الدّكتور عبد الأمير زاهد
المدخل:
تؤدّي الأديان التي يعتقد بها البشر وظائف اجتماعيّة وسياسيّة مهمّة فضلاً عن وظيفتها الروحيّة، وتتدخّل في صياغة قيم السلوك الفردي والمجتمعيّ والدولي، لاسيّما تلك الأديان شديدة التأثير على أتباعها من جهة المضمون والتي تملك آليّات الضبط والانقياد لمؤسّساتها التي تؤدّي دورًا مرجعيًّا، والنماذج الموجودة اليوم في العالم الإسلامي المسيحي الفاتيكان والكنيسة الشرقيّة وكنيسة اليونان والكنيسة القبطيّة، والأزهر والمرجعيّة الدينيّة للشيعة في قّم والمرجعيّة الدينيّة في النجف ويمكن تقسيم هذا الدور إلى نوعين، دور إيجابي وآخر سلبي، ويؤدّي الأوّل إلى العيش السلمي ويحقّق التقدّم والأمن ويفضي الثاني إلى فقدان الاستقرار وإثارة النزاعات والحروب والصدامات على خلفيّة فكر إقصائيّ متعصّب عدائيّ النزعة تحريضيّ الخطاب، يعبّئ أتباعه ويدفعهم لممارسة العنف تحت دوافع دينيّة.
يحاول البحث أن يجيب على مجموعة أسئلة منها:
- هل الوظيفة المرجعيّة لمرجعيّة النجف ناتجة عن طبيعة التكوين الفكري للنجف الأشرف من حيث التاريخ والجغرافية الحضاريّة الكاشفة عن نوع القيم وطبيعتها؟
- هل الأساس في مواقفها ووظيفتها السمات المنهجيّة والمعرفيّة لمدرسة النجف الدينيّة، أو الأساس عوامل الصيرورة التاريخيّة والسوسيولجيّة لهذه المرجعيّة؟ مثل التزامها بأسس عمليّة الاجتهاد وأسس التفكير النقدي والمنهجيّة المقارنة في المعرفة الدينيّة والاهتمام بالمعاصرة والبرهانيّة في المنهج التأهيلي في محاولة للكشف عن الماورائيّة في صنع القرار مع الأخذ بالاعتبار عنصريّ الثبات أو التحوّل، وتطوّر المستند المنهجيّ لذلك التفكير والمستجدّات النظريّة الناتجة عنه بالأهداف والنظريّات الفكريّة. مثل اجتهاداتها المعاصرة في المجالين الاجتماعيّ والإنساني مثل تبدّل موقفها من التنوّعات العقائديّة في العالم
- ثمّ دراسة وتحليل أبرز مواقفها المعاصرة إزاء الاقتتال الطائفيّ في العراق بعد عام 2003 وموقفها من هجوم داعش عام 2014.
ويرصد البحث في مرجعيّة النجف المعاصرة وسائلها للوصول إلى أهدافها وتصوّراتها، وهي على نوعين الوسائل الأساسيّة، والوسائل الإجرائيّة اليوميّة.
فالبحث: محاولة رصد تحليلي للأسس العامّة للتفكير المجتمعيّ في مرجعيّة النجف، وأهدافه ووسائله في صياغة الحركة التاريخيّة لأتباعها وقد قيّدناه بـ (المعاصرة) ليكون الرصد على مدى القرن الماضي (القرن العشرين) والتزمنا من وظائفها بوظيفتين صناعة السلام المجتمعيّ، وبناء الدولة.
النشأة التأسيسيّة والجغرافية الحضاريّة للنجف:
تقع مدينة النجف الأشرف في جنوب العراق وتبعد عن بغداد بـ (150) كم، وتبعد عن (بابل) بعمقها الحضاريّ الضارب في وادي الرافدين (50) كم، وتبعد عن الحيرة حاضرة المسيحيّة المشرقيّة التي تضمّ (33) ديرًا وكنيسة بـ (20) كم، كما تبعد عن الكوفة التي هي المدرسة الأولى للمعارف الدينيّة المتعدّدة خارج جزيرة العرب والممصرة عامّ (17هـ) عشرة كيلو مترات.
فجغرافيّتها الحضاريّة بابليّة – مسيحيّة – كوفيّة، فإنّ هذه الثقافات في جغرافيّتها بما فيها من آثار وذاكرة ومعرفة وقيم وتوجّهات قد تناقلها الزمن، فتأسّست النجف عامّ (40هـ) عندما (دفن) في ثراها شخص عظيم الشأن في الحكمة والعلم والعدل والقيم الإنسانيّة وهو علي ابن أبي طالب(ع) وصار القبر محطّ أنظار أتباعه الذين يستلهمون منه قيم الشموخ والتفرّد، وكانوا يزورونه مرارًا حتّى نهاية القرن الهجريّ الثاني الذي أصبح (مزارًا علنيًّا مقصودًا) وكانت تجري فيها آنذاك مراسيم منح إجازات الرواية والاجتهاد فقد بدأت تتكاثر حول المرقد الشريف بعض البيوت كبدايات لتشكّل المدن وتكاثرت تكاثرًا تدريجيًّا ثمّ توسّع العمران في القرن الرابع الهجري عندما اعتنى البويهيّون بالمرقد وعمّروه وجعلوا له عطايا وهبات وأوقافًا (5) وقد ازداد سكّانها تدريجيًّا رغم أنّها تقع على تخوم الصحراء الممتدة للحجاز، وكونها خالية من مصادر المياه والزروع.
