للأوروبييّن التراجع عنها. يمكن وضع قيود عليها. يمكن تحديد العمالة الماهرة. لكن لا يمكن بعد كلّ ما حصل من تحوّلات في المجتمع الأوروبي على مستوى الأسرة وتراجع الإنجاب، تغيير هذا الأمر ببساطة. لذا بات التفكير الأوروبي يذهب في اتّجاه كيف نتعامل مع هذا التهديد، وليس كيف نعود إلى نظام مختلف من الأسرة ومن العلاقات الاجتماعيّة التي نستعيد فيها الإنجاب والتوازن الديموغرافي.
التوظيف السياسيّ للإسلاموفوبيا:
أتاح هذا الوضع المعقّد في أوروبّا، حيث لا يمكن العودة إلى الوراء ولا يمكن التراجع عن الحاجة إلى اليد العاملة المهاجرة، صعود قوى اليمين المتشدّد في بلدان أوروبيّة عدّة، تشهر العداء للمسلمين، وتعتبرهم تهديدًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا لأوروبّا. لكنّ هذا اليمين واجه في الوقت نفسه من اتّجاهات سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة أوروبيّة مواقف مضادّة رفضت تحويل المسلمين إلى مصدر للاتهام والعداء.[34]
وعلى الرغم من حركة الاعتراض على هذه الأحزاب وعلى سياساتها ومواقفها العنصريّة، تجاه المسلمين، إلاّ أنّ قلق الديموغرافيا والتحوّل السكّاني والاجتماعيّ، وتوسّع الممارسات الإسلاميّة (المساجد، الحجاب، محلات الحلال، البوركيني...) شكّل ما يمكن أن نسمّيه "الإسلاموفوبيا العميقة". التي بات من الصعب تجاوز تأثيراتها في الوعي الأوروبي الشعبي والإعلاميّ والسياسيّ.
فالجبهة الوطنيّة في فرنسا (اليمين المتشدّد) زعيمتها "ماري لوبن" على سبيل المثال تعمل على تشكيل وعي غربيّ (فرنسيّ) يدافع عن الهويّة الفرنسيّة في مواجهة تنامي أعداد المسلمين، وعلى جبهة لمقاومة هذا "العدو" بأيّ ثمن، من أجل أن تحافظ على هويّتها الأوروبيّة. وقد نشرت هذه الجبهة أوّل ملصق "إسلاموفوبيّ" لها عام 1978.
كما تحوّل أيّ عمل إرهابي (تفجير انتحاري، أو دهس، أو اعتداء مسلّح مثل عمليّة شارلي إيبدو) إلى تحريض واتهام يتجاوز الفاعلين إلى الإسلام نفسه. وفاقم من هذا الاتهام المشوب بالخوف العمليّات التي نفّذها مسلمون أوروبيّون يعيشون على الأراضي الأوروبيّة في فرنسا وبلجيكا وألمانيا وسواها...
أجّجت الأزمة الماليّة العالميّة التي اندلعت في2007 موجة كراهيّة جديدة ضدّ المسلمين، وبات اليمين المتطرّف يُروّج لفكرة مضلّلة مفادها أنّ الهجرات القادمة من شمال أفريقيا والشرق الأوسط هي سبب الأزمة، وأنّ هؤلاء المهاجرين باتوا يُزاحمون الأوروبييّن الأصلييّن في الحصول على فرص عمل، ويُكلّفون الميزانيّة العموميّة نفقاتٍ باهظة، وفي نفس الوقت يبنون مستقبلهم في بلدانهم الأصليّة عبر استثمار ما يجنونه في المهجر.
ومع موجات اللجوء الكبرى القادمة من سوريا والعراق ودول آسيويّة عبر تركيا عام 2016، ازدهر خطاب الكراهيّة والقلق من جديد، ما دفع عددًا من الدول لإغلاق حدودها مع اليونان ودول البلقان، خشية فقدان السيطرة على هذا التدفّق الجماعي الإسلاميّ.
