البُعد التربويّ والاجتماعيّ في تشكّل الثقافة الدينيّة
الدّكتور عبد الحكيم الغزّاوي
أوّلاً: في الإطار الثقافيّ
- تعريف الثقافة:
جاء تعريف "الثقافة" بالمعنى الاصطلاحي على يد المجمع اللغّويّ بأنّها: "جملة العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق بها"
وعرّفها بعض التربويّين بأنّها: "مجموعة الأفكار والمثل والمعتقدات والعادات والتقاليد والمهارات وطرق التفكير ووسائل الاتّصال والانتقال وطبيعة المؤسّسات الاجتماعيّة في المجتمع الواحد"
وعرّفها علماء الإنسان بأنّها: "أسلوب الحياة في مجتمع ما بما يشمله هذا الأسلوب من تفصيلات لا تحصى من السلوك الإنسانيّ"
وعرّفها بعض المفكريّن المسلمين بأنّها: "التراث الحضاريّ والفكريّ في جميع جوانبه النظريّة والعمليّة الذي تمتاز به الأمّة وينسب إليها، ويتلقّاه الفرد منذ ميلاده وحتّى وفاته"
أمّا في الغرب فقد اهتمّ العلماء والمفكّرون الغربيّون بتحديد المعنى الاصطلاحي للثقافة، حيث عرّفها "كلباتريك W. H. K. Patrick" الأمريكي بأنّها: "كلّ ما صنعته يد الإنسان وعقله من مظاهر البيئة الاجتماعيّة"
وعرّفها "لوك J. Lock" بأنّها: "تهذيب العقل أو تهذيب الإنسان"
وعرّفها: "تايلور E. Taylor" بأنّها "ذلك الكلّ المعقّد الذي ينطويّ على المعرفة والعقائد والفنّ والأخلاق والقانون والعرف والعادات وغير ذلك من القدرات التي حصل عليها الفرد بوصفه عضوًا في مجتمع"
وخلاصة الأمر أنّ التّعريفات الاصطلاحيّة للثقافة تعدّدت عند فلاسفة الشرق والغرب بصور تتقارب في الفكرة وتتفاوت في الألفاظ والصياغات.
كما تعرف الثقافة بأنّها "نسق معرفيّ مركّب، يتضمّن المعتقدات والشرائع والآداب والمذاهب والنظم… يكتسبه الإنسان من انتمائه إلى مجتمع معيّن، ويّحدّد له ما ينبغي أن يكون عليه موقفه واتّجاهه وسلوكه، في مواجهة الغير من الأشياء والظواهر والناس".
- وظائف الثقافة:
تعتبر الثقافة أساسًا للوجود الإنسانيّ بالنّسبة للفرد والمجتمع الذي ينتمي إليه فهي توفّر للفرد صورة السلوك والتفكير والمشاعر التي ينبغي أن يكون عليها ولا سيّما في مراحله الأولى فالطفل في بداية حياته يتقبّل الثقافة التي ينشأ فيها تقبله للهواء فالأسرة وجماعة الرفاق والمسجد أو الكنّيسة كلّها تقدّم له بعض أفكار الثقافة وأساليبها وتنتظر منه قبولها وتشربها.
وبصفة عامّة فإنّ ثمّة وظائف أساسيّة تقوم بها الثقافة بالنّسبة للفرد، أهمّها:
- - توفّر الثقافة للفرد وسائل إشباع حاجاته النفسيّة والاجتماعيّة.
- - تؤثّر الثقافة في قيم وعادات الفرد فقد ينشأ الفرد في ثقافات تشجّع مبادئ الاحترام والتوقير.
- - توفّر للأفراد تفسيرات جاهزة لطبيعة الكون وأصل الإنسان ودوره في الكون وغالبًا ما تكون هذه التفسيرات غيبيّة أو علميّة.
- - توفّر للأفراد المعاني والمعايير التي يميّزون في ضوئها بين الأشياء والأحداث داخل بيئتهم أو مجتمعهم الذي يعيشون فيه.
- - تنّمي الضمير عند الأفراد أو ما يسمّى بلغة علم النفس بالأنا فمن المسلّم به أنّ الأنا غير فطريّة وهي تنشأ لدى الأفراد بفعل الثقافة.
- - تنّمي في الفرد الشعور بالانتماء والولاء للجماعة التي ينتمي إليها وكذلك للإقليم الذي ينتمي إليه والوطن الذي ينتمي إليه وقد يشتدّ هذا الشعور بالانتماء عند الأفراد إذا اشتدّت عزلتهم.
- - تعرّف الإنسان على المواقف التي يمكن أن تواجهه وتقدّم له طرقًا لمعالجتها
- - تعلّم الإنسان كيف يدرك الأشياء حيث تحدّد له النافذة التي يطلّ منها على العالم كما أنّها تقرّر له كيف سيكون تطوّره في مقام معيّن وفي حالة معيّنة.
- - تحفّز الإنسان وتفتح له أهدافًا معيّنة تخبره بها بطريق غير مباشر.
- - مركّب من مركّبات شخصيّة الإنسان.
- - تكوّن الثقافة للفرد ضابطًا اجتماعيّا يسيّر سلوكه بطرق معيّنة.
- - تُكسب الفرد اتّجاهات السلوك العامّ باعتباره عضوا في مجتمع قومي يتميّز بسمة دينيّة أو خلقيّة معيّنة.
- - تُكسب الفرد القدرة على التفكير عن طريق نشاطه وجهده وتفاعله مع الثقافة التي يعيش فيها عن طريق اكتسابه معانيها.
وبذلك فإنّ الثقافة تخدم الإنسان بثلاث طرق:
- التكيّف ككائن بيولوجيّ مع بيئته الطبيعيّة.
- تقدّم له نظامًا من السلوك المعيّن والاتّجاهات يستخدمه في علاقته مع أخيه الإنسان ومع حاجاته ومع نفسه.
- إنّها تؤكّد استمرار الجماعة وتلاحم أفرادها بعضهم مع بعض.
- أهمّيّة دراسة الثقافة:
إنّ التربية لا تنفصل عن النظام العامّ للمجتمع الذي تنظّمه عناصر الثقافة، فالثقافة تنتقل من جيل إلى جيل آخر عبر التربية عن طريق التعلّم والاكتساب، والتعليم والتدريب وتتضح أهمّيّة دراسة الثقافة (Culture) من الملاحظات الآتية:
إنّ فهمنا لديناميكيّة التفاعل الثقافيّ يساعدنا على التكيّف كأفراد في حياة المجتمع المعاصر الشديدة التعقيد، كما يفيدنا فهم التغيّرات الثقافيّة في التعرّف على طبيعة العالم الذي نعيش فيه ممّا يؤثّر على اختيارنا في المستقبل للإطار الاجتماعيّ والثقافيّ الذي نرتضيه لأنفسنا، وبالتالي يؤثّر في عمليّات التخطيط للمستقبل، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجموع.
قد تفيدنا دراسة الثقافة وطبيعة التغيّر الثقافيّ في الإحساس بما يمكن أن نواجهه من مشكلات في المستقبل، فنسعى لاتّقائها ومنع حدوثها، أو على الأقلّ نعدّ أنفسنا لمواجهتها بالحلول الشاملة.