وتُعتبر الولايات المتّحدة الأميركيّة من أكثر البلدان التي شهدت جرائم كراهيّة ضدّ المسلمين، وقد ذكر مكتب التحقيق الفدرالي الأميركي (FBI) في مايو/أيار 2017 أنّ نسبة تلك الجرائم شهدت ارتفاعا بنسبة 67% عن عام 2015، مشيرًا إلى أنّ عدد المجموعات المعادية للمسلمين في تزايد.
وقد انتقد أعضاء في الكونغرس عدم إبلاغ ولايات عدّة عن الأرقام الحقيقيّة لجرائم الكراهيّة التي قد تصل إلى ثلاثين ضعفًا للمبلّغ عنها.
أيضا، انتشرت ظاهرة الإسلاموفوبيا بسرعة في البلدان الأوروبيّة، وباتت أخبار الاعتداء على المسلمين تأتي من معظم العواصم الأوروبيّة.[35]
شكّل ما عرف بسكّان الضواحي وغالبيّتهم من المسلمين رافدًا إضافيًّا من روافد كراهيّة المسلمين والقلق من وجودهم في قلب المجتمعات الأوروبيّة، خاصّة في فرنسا وبلجيكا.
فأولاد المهاجرين الذين يتابعون دراساتهم ويحصلون على دبلوم، يجدون أنفسهم عاطلين من العمل مقارنة مع أقرانهم الفرنسييّن. وسيكون التفاوت واضحًا بين هؤلاء وبين ذوي الأصول المغاربيّة أو الأفريقيّة. وفي دراسة حقليّة لتبيان حجم التمييز الوظيفي الذي يتعرّض له الشباب من أصول مسلمة، قام الباحثون بإرسال نحو ستّة آلاف سيرة ذاتيّة لشركات ومؤسّسات فرنسيّة استجابة لحاجة هذه الشركات إلى موظفين. وتعمّدوا وضع اسم يشير إلى دين صاحب الطلب (محمّد على سبيل المثال) أو (صورة فتاة محجّبة). فكانت الردود تأتي سلبيّة مباشرة. ولم يحصل على موافقة على المقابلة للتوظيف سوى أقلّ من 5 بالمئة، في مقابل 20 بالمئة للآخرين. والأسوأ من ذلك أنّ الخبرة والشهادات العليا لم يكن لها أيّ تأثير على نسبة اختيار الشبّان المسلمين للتوظيف.
لا يعني ذلك أنّ أصحاب هذه المؤسّسات يعتبرون أنّ ملايين الشباب هم إرهابييّن أو متطرّفين، لكنّ هناك أحكام قويّة مسبقة سلبيّة تجاه هؤلاء عزّزتها أحداث العنف والتفجيرات. ما يزيد بالمقابل من شعور هؤلاء الشباب بالحرمان والإحباط[36].
لذا تحوّل قسم من هؤلاء الشباب إلى الراديكاليّة الإسلاميّة، متأثّرًا في الداخل بالأوضاع الأمنيّة المتشدّدة، وملاحقات الشرطة، وبالأوضاع الاقتصادية التي يعيشها في هذه الضواحي، وبما يشاهده في الخارج من عدوان غربيّ على المسلمين في البوسنة وأفغانستان والعراق ومالي... فيستنتج على سبيل المثال أنّ فرنسا تضطّهد المسلمين في كلّ مكان بالتحالف والتعاون مع الولايات المتّحدة. هكذا يتحوّل هؤلاء الشباب إلى "حماة الإسلام" وإلى "الجهاد" في الداخل ضدّ الفرنسييّن، وفي الخارج من أجل "الخلافة" في سوريا، أو في العراق. بحيث أصبح هذا الجهاد مثابة ردّ مزدوج على الإذلال والتهميش المتواصل الذي يتعرّض له الشباب المسلم في الضواحي من جهة، وعلى تدخّل الدول الغربيّة في شؤون البلدان الإسلاميّة من جهة ثانية[37].
وقد أثارت العمليّات الانتحاريّة والتفجيرات في الأماكن العامّة التي نفّذها شبّان مسلمون أوروبيّون نقاشًا واسعًا مصحوبًا بقلق عميق في الداخل الأوروبيّ حول دور المساجد والجمعيّات الإسلاميّة، ومصادر تمويلها، في التحريض على هذا النوع من التطرّف.
وقد سبق لأكثر من دولة من دول الخليج مثل المملكة السعوديّة وقطر أن قامت بتمويل مشاريع بناء مساجد في كثير من العواصم الأوروبيّة. لكنّ مشكلة هذه المساجد أنّ الأئمّة الذين قاموا بالتّدريس والخطابة والوعظ تحوّلوا إلى السلفيّة المتشدّدة، وإلى التحريض ضدّ المجتمعات الغربيّة باعتبارها مجتمعات كافرة. وقد تبيّن لاحقًا مع تصاعد موجة التكفير والعمليّات الانتحاريّة في أكثر من مكان في العواصم الغربيّة أنّ هذه المساجد وهؤلاء الأئمّة لعبوا دورًا مؤثرًا في التكوين العقائدي الوهّابي لهؤلاء الانتحارييّن.
فمسجد Finsbury Park في لندن على سبيل المثال أصبح في نهاية التسعينيّات 1990 وما بعد 2000 أحد أبرز مراكز الإسلام الجهاديّ، حيث كان "أبوحمزة" الشخصيّة الإسلاميّة الجهاديّة، يلقي الخطب والمواعظ التي أثّرت في جيل كامل من الشباب الذين التحق الكثير منهم بالعنف تحت عنوان "الحرب المقدّسة".
كذلك المركز الإسلاميّ (دار الهجرة) في فيرجينيا، أصبح عام 2000 أحد أبرز المراكز الراديكاليّة في الولايات المتّحدة. وكان "أنور العولقي" إمام هذا المركز بين 2001 و2002، واستطاع جذب عشرات الشباب إلى الاتّجاه الراديكالي للإسلام.
"أحمد عمر أبو علي" أيضًا، أعطى دروسًا في هذا المركز الثقافيّ. و"أبو علي" هذا حُكِم عام 2005 في الولايات المتّحدة بتهمة التعاون مع القاعدة.
وفي فرنسا، شكّلت ضواحي مدينة ليون استقطابًا للراديكاليّة الإسلاميّة. و"خالد قلقال" الذي نفّذ عمليّة مترو "سان ميشال" في باريس في تموز 2005 أتى من هذه الضواحي (Vaulx - en - Velin). وفي معتقل غوانتانامو، اثنان من أصل ستّة فرنسيّين معتقلين أتوا من هذه الضواحي في ليون. (نزار صاصي، ومراد بن شيلالي).
وفي مدينة Lilles وضواحيها في فرنسا، نفّذ فرنسيّان اعتنقا الإسلام عمليّات تفجير في التسعينيّات 1996. وقد لعب تواصلهم من خلال هذا المسجد Archimede de Roubaix مع "الجهاديّ" الجزائريّ عبد القادر مختاري (أبو المعالي) دورًا مباشرًا في التزامهم الجهاديّ.
وفي بريطانيا، يمكن أن نذكر جنوب شرق العاصمة لندن (Brixton) التي شهدت منذ التسعينيّات انتشار الناشطين الإسلامييّن الراديكالييّن.
هكذا يمكن القول "إنّ الإسلام الراديكالي في الغرب نما وتبلور بين 1990 و2000 في المساجد". لكنّ هذه الظاهرة تراجعت في السنوات الماضية بعد الملاحقات الأمنيّة والمراقبات المتواصلة أثر اعتداءات 2001 في الولايات المتّحدة، و2005 في لندن، ليتحوّل هؤلاء إلى التجنيد والتواصل عبر "الشبكة الإلكترونيّة"[38].