إنّ فهم الثقافة والتغيّر الثقافيّ يجعل المعلّم أكثر قدرة على فهم وتفسير المطالب التربويّة في مجال المدرسة، فهو مطالب بتبسيط هذه الثقافة وتفسيرها وتحليلها ونقلها وتجديدها، أو على الأقلّ مطالب بأن يشترك في هذه الأدوار جميعًا بحكم مهمّته ولن يُمكنه ذلك إلاّ إذا فهم ديناميكيّة هذه الثقافة وطبيعتها.
إنّ دراسة الثقافة تبرز حقيقة مفادها أنّ الثقافات تتنوّع بتنوّع الأمم والجماعات العرقيّة وسائر التجمّعات الأخرى بين الناس، فكلّ أمّة تفكّر بطريقة مختلفة نوعًا ما عن غيرها، وتستخدم رموزًا متباينة إلى حدٍّ ما خاصّة بها، فالثقافة العربيّة مختلفة عن الثقافة الفرنسيّة والثقافة الأمريكيّة، وكلّ ما يسعى إلى تصنيف الثقافات بتعميمات كلّيّة حول السلوك الإنسانيّ سوف يتعرّض لمجابهة أولئك الذين يتمسّكون بالخصوصيّة الكامنة في المجتمعات.
- علاقة الثقافة بالتربية:
إنّ الإنسان هو صانع الثقافة، وهو حاملها وناقلها من جيل إلى جيل، والثقافة بمجرّد وجود الفرد في إطارها تصبح محدّدا ملزمًا له في سلوكه، فهو مضطرّ للإيمان بمعتقدات الجماعة، ومضطرّ للاعتراف بقيمها، وملزم لاتّخاذ مهنة من المهن الممكنة والمتاحة فيها، ولا يُعرض للعقاب الاجتماعيّ من خلال عمليّات الضبط الاجتماعيّ التي قد تصل إلى حد النبذ الاجتماعيّ، أو الرّفض الاجتماعيّ، لذلك اهتمّت المجتمعات بنقل وتوضيح وتبسيط هذه الثقافة إلى أجيالها المتعاقبة لتوجيه وتحديد نمط الشخصيّة الإنسانيّة التي يرغبها جيل الكبار من جيل الصغار وهي المسؤوليّة الأولى للتربية في أيّ مجتمع.
التربية هي الوسيلة الأساسيّة التي تحقّق بها وظيفة الثقافة بشقيّها من محافظة على التراث الثقافيّ وتعزيز له، من خلال هذه العمليّة يتحقّق الاستقرار الثقافيّ وتثبّت الثقافة أصالتها ووظيفتها، وبالتجديد الثقافيّ يتحقّق للثقافة استمراريتها أي خبرتها على مواجهة الظروف المتغيّرة والاستجابة لها، وقدرتها بالتالي على أن تجدّد نفسها بنفسها فيُكتب لها البقاء.
وتحافظ التربية على الثقافة عن طريق تأكيد عناصرها في النفوس وإضفاء صفة القدسيّة عليها، وعن طريق تنمية النظرة النقديّة إلى عناصرها في نفوس أبناء المجتمع كافّة، والمحافظة على الثقافة في المجتمعات المختلفة والبدائيّة.
قامت التربية بدور التثقيف منذ أقدم العصور عن طريق المشاركة والتقليد غير أنّ تضخّم الثقافة التدريجي في الحجم والاتساع والعمق، وعدم إمكانيّة نقلها إلى الأبناء وانتشار التخصّصات المتنوّعة، وانشغال الأبوين أوجب الحاجة إلى طائفة متخصّصة في تنظيم ونقل التراث الثقافيّ للأجيال الناشئة، فكان المعلّمون هم المندوبون الموكّلون عن المجتمع في تعليم الأجيال الناشئة التراث الثقافيّ.
بعض الملاحظات التي تدل على علاقة الثقافة بالتربية:
- - المؤسّسة التربويّة هي عامل من عوامل التثقيف الرسميّة لنقل التراث الثقافيّ.
- - العمليّة التربويّة نفسها هي أحد العناصر الثقافيّة أو هي بذلك الجزء المصقول من ثقافة شعب معيّن.
- - العمليّة التربويّة هي أحد جوانب تعزيز التراث الثقافيّ.
- - التربية تساعد على التغيير من خلال إضافة مخترعات حضاريّة جديدة.
- - التربية تقوم بعامل التوعية في المجتمع بناءً على ما لدى المجتمع من تراث.
- - التربية هي الوعاء الذي يحتويّ على المضمون الثقافيّ لفئة معيّنة.
فإذا كانت الثقافة بالنّسبة للفرد مرادفة لشخصيّته، وبالنّسبة للمجتمع مرادفة للشخصيّة القوميّة فإنّ معنى ذلك أنّه لا وجود للثقافة بدون التربية، وذلك لأنّ من سمات الشخصيّة النمو، ولا يوجد نموّ بدون تربية.
التربية هي وسيلة المجتمع في تحقيق فرديّة المواطن وجماعته، فهي تعمل على تنمية قدرات الفرد وإكسابه مهارات عامّة، وتهذيب ميوله وصقل فطرته للعيش والتكيّف مع البيئة المحيطة ويتمّ ذلك عن أحد طريقين، التربية الرسميّة وغير الرسميّة.
ثانيًا: الثقافة الإسلاميّة:
- تعريف الثقافة الإسلاميّة:
يمكن أن نعرّف الثقافة الإسلاميّة بأنّها: "نسق معرفيّ مركّب، يتضمّن المعتقدات والشرائع والآداب والمذاهب والنُظم … الإسلاميّة، يكتسبه الإنسان المسلم من انتمائه إلى مجتمع إسلاميّ معيّن، ويحدّد له ما ينبغي أن يكون.
ومن أحد تعريفات الثقافة الإسلاميّة: "العلم بمنهاج الإسلام الشموليّ في القيم، والنظم، والفكر، ونقد التراث الإنسانيّ فيها "هو أفضل تلك التعريفات وأقربها إلى الصواب، لاشتماله على موضوعات علم الثقافة الإسلاميّة الرئيسة.
- أدوار الثقافة الإسلاميّة:
تتميّز الثقافة الإسلاميّة بالقُدرة على تقديم الحُلول لمُشكلات العصر، لأنّ الدين الإسلاميّ صالحٌ لكلّ زمان ومكان، وبالتالي فإنَّ أيّ مُشكلة تبرُز على السطح فإنّ الإسلام لديهِ الحُلول الشافية والكافية لها، سواء كانت هذه المشاكل اقتصاديّة أم اجتماعيّة أم سياسيّة.
الثقافة الإسلاميّة تُكسِبُ الشخصيّة الإسلاميّة المُرونة والقُدرة على التكيّف مع معطيّات الحياة، كما أنّها أيضًا تمنحنا التوازن؛ لأنّ شريعتنا هيَ شريعةٌ متوازنة تجمّع بين الحاجات الروحيّة والحاجات المادّيّة، فليسَ في الدين حجر على الإنسان أو تضييق على حُريّته، بل هوَ دينٌ فيهِ من التنوّع ما يجعلهُ الدّين الفطريّ الذي يتناسبُ مع الناس جميعًا. الثقافة الإسلاميّة هيَ ثقافة مُعتدلة وتقف وسطًا بين الثقافات، بين الإفراط والتفريط، ولأنّ الوسطيّة منهجُ الإسلام فقد جاءت الثقافة الإسلاميّة مُتماشية مع أصل الدين وفكرهِ القويم، والثقافة الإسلاميّة تُخرّج أجيالاً مُعتدلة التفكير بعيدة كُلَّ البُعد عن التطرّف الفكريّ أو الإرهاب الذي ينتج تبعًا للأفكار الهدّامة والمتطرّفة، والتي يتبرّأ منها الإسلام وأهلُه وينبذونها قلبًا وقالبًا.