ينظر هؤلاء الشباب إلى النظام الغربيّ كنظام "جاهليّ" لا يحكم "بما أنزل الله" ولا يتوافق مع الشريعة الإسلاميّة. كما أدّت المشاركة الغربيّة في الحرب على أفغانستان، وعلى العراق، وفي بلدان إسلاميّة أخرى (الفرنسييّن في مالي)، إلى تبنّي فكرة الدفاع عن الإسلام المهدّد من القوى المسيحيّة، أو الكافرة، وأنّ واجب الدفاع عنه هو "فرض عين".
وبما أنّ الرأي العامّ في الغرب لا يميّز بين اتّجاه إسلاميّ وآخر (بين الوهّابيّة وسواها) بات الانطباع السائد الذي ساهمت في تشكيله وسائل الإعلام، أنّ الإسلام نفسه هو المسؤول عن هذه التفجيرات الإرهابيّة وأنّ المسلمين عمومًا يكرهون الغرب (الولايات المتّحدة بعد 11 سبتمبر: لماذا يكرهوننا؟) وشكّل هذا الانطباع (بسبب الخبرات المؤلمة) أحد أسباب روافد الإسلاموفوبيا الحديثة التي نقلت الإسلاموفوبيا من قلق في التباين الثقافيّ، والمجتمعي، وفي التكيّف مع الآخر المختلف... إلى تهديد وجوديّ لأمن الفرد الغربيّ.
فرض هذا التهديد على الحكومات الغربيّة البحث في كيفيّة محاربة هذا "التهديد الإسلاميّ" الذي يأتيهم من الداخل. وإذا كان من المستحيل إقفال المساجد، لما سيثيره هذا الأمر من ردود فعل داخل أوروبّا وخارجها، اتّجهت الأفكار نحو "تجفيف" مصدرين أساسييّن من مصادر هذا التهديد الذي يأتي من مساجد أوروبّا: الأئمّة والتمويل.
- الأئمّة:
أُثير التساؤل حول علاقة المساجد بالتطرّف بعد موجة العنف الدينيّ التي ضربت أوروبّا عام 2015، خاصّة بعد الاعتداء المسلّح على جريدة "شارلي إيبدو" في باريس في يناير/كانون الثاني 2015، التي نشرت صورًا كاريكاتوريّة مسيئة للرسول (ص). حينها خرج وزير الداخليّة الفرنسيّ، برنار كازنوف، مصرّحًا أمام قصر الإليزيه، بأنّ هناك "إجراءات صارمة لترحيل كلّ خطيب يحضّ على الكراهيّة".
منذ ذلك الوقت، توجّهت كاميرات الإعلام الغربيّ إلى تلك الفئة التي تتمتّع بسلطة دينيّة واجتماعيّة داخل الجماعات المسلمة في أوروبّا، أنّهم الأئمّة الذين تقع تحت أيديهم إحدى أكبر المؤسّسات تأثيرًا في المجتمعات الإسلاميّة الممثّلة في المساجد.
انتبهت السلطات الأوروبيّة إلى دور شخصيّة الإمام، وتأثيرها على الجالية الإسلاميّة، وما يعني ذلك من مراقبة خطباء المساجد وتقنينهم وتكوينهم بما يتناسب وثقافتها باعتبارهم مواطنين يتبعون لها، بدل تركهم تحت وصاية دول أجنبيّة أخرى كما كان الحال سابقًا.
ولم يكن من المستغرب أن تخصّص الصحيفة الفرنسيّة المرموقة في الأوساط الأكاديميّة، «لوموند ديبلوماتيك»، في عددها لأبريل (نيسان) 2015، ملفًّا كاملاً بعنوان «الأئمّة في فرنسا... بعيدًا عن الكليشيهات».
تقول الصحيفة في تحقيقها الميداني، أنّ خطباء المساجد في فرنسا «ليسوا صورة واحدة كما يشاع، بل تختلف معارفهم الدينيّة، وتكويناتّهم واتّجاهاتهم، وينحدرون من أصول وأوساط اجتماعيّة مختلفة»، لافتةّ إلى أنّ 55% على الأقل من أئمّة مساجد فرنسا، البالغ عددهم 2200، هم مُتطوّعون في الأصل، وبينهم عُمّال وصغار تجّار، لم يسبق لهم أن تلقوا تكوينًا دينيًّا.
خلص التحقيق إلى أنّ الأئمّة الذين يوصفون بـ «التطرّف»، هم عادة بعض أولئك الذين يتولّون مساجد خارج إطار الدولة، كتلك المتواجدة في ضواحي المدن، كما أنّهم ضئيلو الثقافة الدينيّة، ويجهلون قوانين البلد بشكل كبير.
أثر تبعات هجمات باريس، توجّه الرأي العامّ الفرنسيّ، مجتَمعًا ودولة، نحو تحميل قسم من أئمّة المساجد المسؤوليّة في نشر خطاب «يحضّ على الكراهيّة» انعكس هذا الشعور الفرنسيّ الجمعي بسرعة في شكل إجراءات صارمة، تمثّلت في ترحيل عشرة أئمّة خلال العام 2015 فقط، بسبب «نشرهم خطاب الكراهيّة»، بحسب وزارة الداخليّة الفرنسيّة.
بموازاة ذلك، اتّجهت سلطات الإليزيه إلى تأسيس معاهد فرنسيّة لتخريج أئمّة ذوي تكوين ينسجم مع الجمهوريّة، ويحترم القيم العلمانيّة، إضافة إلى توقيع وزير الداخليّة الفرنسيّ برنار كازنوف، اتفاقيّة مع كلّ من المغرب والجزائر لتخريج أئمّة مساجد ذوي خطاب دينيّ معتدل.
وفي بريطانيا لا يختلف الوضع كثيرًا عن فرنسا، فالأولى تُعدّ معقلاً للجماعات الإسلاميّة بمختلف أطيافها، حيث لا تبدو العلاقة جيّدة بين الدولة وأئمّة المساجد. وكان رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، قد بعث، بعد هجمات باريس، برسالة موحّدة لأئمّة مساجد بريطانيا، قائلاً فيها: «علينا أن نظهر لشبابنا الذين يمكن أن يُستهدفوا، أنّ المتطرّفين لا يملكون شيئًا ليقدّموه لهم، عليكم أن تُظهروا لهم أنّ هؤلاء الرجال الذين يكنّون الكراهيّة، لا مكان لهم في مساجدكم أو أيّ مكان عبادة». قوبلت رسالته حينها بانتقادات من قبل الجمعيّات الإسلاميّة هناك، ليردّ كاميرون مدافعًا عن رسالته: «أنّ أيّ شخص يقرأ الرسالة، ويجد فيها مشكلة يعاني هو نفسه في رأيي من مشكلة حقيقيّة».
ما أثار النقاش مؤخّرًا في بريطانيا، ارتباطًا بموضوع الأئمّة، هو ما كشف عنه تحقيق استقصائي لجريدة الديلي ميل البريطانيّة، في أبريل/ نيسان 2015، عن قيام أئمّة بنشر ما أسمته «خطاب الكراهيّة» داخل السجون، من خلال أسطوانات وكتيّبات، بعدما عينتهم السلطات البريطانيّة لتأطير السجناء المسلمين.
في السياق نفسه، ترجع بعض الدراسات المَسْحِيّة نزوع بعض الأئمّة في بريطانيا نحو «التطرّف»، إلى «نقص معارفهم الدينيّة، وافتقارهم إلى اللغة الإنجليزية، ما يعيق تواصلهم واندماجهم بشكل أفضل في المجتمع البريطاني»، بينما تحمّل دراسات أخرى المسؤوليّة لبعض دول الخليج، التي تسيطر على تكوين عددٍ ليس بالقليل من أئمّة بريطانيا.