الاتّجاه الذي ينبغي أن يعتمد في تعريف الثقافة الإسلاميّة وفي تدريسها في المرحلة الجامعيّة هو الاتّجاه الذي لم يكن له حظّ واسع من الاهتمام، ويرى أصحاب هذا الاتّجاه أنّ الثقافة الإسلاميّة علم إسلاميّ جديد له موضوعاته الخاصّة، ومنهجه الخاصّ، ومصادره الخاصّة، وطابعه الخاصّ الذي يمتاز به عن سائر العلوم الإسلاميّة الأخرى، وذلك للأسباب التاليّة:
- - بيانًا لمنهاج الإسلام الشموليّ في أصوله التصوّريّة عن الوجود والكون والإنسان والحياة، وفي خصائصه المميّزة له من سائر الثقافات، وفيما ينبثق عنه من قيم ونظم وفكر.
- - نقدًا للثقافات الأخرى في تلك الأصول والمجالات.
- - مقارنة بين الإسلام وتلك الثقافات، لبيان كمال الإسلام ونقصانها.
- - دفعًا للشبهات المثارة حول الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكًا ومنهج حياة.
- - معالجة لحاضر المسلمين الثقافيّ من خلال:
- تشخيص هذا الحاضر.
- تصحيحًا لما فيه من أخطاء.
- إبراز نماذج التجديد الصحيحة.
- كشف الغزو الموجّه إليه.
- العلاقة بين الثقافة والدين:
هناك وجهان أساسيّان من العلاقة لأهمّيّتهما في مضمار تحديد معنى الثقافة وتحديد نظام اشتغالها:
يمثّل الدين في مستوى أوّل ثقافة كاملة لشعب أو أمّة أو حضارة، لا يتعلّق الأمر هنا بالدين من حيث هو مجموعة نصوص وتعاليم وقيم فحسب، بل أساسًا بما هو كيان مجسّد في طقوس اجتماعيّة وتقاليد وأفعال يمارسها الناس أيضًا، أيّ من حيث صيرورته نظامًا من الممارسات المادّيّة قد يقدم مسافة ما واقعيّة بين وضعه النظريّ في نصوص وبين طريقة استيعابه والتعبير عنه من طرف المؤمنين به تعبيرًا مباشرًا في حقل اجتماعهم المدنيّ.
يحتسب الدين ثقافة من واقع كونه يعبّر عن رؤية للعالم: للطبيعة، والوجود، والإنسان؛ ومن واقع كونه يقدّم تصوّرًا لبناء المجتمع الإنسانيّ على نحو يغطّي أحيانًا أدقّ تفاصيل هذا المجتمع: اقتصاديًّا، وسياسيًّا، وأخلاقيًا، وأحوالاً شخصيّة... الخ. فليس يهمّ إن سعت عقيدة ما إلى بناء (أمّة روحيّة) شأن المسيحيّة أو إلى بناء (أمّة اجتماعيّة وروحيّة) شأن الإسلام، بل الأهمّ أنّها قامت على تعاليم رُسمت للمنتسبين إليها تخوم الجائز وتخوم الممنوع، وقذفت في (روعهم) الجمعيّ مبادئ تحوّلت إلى قواعد صارمة للفكر والسلوك، وأفكارًا تحوّلت إلى عقائد راسخة لا تقبل المراجعة في جانبها اللاهوتيّ حتّى وإن كانت تقبل بعض التغيير في الجوانب المتّصلة بميدان الاجتماع المدنيّ.
الدين هنا ثقافة بوصفه نمطًا من المعرفة بالوجود (الطبيعيّ والاجتماعيّ)، يختلف في الأسس والمبادئ عن سواه من أنماط المعرفة الأخرى كالعلم، والفلسفة، والأسطورة، وسواها. الدين له مسلّماته التي لا يقوم الإيمان داخل نظامه بغير الإقرار بها، وله طريقته الخاصّة في بناء أحكامه حيث لا تفهم قضاياه وأحكامه بغير ربطها بنمط الاستدلال فيه... إلخ.
الدين ثقافة بوصفه نمطًا (مغلقًا) من الطقوس والشعائر والقيم، أيّ طريقة ثابتة الملامح في ممارسة الحياة وفي بناء الاجتماع وإعادة إنتّاجه، وهو يمثّل في الحالين بنية عقليّة كاملة للمجتمع، بالمعنى الأنثروبولوجي الكامل للكلمة، أيّ نمطًا من التفكير والسلوك يكتسب منطقًا ذاتيًا خاصّا يمتنع فهمه أو تعليله بمعزل عن شبكة المعاني والدلالات الخاصّة به.
الدين يمثّل في مستوى آخر من العلاقة عاملاً من العوامل الأساسيّة في تعبئة ثقافة ما، وشحنها بالرموز والمضامين والمطالب، وتشكيل حقلها الخاصّ داخل الاجتماع المدنيّ.
الدين هنا ليس رؤية للعالم، شأنه في الحالة الأولى، بل عنصر في بناء هذه الرؤية التي قد لا تكون رؤية دينيّة بالضرورة، وإنّما يحتمل أن تكون رؤية اجتماعيّة أو قوميّة أو سوى ذلك.
تفرض ضغوطًا سياسيّة واجتماعيّة على شعب أو جماعة وتتم تعبئة الخيال الجماعي برموز وقيم من شأن استثمارها في الحقل الثقافيّ أن يعيد التوازن إلى الذات، ويشحنها بالقدرة على الأداء الأفعل والأمثل. وهذا ما يفسر لماذا يجري استدعاء الدين عند كلّ أزمة اجتماعيّة أو وطنيّة، ولماذا يكاد التعبير الثقافيّ يميل إلى توطين الرموز الدينيّة وإلى إفساح المجال أمامها لتشكيل خطاب المواجهة.
الفارق بين وجهيّ هذه العلاقة (بين الدين والثقافة) لا يجوز أن نخطئ قراءته: يمثّل الدين في الحالة الأولى معرفة أو نمطًا من إدراك العالم، بينما هو يمثّل في الحالة الثانية طاقة لشحن الحقل الثقافيّ بأسباب الفعاليّة في مجلس صراعي. إنّه بنية ونسق كاملان في (الحالة) الأولى، بينما هو عنصر داخل بنية أشمل في الثانية (ثقافة سياسيّة، ثقافة وطنيّة، ثقافة قوميّة، ثقافة إنسانيّة...)؛ ووعي هذا الفرق بين الحالتين ممتنع من داخل نفس المقاربة المنهجيّة، أو هو يحتاج إلى تنوّع منهجي يناسب تنوّع أحوال العلاقة. وهكذا، يحتاج فهم العلاقة الأولى إلى تحليل معرفيّ – منطقي يسبر أغوار النظم الدينيّة في المعرفة، ويحلل بنية الاستدلال فيها، ويقرأ مسلّماتها ولغة الخطاب فيها، فيما يحتاج فهم العلاقة الثانية إلى تحليل سوسيو – ثقافيّ ينصرف إلى الكشف عن العوامل التحتيّة التي تدفع إلى استثمار القول الدينيّ في بناء الثقافة.
ثالثًا: على المستوى التربويّ:
- معنى التربية:
للتربية دورٌ مهمٌّ في حياة المجتمعات والشعوب، فهي عماد التطوّر والبنيان والازدهار، وهي وسيلةٌ أساسيّة من وسائل البقاء والاستمرار، كما أنّها ضرورةٌ اجتماعيّة تهدف إلى تلبية احتياجات المجتمع والاهتمام بها، كما أنّها أيضًا ضرورةٌ فرديّة من ضرورات الإنسان، فهي تكوّن شخصيّته وتصقل قدراته وثقافته ليكون على تفاعل وتناسق مع المجتمع المحيط به ليسهم فيه بفعاليّة، ومن هنا شغلت التربية الكثير من الباحثين والدّارسين على مرّ العصور، وكان لها قدرٌ لا يُستهان به من الدراسة والتحليل.
عمليّة التكيّف أو التفاعل بين الفرد وبيئته التي يعيش فيها. هي عمليّة تضمّ الأفعال والتأثيرات التي تستهدف نموّ الفرد في جميع جوانب شخصيّته، وتسير به نحو كمال وظائفه عن طريق التكيّف مع ما يحيط به، وما تحتاجه هذه الوظائف من أنماط سلوك وقدرات. فالتربية هي العمل المنسَّق المقصود الهادف إلى نقل المعرفة، وخلق القابليّات، وتكوين الإنسان، والسعي به في طريق الكمال من جميع النواحي وعلى مدى الحياة.
- أهمّيّة التربية:
تبرز أهمّيّة التربية من خلال إعداد المواطن الصالح، والتي تُعدّ من أهمّ أهداف التربية قديمًا وحديثًا، حيث تهتمّ التربية بـ:
- - الوصول إلى التوازن بفكر الإنسان وأحاسيسه وانفعالاته وجسده وأخلاقه ليكون مواطنًا صالحًا متفقًا مع نفسه ومع المجتمع.
- - تأهيل الفرد دينيّا ودنيويًّا، حيث توجّهت التربية مع التطوّر الزمني للتوجّه الدينيّ والروحانيّ لدى الأفراد، مع الأخذ بعين الاعتبار الحاجات الإنسانيّة والدنيويّة.
- - تعليم الفرد وتدريبه على كيفيّة العمل وكسب الرزق، كونها العمليّة التي تؤهل الفرد للحياة وتجعله متكيّفا مع البيئة المحيطة به.
- - نقل الأنماط السلوكيّة والحفاظ عليها من دون تغيير من جيل إلى آخر، كما في الأنماط المحافظة من التربية، والتي كانت التربية فيها تأخذُ منحى محافظًا يهتم بالعادات والتقاليد.
- - هدف تنمويّ للمجتمع ككلّ بجميع النواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة.
- - أهداف علميّة تركز على نقل العلوم والمعارف لطالبي العلم، ولإعداد المتعلّم عقليًّا، وتعليمه طرق التقصّي عن الحقائق والمعلومات، وطرق حل الفرد لمشكلاته بأسلوب علميّ.
بمعنى آخر لم تعد التربية تعتمد على التلقين وتخزين المعلومات في العقول، بل على تكوين العقول لتفكّر تفكيرًا علميًّا سليمًا. تكوين أفراد ومجتمعات ديمقراطيّة فيكون الفرد منفتحًا عقليًا في فكره وآرائه في الآخرين، فيتعلّم منها، ويضيف إليها، ويدرك حقوقه ويمارسها، فصلاح الفرد يؤدّي إلى صلاح المجتمع، ويتكوّن بالنهايّة مجتمع ديمقراطيّ.
- أبرز أهداف التربية:
لعلنا نستطيع اختصار أهداف التربية بالتالي:
- - هدف تقدّمي حيث أنّها غايّة بحد ذاتها؛ لأنّها تؤدّي إلى نموّ الفرد، إذ أنّ النموّ عمليّة مستمرّة وكذلك التربية.
- - هدف وطنيّ وقوميّ، فالتربية وسيلة لتقوية الشعور بالوحدة الوطنيّة والقوميّة، هذا الشعور النابع من وحدة اللغة والتاريخ والجغرافيا وآمال المستقبل وطموحاته.
يستطيع النظام التربويّ أن يلعب دورًا فاعلاً وكبيرًا في بناء الشخصيّة الإنسانيّة، ويستطيع تحصين هذه الشخصيّة وجعلها تجاوز العقبات والمشكلات التي يمكن أن تواجهها، حيث يعمل على تصليب الفرد، وتعزيز قدراته العقليّة والفكريّة لاستثمارها بشكل صحيح وسليم في خدمته وخدمة المجتمع.
إنّ ما يمكن أن يقدّمه النظام التعليميّ من تعليم نوعيّ يمنع وقوع الشطط في مسيرة الطالب، ويساعد الطالب على مواجهة المشكلات وقضايا التخلّف، وينير له طريق الحياة ويسهم في بناء المستقبل ويحقّق ما يصبو إليه المجتمع. والنظام التربويّ يشكل على الدوام صمّام الأمان للمجتمعات من الانحدار والضياع، ويملك مفاتيح العديد من المشكلات على الصعيد الفرديّ والاجتماعيّ، وباتت الدول تلجأ إليه كلّما واجهتها المحن والمصاعب، فالتربية إنجاز إنسانيّ بيد الإنسان وهي أداة راقيه وهادفه.
إنّ غياب التعليم بالنوعيّة الجيّدة واستمراره بهذا الشكل يؤدّي إلى كارثة محقّقة، وقد تتعدّد هذه الطرق إلى حافة هذه الكارثة، فالتعليم الذي من المفترض أن يساعد على مشكلات الشباب وقضايا التخلّف يصبح هو ذاته مشكلة معقّدة، تضاف إلى مشكلات التخلّف الأخرى، كالفقر والمرض والاستبداد التي تضرب المجتمعات، والتغيير الاجتماعيّ الذي هو أحد خواص الألفيّة الثالثة، يعني أنّ القيم والمؤسّسات والعلاقات الاجتماعيّة عرضة للتغيّر والتحوّل والتبدّل عدّة مرّات في حياة نفس الجيل، وهو نتاج الثورة التكنولوجيّة الثالثة، التي تعتمد على المعرفة العلميّة المتقدّمة، والاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفّقة بوتيرة سريعة، والذي سيتضاعف كلّ سبع سنوات فالجميع سيتأثّرون، وإلاّ داهمهم قطار التغيير، ولا يمكن للفرد والمجتمع أن يتكيّفا إلاّ اذا كانا مسلّحين بنوع من التفكير والمعرفة، من خلال ما يفرزه النظام التربويّ.