ويبدو أنّ المسؤولين البريطانييّن مهتمّون بالتجربة المغربيّة في مجال تكوين الأئمّة، إذ صرّح ديفيد كاميرون، في ردّ على أحد النوّاب في البرلمان البريطاني، بأنّ بلاده تتّجه إلى الاستفادة من تكوين الأئمّة في المغرب كما فعلت فرنسا.
بدورها، تلجأ السلطات الألمانيّة إلى العين الأمنيّة، ضمانًا لعدم انفلات خطاب أئمّة المساجد نحو الكراهيّة، علاوة على عقد ألمانيا شراكة مع تركيا لتزويدها بالأئمّة لتأطير الجالية الإسلاميّة لديها. كما أعلن المغرب نهاية شهر نيسان 2016، انطلاق برنامج لتكوين الأئمّة في فرانكفورت باللغة الألمانيّة.
لكنّ ما يثير قلق المسؤولين الألمان، هو تلقّي بعض المساجد التي يسيطر عليها أصوليّون، التمويل من دول خليجيّة بعينها. وقد سبق أن صرّح سيجمار جابرييل، نائب المستشارة الألمانيّة، قائلاً أنّ «المساجد الوهّابيّة في جميع أنحاء العالم ممّولة من السعوديّة»، مضيفًا: «علينا أن نوضح للسعودييّن أنّ زمن غضّ الطرف قد ولّى».
وبينما يرى الخبير البريطاني في «مكافحة الإرهاب» ستيفن جريجوري، أنّ بعض المساجد في أوروبّا عمومًا «يقودها أئمّة متطرّفون يقومون بغسل أدمغة بعض روّاد هذه المساجد بالأفكار المتطرّفة»، يعتقد آخرون أنّ أئمّة المساجد بشكل عامّ، يحتلّون الصفوف الأماميّة في مكافحة التطرّف داخل البلدان الأوروبيّة، وأنّ معظم الجهادييّن يتخرّجون من السجون والمواقع الإلكترونيّة وليس المسجد[39].
-
التمويل:
طالب مدير الاستخبارات الألمانيّة السابق "أوجست هاننغ" بضرورة وقف تمويل المساجد التي تروّج للتطرّف في أوروبّا كجزء من مكافحة الإرهاب في الدول الأوروبيّة، مشيرًا إلى التمويل الأجنبيّ خاصّة من منطقة الخليج. واتّهم "هاننغ" تلك المساجد التي يسيطر عليها متشدّدون وتموّل من الخارج بالحيلولة دون اندماج المسلمين الأوروبييّن في مجتمعاتهم وقبولهم القيم والمثل السائدة في المجتمعات الأوروبيّة التي يعيشون فيها. وفي الوقت الذي يبدو فيه هذا التمويل ظاهريًّا وكأنّه يقدّم خدمة لأوروبّا، لكنّه على العكس يأتي ومعه قيم وأفكار تتنافى مع القيم الأوروبيّة[40].
"وفي فرنسا أعلنت الحكومة في مطلع آب/ أغسطس 2016 عزمها على منع التمويل الأجنبيّ للمساجد والجمعيّات الإسلاميّة، وعزمها على إنشاء "مؤسّسة للإسلام في فرنسا" لهذا الغرض، ستكون مهمّتها تمويل دور عبادة المسلمين. وأكد الرئيس الفرنسيّ فرانسوا هولاند أنّ هذه المؤسّسة لن تخضع للتمويل العمومي، استنادًا لقانون البلاد.