- دور التربية في إكساب القيم والسلوك:
يمكن إجمال أهمّ أدوار التربية في إكساب القيم والسلوك بما يلي:
- - تبدأ الحالة التربويّة واللبنة الأساسيّة للتربية والسلوك الثقافيّ من الأسرة، وتبدأ المسؤوليّة العظيمة والكبيرة لبناء شخصيّة الطفل؛ النفسيّة والعقليّة، وبالاستعدادات المناسبة لها من خلال قنوات الأحاسيس المحدّدة، السمعيّة والبصريّة والشمّيّة والذوقيّة، التي تتطلّب سلامة مؤدّياتها ألاّ وهي الأذن والعين والأنف واللسان. وهنا لعامل الاكتساب والفطرة أهمّيّة بالغة لتحقيق التربية الصالحة من خلال المعلومة والسلوك الصالح. لذا يتطلّب اهتمام الدولة والمجتمع بالأسرة وبنائها من خلال وسائل الإعلام والمؤسّسات الصحّيّة والتربويّة والثقافيّة، والحيلولة دون حدوث الإعاقة الفكريّة عن طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة والمقروءة، أو الإعاقة الصحّيّة عن طريق عدم توفّر المؤسّسات الصحّيّة المناسبة والمطلوبة، أو الإعاقة التربويّة والثقافيّة السليمة عن طريق عدم وجود ما يناسب من المؤسّسات التربويّة والثقافيّة.
- - الحيلولة دون وقوع ازدواجيّة ثقافيّة وتربويّة، والتناقض بين الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وذلك باتّباع أفضل الأساليب الإنسانيّة للحيلولة دون خلق الصراع والكراهيّة والعنف، حتّى يصل الفرد من خلاله إلى تدمير ذاته أو شخصيّته، ممّا قد يؤثّر على أسرته المادّيّة والمعنويّة، وقد يؤثّر حتّى على المجتمع كما يؤثّر على استقرار المجتمع وتماسكه، وقد يتعدّى إلى مستقبل المجتمع فيهدّده.
- - الاهتمام بالأساليب التقويميّة، التي بالإمكان التأثير إيجابيًا على الفرد والأسرة، وتقويم أساليب التربية التي تتواصل مع التربية المدرسيّة.
- - الاهتمام بتنمية القدرات التربويّة والثقافيّة لدى الكادر التدريسيّ على كلّ المستويّات وكلّ المراحل الدراسيّة، وبناء روح التعاون بين الطالب والمدرسة أو الجامعة وحتّى بلوغه الخوض في مهامه أو مسؤوليّاته الوظيفيّة المستقبليّة، وفي هذا المجال فإنّ للتدريب النظريّ والميداني أهمّيّة بالغة.
- - إنجاز المؤتمرّات والندوات الفاعلة التي تؤدّي بالأسرة والمجتمع والمؤسّسات إلى أساليب الحلول الناجحة، من خلال الاستنتاجات والتوصيّات المناسبة.
- - قيام وسائل الإعلام بالاهتمام بالشخصيّات المؤثّرة في المجتمع والأسرة، وذلك من خلال اللقاءات اليوميّة، لعرض الإنجازات العلميّة والعمليّة والسيرة الذّاتية، ممّا يتيح للأسرة وأفرادها إلى الاقتداء بهم وتقويم تربيتهم، وحتّى إجراء مقابلات للشخصيّات الدينيّة المحبّبة للمجتمع، ممّا يُسهّل على الدولة والمجتمع تقويم السلوك التربويّ واكتساب الثقافة والتجربة الذّاتية للشخصيّة، وهنا بدوره يشجّع على الابتعاد عما يسبّب ارتكاب الجرائم.
- - فتح أوقات مناسبة ومطوّلة لتبادل الآراء بين نخبة من الأدباء ورجال الدين والمثقّفين والكتّاب وحتّى مختلف شرائح الفنّانين، وفتح الحوارات بينهم وبين الجمهور أو المجتمع، عن طريق الندوات والمؤتمرّات المفتوحة وعرضها عن طريق قنوات التلفاز والمذياع والصحف... الخ، لتحقيق أقوم أسلوب تربويّ حضاريّ وتبادل ثقافيّ، من شأنها أن تبثّ روح ثقافة الجماهير Mass Culture تجمع بين النظريّة والتطبيق الميداني، بأقوَم السبل المشوّقة.
- خصائص ومميّزات التربية الإسلاميّة:
تستمد التربية الإسلاميّة خصائصها ومميّزاتها من خصائص الإسلام ومميّزاته، ذلك لأنّ العلاقة بين الإسلام والتربية الإسلاميّة علاقة وثيقة، فالإسلام دين يقوم على العقيدة الراسخة وعلى العبادة الخالصة لله، وهو دين يدعو إلى الأخلاق الكريمة ويحث على التفكير والنظر ويدعو إلى العلم والعمل، ويمكن تلخيص خصائص التربية الإسلاميّة التي تميّزها عن غيرها من الأنظمة التربويّة بما يلي:
- - تربية ربّانيّة: لأنّ مصدر التربية في الإسلام هو الخالق سبحانه وتعالى، وما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن هنا يأتي الكمال، فهي ربّانيّة المصدر، إلهيّة التوجّه، يقينيّة العلم، منزّهة عن الخطأ البشريّ، وفيها التوافق مع قدرات الفرد وحاجاته واستعداداته الفطريّة، أمّا المصادر الأخرى للتربية فهي من إعداد البشر الذين يعتريهم القصور والنقص.
- - تربية شموليّة: حيث لم تغفل النصوص الشرعيّة رعاية أيّ جانب من جوانب الشخصيّة الإنسانيّة، وتتميّز بأنّها تشمل أهدافًا قريبة تتحقّق في الحياة الدنيا وأهدافًا بعيدة تتّصل بالعمل للآخرة.
- - تربية تجمع بين التوازن والوسطيّة: فهي تلبّي حاجات الفرد بحيث لا يطغى جانب على آخر، فلكلّ جانب نصيبه من الرعاية والاهتمام الذي يحقّق له الانسجام من غير إفراط ولا تفريط، وتشمل التوازن بين الفرد المجتمع، والتوازن بين العمل من أجل الدنيا والعمل من أجل الآخرة، قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾. كما تدعو إلى الوسطيّة في كلّ شيء، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾
- - تربية تجمع بين الثبات والمرونة: أنّ ما تتميّز به التربية الإسلاميّة جمعها بين الثبات والمرونة، ففيها الثبات فيما يُخلّد ويبقى والمرونة فيما يُخلّد ويتطوّر، وهي بهذا تتميّز عن الأنظمة التربويّة الجامدة والأنظمة التربويّة التي تتطوّر وتتغيّر باستمرار ولا يوجد فيها شيء ثابت، ونتيجة لما في هذه التربية من ثبات فهي تحتفظ بأصولها ثابتة لا تتغيّر، ونتيجة لما فيها من مرونة فهي تتفاعل مع غيرها من الأنظمة التربويّة فتأخذ منها ما يلائمها ويتكيّف معها.
- - تربية متدرّجة: تعتمد التربية الإسلاميّة التدرّج كأساس نفسيّ في تنمية قدرات الفرد المختلفة، والتدرّج في التربية يفيد في تسهيل عمليّة تعديل السلوك وتغيير العادات غير المرغوبة.
- - تربية عمليّة تطبيقيّة وإلزاميّة: التطبيق والممارسة العمليّة من أهمّ غايات العلم في الإسلام، والذي يستقرئ آيات القرآن الكريم يجد الوضوح في عمليّة ربط الإيمان بالعمل، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾
- - هي تربية إلزاميّة: فالتربية في الإسلام جزء رئيسيّ من الواجبات الدينيّة، يؤاخَذ الفرد على تركها كما يثاب على فعلها.
- - تربية إنسانيّة متكاملة: فمضمونها وغاياتها أن يحيا الإنسان سعيدًا ويفوز بالنعيم المقيم، فالإنسان في التربية الإسلاميّة مخلوق متميّز ومكرّم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾
- - تربية تتميّز بالإيجابيّة والقدوة: تنسجم التربية الإسلاميّة مع فطرة الإنسان ومع عقله وجسمه ووجدانه، وتجعله إنسانا فاعلاً في الحياة، وعنصرًا خيّرًا دائمًا، وتتمثّل هذه الإيجابيّة في القدوة العظمى وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
- - تربية واقعيّة وعلميّة: واقعيّة لكون تصوّرها للكون والحياة والإنسان تصوّر ينطلق من الواقع، فالعقائد والأخلاق والتشريعات التي تقوم عليها راعت الواقع العمليّ، ومن أبرز دلائل الواقعيّة في الشريعة الإسلاميّة، التيسير ورفع الحرج وسنّة التدرّج، وهي علميّة لأنّها تتولّى العلم، والحث والتفكير اهتماما كبيرًا، قال تعالى: ﴿ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾
- - تربية عالميّة: تأتي العالميّة في الإسلام من كونه جاء من أجل الجميع ولم يوجه إلى أمّة من الأمم في عصر من العصور قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلنَاكَ إِلاّ كافّة لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾
- القيم ومعناها في التربية الإسلاميّة:
يعرّف علماء الاجتماع والتربية القيم بأنّها: محكّات ومقاييس نحكم بها على الأفكار والأشخاصّ والأشياء والأعمال والموضوعات والمواقف من حيث حسنها وقيمتها والرّغبة بها، أو من حيث سوئها وعدم قيمتها وكراهيّتها، أو في منزلة معيّنة ما بين هذين الحدّين.
وتتحدّد منزلة القيم في حياة الفرد والمجتمع طبقًا للثمن الذي يقدّمانه من الوقت والمال والنفس، ويعتمد مستقبل أيّ مجتمع على القيم التي يختارها أكثر من اعتماده على تقدّم التكنولوجيا. إنّ علماء اليوم يركّزون على دور الدين كمصدر للقيم الإنسانيّة، فقد انتقد ثيودور روزاك التربية والعلم المجرّدين من القيم ووصفهما بالانتقاصيّة ـ أيّ إنّ السمة المميّزة للعلم الحديث هي الانتقاص من مكانة الإنسان والكون والحياة. فالتربية تحتاج أن تبدو على الأقلّ كجهد يستهدف إخراج الإنسان الفاضل وتنمية الحياة الفاضلة والمجتمع الفاضل.
إنّ أساس تنمية القيم عند الإنسان من خلال تعزيز مكانتها في الاجتماع الإنسانيّ، فالقيم تحتلّ المكانة الأولّى في حياة الإنسان لأنّها تقرّر نوع السلوك الإنسانيّ.
إنّ التحدّي الكبير الذي تواجهه المجتمعات البشريّة ليس هو خطر الحروب والأسلحة الذرّيّة، إنّما هو خطر الزلازل الجارية في ميادين القيم. والمجتمعات التي تتحمل فيها نظم التربية ومؤسّسات التوجيه مسؤوليّاتها إزاء الزلازل الجارية، سوف تواكب مجرى الحضارة المستقبليّة وسوف تسهم في تحسين كيان الإنسان ونقله من التخلّف إلى الرقيّ.
إنّ الأساس في تنمية القيم هو التركيز على دور الدين واعتباره كمصدر للقيم الإنسانيّة. فهو قسّم البشر إلى ثلاث أصناف كما هو ظاهر في الآيات العشرين التي تبتدئ بها سورة البقرة وهم: مؤمنين وكافرين ومنافقين.
والقرآن الكريم مليء بالتوجيهات الإلهيّة التي تحدّد أنماط السلوك التي تجسّد قيم الإيمان وقيم التقوى وقيم الإحسان وقيم الكفر وقيم النفاق. وغيرها من القيم التي تحدّد تفاصيل كثيرة لتطبيقات القيم.
كما أنّ القرآن الكريم وضع قواعد وأسسًا صريحة وواضحة في الوحدة الإنسانيّة سبق بها جميع من ينادون اليوم بحقوق الإنسان من منظّمات وجمعيّات ومؤسّسات، عالميّة كانت أم محلّيّة.
رابعًا: رأيّ الدين حول الوحدة الإنسانيّة والتعامل مع الآخر
جاء الإسلام خاتمًا للشرائع السماويّة، وبعث الله سبحانه وتعالى نبيّه محمّدا (ص) للناس كافّة بشيرًا ونذيرًا ورحمة فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلعَالَمِينَ﴾
وأعلن الإسلام أنّ الناس جميعًا خُلقوا من نفس واحدة، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، وهذا الأصل البشريّ الواحد يعطي كلّ أفراد هذه الأسرة الإنسانيّة الواحدة حقوق الكرامة الإنسانيّة الواحدة دون استثناء أو تميز كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾
ووضع الله سبحانه وتعالى لعباده في قرآنه قاعدّة قرآنيّة تعدّ الدستور الأساس في معاملة المسلمين لغيرهم من الناس في قوله تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾
قواعد مستقاة من القرآن الكريم في الوحدة الإنسانيّة:
القرآن الكريم هو دستور الشريعة الإسلاميّة، يحمّل في آياته المرتكزات والنصوص الأساسيّة الموجزة والمعجزة للتصوّر الإسلاميّ للحياة، وقد اشتمل القرآن الكريم على العديد من الآيات القرآنيّة المؤصّلة لقواعد الوحدة الإنسانيّة في أسمى معانيها وفيما يلي بيان لبعض هذه القواعد:
- - الأصل الإنسانيّ الواحد: أعلن الإسلام أنّ الناس جميعًا من نفس واحدة فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. قال الشيخ عبد الرحمن ابن السعدي: "وفي الإخبار بأنّه خلقهم من نفس واحدة وأنّه بثّهم في أقطار الأرض مع رجوعهم إلى أصلٍ واحدة، ليعطف بعضهم على بعض، ويرفق بعضهم على بعض، وقرن الأمر بتقواه، بالأمر ببرّ الأرحام، والنهي عن قطعيتها، ليؤكّد هذا الحقّ، وأنّه كما يلزم القيام بحقّ الله، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصًا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم، هو من حقّ الله الذي أمر به".
وهكذا قرّر القرآن الكريم دستور الإسلام أنّ البشريّة من أصل واحد تجمعهم أخوة الأصل الواحد، وهذا يستدعى التراحم والحبّ والتعاون على البرّ والتقوى، ولو فهم الناس هذا وعملوا به لاختفت العصبيّة الجاهليّة والتمايز الجنسيّ واللونيّ والعرقيّ، واتّحدت البشريّة في وحدة واحدة، وحدة إنسانيّة متعاونة، متعايشة متآلفة، تبنى لصالح الإنسان، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاختلاف أَلسِنَتِكُمْ وَأَلوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلعَالِمِينَ﴾، فالاختلاف بين الناس آية عظيمة من آيات الله الكونيّة، تعادل خلق السموات والأرض.