ومن بين الاقتراحات التي قدّمت للحصول على هذا التمويل بها:
- التمويل من قبل المؤمنين
وهو التمويل العفويّ من قبل الجالية المسلمة، مثلما يتمّ تمويل الكنيسة الكاثوليكيّة في فرنسا، من خلال التبرعات التي تجمع وحفلات الزفاف والعمادة التي تقام فيها. وهذا من شأنه أن يضمن تمويلاً ذاتيًّا وشفافًا لها".
- الضريبة على المنتوجات الحلال
ومن بين الأفكار المطروحة التي اقترحت لتمويل هذه المؤسّسة، فرض ضريبة على المنتجات الحلال. ويتمّ ذلك من خلال جمع حصّة من مبيعات هذه المنتجات لتمويل هذه المؤسّسة الإسلاميّة. على أساس أنّ سوق المنتوجات الحلال يمكن أن يكون مصدر تمويل لا بأس به لدور العبادة لدى المسلمين".
ومن الواضح أنّ هذه الأفكار والمشاريع لمنع التمويل الخارجي عن المساجد في أوروبّا هدفها ضبط ما يجري في هذه المساجد ومنع التأثيرات الخارجيّة عنها، والحدّ من الدعاية الجهاديّة في البلاد، عقب الهجمات الإرهابيّة التي شهدتها فرنسا منذ مطلع 2015"[41].
مستقبل الإسلاموفوبيا:
لا يرى باسكال بونيفاس Pascal Boniface المتخصّص في الجيوبوليتيك، ومدير معهد العلاقات الدوليّة والاستراتيجيّة في باريس أيّ مؤشّر على نهاية الإسلاموفوبيا. "لأنّنا، كما يقول، نستعيد اليوم تجاه المسلمين، الحجج نفسها التي استخدمناها تجاه اليهود في الثلاثينيّات. أنّهم ليسوا مثلنا، أنّهم يشكّلون خطرًا على الجمهوريّة. لديهم مخطّط سرّيّ لفرض شريعتهم. دينهم لا يتوافق مع مجتمعنا. لن يصبحوا فرنسييّن أبدًا، وسيبقون غرباء، مهما كتب على جواز سفرهم. في الثلاثينيّات، حتّى لو كان لليهوديّ جنسيّة فرنسيّة، لم يكن يعتبر فرنسيًّا حقًّا. هذا المبرّر نفسه، يستخدم اليوم تجاه المسلمين"[42].
ربّما يلخّص باسكال بونيفاس ما يدفع إلى الاعتقاد باستمرار الإسلاموفوبيا تجاه هؤلاء الذين "ليسوا مثلنا" ويشكّلون خطرًا على الجمهوريّة"، والذين لا يتوافق دينهم مع مجتمعنا... حتّى لو حصلوا على الجنسيّة الفرنسيّة".
[1] راجع إدوارد سعيد في كتابه تغطية الإسلام، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006
[2] أنتوني غدنز، علم الاجتماع، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 2005، ص 313
[3] J.P.Charnay, Les Contre-Orients ou comment penser L’Autre selon soi.Editi.Sindibad.Paris.1980, p 248
[4] La "France sans islam" de Philippe de Villiers: "Un racisme à peine déguisé" LEXPRESS le 16/11/2016
[5] الجزيرة نت 29/5/2017.
[6] J.P.Charnay, Les Contre-Orients ou Comment penser L’Autre selon soi.Edit.Sindbad, Paris1980, p13
[7] راجع J.M.Robertsin, Ernest Renan, Kessinger Publishing.N.York 2005
[8] جورج قرم، تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب، دار الفارابي، بيروت، 2011، ص 50
[9] قرم، المرجع السابق، ص51 -53
[10] Saddek Rabah, l’Islam dans le discours mediatique, comment les medias se representent l’Islam en France? Ed.Albouraq.Beyrouth1998. p18
[11] جورج قرم، المرجع السابق، ص43.
[12] Saddek، المرجع السابق، ص 338 و342.
[13] قرم، المرجع السابق ص59.