- - القاعدّة القرآنيّة في المعاملة الإنسانيّة: وضع القرآن الكريم قاعدّة ذهبيّة قرآنيّة في معاملة المسلمين لغيرهم من الناس تقوم على البرّ والقسط قال تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أنّ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾
- - القاعدّة القرآنيّة في العدالة الإنسانيّة: العدل المطلق هو العدل مع الجميع، وفي كلّ الظروف والأوقات، وقد قعَّد القرآنُ الكريم للعدل المطلق حتّى مع من نبغضهم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
- - إطعام الأسير قربى إلى الله: المعلوم أنّ الأسير جاء ليحارب المسلمين، وقد جعل الله إطعام الأسير الطعام مع احتياج المسلمين الطعام قربى إلى الله قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، فقد جعل الله سبحانه وتعالى إطعام الأسير الطعام مع ندرته وحبّه، لوجه الله قربة إلى الله تجعل المسلم من الأبرار، ويقيه الله بسبب ذلك شرّ النار ويدخله الجنّة، وبذلك سبق الإسلام حقوق الإنسان ومعاهدة جنيف والمواثيق الدوليّة لحقوق الأسرى. قتال المقاتلين وإكرام المسالمين: قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ المُعْتَدِينَ﴾
- - الرسول محمّد (ص) يعظّم عظماء العالم: راسل الرّسول (ص) رؤساء وملوك وسلاطين العالم وكتب يقول: "من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس"، "ومن محمّد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط"، و"إلى النجاشيّ عظيم الحبشة" هكذا يعظّم رسولنا (ص) عظماء العالم من الفرس والروم والأفارقة، فهل بعد ذلك نتّهم بالإرهاب، ويتّهم نبيّنا (ص) صاحب الخلق العظيم الذي قال الله تعالى له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، يتّهم بتهم لا تليق بعوام الناس والمفسدين في الأرض؟!
- - احتياج العالم للإسلام: الإسلام دين الله الذي بعث الله به جميع الأنبيّاء والرسل من آدم عليه السلام إلى خاتم المرسلين محمّد (ص) وذلك تعميرًا للكون بنواميس الله في الخلق وفق منهاجه الأخلاقي في دين الله وفي كتاب الله والقرآن الذي لم يحرّف ولم يبدّل، وقد تعدّدت الديانات والشرائع، والدّين الحقّ هو ما كان وحيًا من عند الله للمرسلين من خلقه لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وهذا بما يجيء به من العقائد والأصول والشرائع التي لا تختلف عليها الرسل جميعًا عليهمّ الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقيموا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا﴾
- - الإسلام دين العقل الصريح والعلم النافع الصحيح: ففي سورة لقمان يعيب الله تعالى على من يجادل في الله وما جاء به الرسول الصادق الأمين من عنده، بغير علم ولا هدي ولا كتاب واضح، بل جمودًا على ما كان عليه أسلافهم وذلك بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَل نَتَّبِعُ مَا أَلفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾
وجعل الله طريقين ليصل بهما الإنسان إلى معرفة حقائق الوجود:
أحدهما: العقل الذي خلقه فيه، وجعله قوة نامية وبه يدرك حقائق العالم المحسوس، وإن كان إدراكه لهذا العالم نفسه أيضا ناقصًا غير كامل، ومتقدّما تدريجيًّا خلال العصور والأزمان.
الطريق الثاني: جعله الله لإدراك حقائق الغيب، وما وراء عالم الشهادة ممّا لا يستطيع العقل وحده إدراكه لأنّه من طبيعة مختلفة عن طبيعته، وذلك لئلاّ يُدع الإنسان جاهلاً غافلاً عما وراء هذا الكون لأنّ وراء ذلك مسؤوليّة يتحمّلها الإنسان إذا بلغ وأقيمت عليه الحجّة، ومن هذا الطريق يكون وصل الإنسان بعالم الغيب والكشف عن الحقائق الكبرى، وأهمّها الحقيقة الإلهيّة، وهذا الطريق هو طريق الوحي إلى الأنبيّاء والرسل
الإسلام ومصالح العباد في الدنيا والآخرة: جاء الإسلام للحفاظ على مصالح العباد، وحصر العلماء والفقهاء والمفسّرون المقاصد العامّة في الشريعة الإسلاميّة في الحفاظ على مصلحة الدين، ومصلحة النفس، ومصلحة العقل، والمحافظة على النسل والمال من جانب الوجود وجانب العدم، وهذا ما فصّله الدّكتور يوسف حامد العالم في بحثه القيم عن المقاصد العامّة في الشريعة الإسلاميّة ويكفي الإسلام هذه المفخرة، الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
خامسًا: البعد التربويّ الاجتماعيّ ودوره في تشكّل الثقافة (الدينيّة) الإسلاميّة:
- معرفة الذات والشخصيّة الإسلاميّة:
من حقّ الشعوب أن تعرف ذاتها، هذه هي نقطة البداية في مسيرة المجتمعات المتطلّعة إلى الأمن النفسيّ والاستقرار الاجتماعيّ. ومعرفة الذات تطلّع فطريّ وغريزي، سواء بالنّسبة للأفراد أو المجتمعات، وعندما تضطرب هذه المعرفة ويكون طريقها متشعّبًا ومعوجًّا فمن الطبيعيّ أن تضطرب الشخصيّة الإنسانيّة، وأن يصدر منها من أنواع السلوك ما يعتبر في موطن الإدانة.
الشخصيّة الإسلاميّة هي وليدة ثقافة شموليّة متكافلة، أسهمت في نمو تصوّرات فكريّة وقيم سلوكيّة، جعلت المسلم في حالة انسجام مع ذاته، فلا يضيق بفكره، ولا يتناقض مع تصوّراته، ولذلك جاءت شخصيّته متماسكة منسجمة، وهذا هو الأصل في نموّ الشخصيّة الإسلاميّة وفي طبيعة تكوينها.
عندما يقع التناقض بين الذات بمكوّناتها العضويّة والغريزيّة والتصوّر الفكريّ المتعلّق بالقيم، فسرعان ما ينعكس أثر ذلك التناقض على السلوك العامّ، فيقع التصادم بين الإنسان وذاته، وتنكفئ النفس على ذاتها في موقف رقابي يجسّد حالة التيه والضياع، وتبرز آثار ذلك على السلوك العامّ، في مواقف متطرّفة وسلوكيّات عدوانيّة.
الإنسان عندما يفتقد هويّته يفتقد مشاعر الانتماء، والإسلام بالنّسبة للمسلم هويّة وانتماء، وعندما يختاره، فإنّما يختار طريقًا واضح المعالم، معبّد المسالك، يوفّر لسالكيه الأمن والاستقرار، ويمنحهم الشعور بالانتماء إلى جماعة متكافلة ذات رؤية حضاريّة، وذات ثقافة شموليّة، وذات منهجيّة في مواقفها الفكريّة.
- أبرز مكوّنات الشخصيّة:
يمكن إيجاز أبرز مكوّنات الشخصيّة بالتالي:
- - الطبيعة الذّاتية للشخصيّة الإنسانيّة في قابليّتها النفسيّة: النفس عالم مغلق على أسراره وطاقاته وقابليّته، ويعتبر السلوك التعبيريّ الأداة الواضحة للكشف عن تلك القابليّات المُخبَأة، وبالرغم من أنّ هذه القابليّات ليست حتميّة وفطريّة في معظم الأحيان، فإنّ جزءًا غير يسير منها يتكّون من خلال ظروف بيئيّة وعوامل نفسيّة تعمّقها مشاعر المعاناة وانفعالات أخرى.