[14] غدنز، مرجع سابق، ص320
[15] مارلين نصر، صورة العرب والإسلام في الكتب المدرسيّة الفرنسيّة، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 1995، ص36.
[16] شارناي، مرجع سابق، ص211.
[17] Sous la direction de Pierre –Jean Luizard , Le Choc Colonial et l’Islam, les politiques religieuses des puissances coloniales en terres d’Islam.Ed.La Decouverte, Paris 2006, p 223
[18] Luizard، مرجع سابق، ص 225
[19] Luizard، مرجع سابق، ص 229-230
[20] شارناي، مرجع سابق، ص217.
[21] Luizard مرجع سابق، ص 227 و 234 و235.
[22] Bruno Etienne, L’Islamisme Radical.Ed.Hachette, Paris1987, P294
[23] B.Etienne، مرجع سابق، ص 294.
[24] Saddek، مرجع سابق، ص 18 و348.
[25] غدنز، مرجع سابق، ص 336.
[26] غدنز، مرجع سابق، ص 332.
[27] http://ici.radio-canada.ca/nouvelles/special/2017/03/extreme-droite/europe-islamophobie-musulmans-migrants.html
[28] http://www.trt.net.tr/francais/europe/2017/06/20/la-menace-islamophobe-s-etend-en-europe-et-aux-etats-unis-755905
[29] « Qui parle d'islamophobie ? » [Archive] par Éric Conan dans L'Express du 4 décembre- - 2003. (
راجع أيضًا:
The Islamophobia Industry, how the right manufactures fear of Muslims. Nathan Lean. Blotou Press.UK.2012
[30] غدنز، مرجع سابق، ص 323.
[31] شارناي، مرجع سابق، ص 198.
[32] قرم، مرجع سابق، ص 55 – 56.
[33] Michel Houllbecq, Soumission, Flammarion, Paris 2015, p84-85
[34] نماذج من جمعيات معاديّة للإسلاموفوبيا:
في الولايات المتحدة:
- L’association Council on American-Islamic Relations(en) (CAIR) a pour but, entre autres, de lutter contre la haine dont les musulmans peuvent être la cible aux États-Unis.
في أوروبا:
- Commission européenne contre le racisme et l'intolérance(ECRI)
- European Network Against Racism(en) (ENAR)
- Forum of European MuslimYouth and Student Organizations(de)
بلجيكا:
- Collectif contre l'islamophobie en Belgique (CCIB)
فرنسا:
- Le Collectif contre l'islamophobie en France(2003), la Coordination contre le racisme et l'islamophobie (2008) et Contre-attaques (1er septembre 2015).
المملكة المتحدة
- Forum Against Islamophobia and Racism(en) (FAIR), organisation caritative créée en 2001 pour combattre l’islamophobie et le racisme
[35] نماذج من الاعتداءات العنصريّة ضد المسلمين في أوروبا: يمكن مراجعة المواقع التالية:
- http://www.lapresse.ca/international/europe/201609/08/01-5018292-allemagne-explosion-des-agressions-islamophobes.php
- https://www.opensocietyfoundations.org/explainers/islamophobia-europe/fr
- http://www.trt.net.tr/francais/europe/2017/06/20/la-menace-islamophobe-s-etend-en-europe-et-aux-etats-unis-755905
[36] L’Europe devient –elle islamophobe? Le Monde 13-14 2016
[37] Farhad Khosrokhavar, Radicalisation, Editions de la Maison des sciences de l’homme, Paris 2014, p.29
[38] Khosrokhavar مرجع سابق، ص 88.
[39] موقع ساسة sasa بوست، 9 مايو، 2016.
[40] جريدة صدى البلد، بيروت، 13/6/2017.
[41] France 24 فرنسا 24 نشرت في 04/08/2016.
[42] Pascal Boniface dans « Le modernisme de Marine Le Pen » [archive], paru le 12 décembre 2010(