- - المؤثّرات الخارجيّة التي تسهم في تكوين ملامح الشخصيّة: أهمّ هذه المؤثّرات، البيئة المحيطة بالإنسان، منذ طفولته الأولى، وهذه البيئة تصوغ له رؤيته، وتسهم في تكوين الملامح الأولى لشخصيّته السلوكيّة، والطفل في سنواته الأولى يملك قابليّات غير محدودة للتعلّم والمحاكاة والتقليد. ومن الطبيعيّ أن يتلقّى دروسه الأولى من المحيط القريب منه، سواء بطريقة موافقة أو مخالفة، بحيث يمتد أثر البيئة في تكوين رؤيته، وبخاصّة فيما يتعلّق بالقيم السلوكيّة والقيم الأخلاقيّة، ولهذا يجب التأكيد على أهمّيّة نقاء البيئة الاجتماعيّة كعامل أساسيّ في تكوين الشخصيّة الإنسانيّة، والبيئة النظيفة مؤهلة لتكوين شخصيّات سويّة، تؤمن بأخلاقيّة السلوك وقيم التعايش وكرامة الإنسان، ونبذ التطرّف والعنف واحترام حقوق الآخر.
- دور التربية الإسلاميّة في تشكّل الثقافة (الدينيّة) الإسلاميّة:
وهنا نقف وقفة طويلة عند هذه المكوّنات النفسيّة والخارجيّة، لتأكيد أثر التربية الإسلاميّة في استقامّة الطبائع البشريّة، من حيث أثر هذه التربية في تعديل الغرائز الفطريّة والتحكّم في اندفاعاتها وتقليم أظافر تلك الغرائز الطائشة المخرّبة للنظام الأخلاقي العامّ، والمتمرّدة على كلّ قواعد الانضباط المحمود.
والتربية الدينيّة ليست مادة تعليميّة، ولا يراد بها استظهار بعض الأحكام والإشادة بمواقف من تاريخنا، إنّما يراد بها أوّلاً استخلاص قيم الإسلام في مجال السلوك الإنسانيّ، من خلال دراسة المنهج الأخلاقي في القرآن والسيرة النبويّة، لكي تكون هذه القيم مطبوعة في النفس، راسخة في الجذور في أعماق الشعور، كمثل عليا لسلوكيّات متميّزة. ونظرًا لمكانة الدين في النفس البشريّة، فإنّ من اليسير أن تحظى هذه السلوكيّات باهتمام الناشئة، وأن تنمو قيم الفضيلة في نفوسهم من خلال ذلك النموذج الأعلى الذي يحظى بقداسة دينيّة.
تعتبر التربية الدينيّة من أهمّ الأسباب التي تدفع الناشئة إلى التزام طريق الاستقامة والتعلّق بقيم الفضيلة، وعندما تكون مناهج هذه التربية سليمة، فمن المؤكّد أنّ أثرها ينعكس بطريقة إيجابيّة وسريعة على أخلاقيّة المجتمع وتماسك الأسرة، وتكافل الأفراد والجماعات، وبخاصّة فيما يتعلّق بظاهرة الجريمة وانحراف الأحداث، حيث أكّدت الدراسات الاجتماعيّة والتربويّة أثر التربية الدينيّة في تطويق مظاهر الانحراف، وفي التخفيف من حدّة الاندفاعات الطائشة للمراهقين.
يجب على النظام التربويّ أن يكون واضحًا في التزاماته، منسجمًا في تكوينه، وألاّ يكون بعضه متناقضًا مع البعض الآخر في دفاعه على كرامة الإنسان، وفي تحديد مواقفه من قيم الفضيلة، ومن المؤسف أنّ الأنظمة التربويّة التي تستمدّ مواقفها وقيمها من مصادر متناقضة وغربيّة تنشئ حالة من التوتر في نفسيّة الشباب، لأنّهم يجدون أنفسهم في مواجهة قيم متناقضة، فتضطرب معاني الفضيلة في أذهانهم، وهذه ظاهرة سرعان ما يظهر أثرها السلبي في اضطراب سلوكيّات الشباب واندفاعهم لإغراق أنفسهم في مستنقعات الغريزة، باحثين في لحظات السرور والبهجة عن المتعة واللذة، ومدمّرين في لحظات الغضب كلّ قيم التعايش والتساكن من خلال موقف التمرّد والعنف.
إنّ النظام التربويّ الصحيح والسليم هو القادر على مواكبة طرائق التعليم الحديثة المستمدّة من قيم إسلاميّة أصيلة، من غير إغراق في مثاليّات مفرطة في تجاهل طبائع النفس البشريّة، ومن غير إفراط في مراعاة حرّيّات متجاوزة لما يدعو إليه المنهج التربويّ السليم من وجوب ضبط السلوك وتقليم أظافر الشطط، لكيلا يصبح الشطط مطيّة لانحرافات الشباب.
ولا ينبغي أن يغفل النظام التربويّ الاستعدادات الفطريّة لدى الأطفال، والقدرات العقليّة والغرائز الطبيعيّة، فالطفولة جميلة بعبثها، غنيّة بقدراتها، وهي تعبير عن ذاتيّة الأطفال، وهي أداة لتنبيّه شخصيّاتهم، ولا يجوز إغفال تطلّعات الأطفال، ولا تجاهل هذه الاستعدادات، وإنّ مطاردة الطفولة من خلال تجاهل مطالب الأطفال هو تجاهل لواقع وإنكار الحقيقة، ولا نريد لأطفالنا أن يكونوا رجالاً في عقولهم، ولا يكونوا كبارًا في اهتماماتهم، فمن لم يعش طفولته، بعبثها وتمرّدها وصخبها، فسرعان ما يبحث عن هذا العبث والتمرّد والصخب في شبابه، ويصبح أسير عواطف مكبوتة واستعدادات فطريّة مُخبّأة.
سادسًا: التحديّات التي تواجهها الثقافة الإسلاميّة:
وفي الختام لا بدّ لنا من إيراد بعض التحديّات التي تواجه الثقافة الإسلاميّة وهي:
- الاجتهاد:
الاجتهاد في وضع حلول للمشاكل "السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة…"، التي يطرحها واقع المجتمعات المسلمة المعاصرة.
- الجمع بين الأصالة والمعاصرة:
الجمع بين الأصالة والمعاصرة، من خلال تجاوز موقفي القبول المطلق لإسهامات المجتمعات الأخرى (التغريب)، والرّفض المطلق لها (التقليد)، والانتقال إلى موقف نقديّ قائم على أخذ ما يوافق أصول الدين وواقع المجتمعات المسلمة من هذه الإسهامات ورد ما يخالفها.
- الموقف من الآخر:
الكيفيّة التي يجب أن يكون عليها موقفه واتّجاهه وسلوكه، في مواجهة الآخر من الأشياء والظواهر والناس.
- الإسهام في تحقيق التقدّم الحضاريّ:
الإسهام في تجاوز المجتمعات المسلمة، لتخلّف النموّ الحضاريّ، الذي أصاب المجتمعات المسلمة، نتيجة لعوامل داخليّة (كشيوع البدع والتقليد والجمود والاستبداد...) وخارجيّة (كالغزو المغولي والاستعمار القديم والجديد...) متفاعلة، وتحقيق التقدّم الحضاريّ لهذه المجتمعات.