وكانت مرجعيّة الشيعة آنذاك قد تكوّنت في بغداد بعد (256 هـ) وهو بدء عصر الآباء الرواة كالكليني ثمّ تلاه عصر الفقهاء الآباء المجتهدين مثل ابن الجنيد وابن أبي عقيل والمفيد، وكانت المعرفة الشيعيّة قرارات صيانة وتطوير المجتمع الشيعيّ تتقرّر في مرجعيّة بغداد واستمرّ ذلك حتّى عام (447 هـ) حينما دخل بغداد السلاجقة الذين كانوا يحملون قدرًا كبيرًا من البداوة والتعصّب فهاجموا مرجع الشيعة آنذاك محمّد بن الحسن الطوسيّ وأحرقوا مكتبته ومكتبة سابور وكرسي الكلام وقاموا بأعمال وحشيّة على خلفيّة تعصّب مذهبيّ اضطرّ على أثره الشيخ الطوسيّ لمغادرة بغداد والتوطّن في مدينة النجف وتشكيل القيادة الدينيّة والعلميّة للشيعة في العالم هناك وعلى مدى اثنتي عشرة سنة من توطّنه في النجف، أعاد تدوين المعرفة الشيعيّة ككتب التفسير والرواية والفقه والأصول والكلام والعرفان...الخ. ومارس الدور (المرجعي) فيها حتّى وفاته في (460هـ)
وهكذا نجد إنّها بدأت (قبرًا) لشخصيّة عظيمة، ثمّ صارت مزارًا مقدّسا للناس، وقد جرت فيها مراسيم منح الإجازات، ثمّ صارت مدينة للمعرفة فتنامى في رواقها التدوين والتأليف والتدريس ونقد المعرفة وإنتاجها، وكتبت الأدبيّات الأولى للتشيّع ثمّ امتازت إضافة إلى ما تقدّم من مهام بأنّها مقرّ نائب الإمام وهو المرجع العامّ للشيعة، ومنها كانت تصدر التوجّهات العامّة والخاصّة لأتباع مذهب الشيعة الإماميّة فهي إذن (مزار – ثمّ حوزة دراسات – ثمّ مقرّ القرار المرجعي) ومنها تخرّج آلاف العلماء المجتهدين على مدى ألف عام إلى يومنا هذا ورعت خلاله الآداب والحكمة والفلسفة والعرفان وعلوم اللغة والتاريخ...إلخ رعاية تفكير وتطوير ونقد.
القسم الأوّل: أسس التفكير العلميّ للمرجعيّة الدينيّة في النجف
خاصيّة الاجتهاد في مرجعيّة النجف ومقتضياته
منذ أن انتهى عصر النبوّة، اختار المسلمون الأوائل الاجتهاد قرينًا للنصّ واعتمدوه لإنتاج نظريّة إسلاميّة للوجود والقيم والنظم الاجتماعيّة، وساروا على هذا المسلك حتّى أواخر العصر العبّاسي وكان الفقهاء المجتهدون يتزايدون جيلا بعد جيل حتّى عدت حضارة المسلمين حضارة الاجتهاد الفقهي وفي منتصف القرن الرابع الهجريّ أصدرت السلطة أمرًا بإلغاء هذا المسلك وتوقّف الاجتهاد في مدارسهم الفقهيّة، لكنّ علماء الشيعة الإماميّة أصرّوا على إبقاء الاجتهاد مرجعيّة إلى جانب النصّ لاحتواء مستجدّات العصور ومشكلاتها، والتزمت مدرسة النجف بتخريج الفقهاء المجتهدين على مدى الألف عام من عمرها الحضاريّ، ويقتضي الاجتهاد التوصّل إلى "منهجيّة برهانيّة لإنتاج المعرفة" واستخدام هذه المنهجيّة لتحليل وتوصيف الوقائع والتصرّفات وإعطاء حكمها الشرعي.
لذلك فالنجف لا تتعامل مع الدين بنموذجه التاريخيّ، إنّما بنموذجه الحركي مع الزمن ولكنّ المنضبط بالقوانين الخاصّة بتحليل النص وتلمس المصلحة والمقاصد. لذلك يعتقد الدارسون أنّ خاصيّة الاجتهاد، وإعادة قراءة النص الديني في ضوء المتغيرات الواقعيّة يتعارض مع نظريّة "الإتباع" السلفيّة التي تدخل في الرواق التاريخيّ للدين بدل الحركة في رحباته وفضاءاته.
ومن الاجتهادات التي تميّزت بها مدرسة النجف، احتضانها لأتباع الأديان والمذاهب الأخرى بوصفهم مواطنين عراقيين والاعتراف الواقعي بوجودهم الفكري والعقائديّ في جميع أنحاء العالم وتجسّد ذلك بمواقف عمليّة منها: دعوة المرجعيّة الدينيّة للنجف المسيحيّين العراقيين إلى عدم مغادرة العراق رغم ظروفهم الصعبة وإغاثة تجمعاتهم بعد النزوح إبّان أزمة هجوم داعش على سهل نينوى، بل استضافة بعض في مدن إسلاميّة شيعيّة مثل النجف وكربلاء.
وفي ذلك تميّز واضح عمّا تتّخذه (مرجعيّات دينيّة أخرى) ترى عدم التعامل معهم وأحيانا تحرّض ضدّهم، ويصدر عنها تحريم تقديم أيّة مساعدة لهم وتتناقل كتبهم ذلك بروايات كثيرة بينما تشدّد مرجعيّة النجف على ضرورة إدامّة الحوار والتفاهم مع علماء الأديان والمذاهب – وترى ألا يقتصر ذلك على وقت الأزمات، بل تطلب مرجعيّة النجف أن يكون حوارًا مستمرًّا في جميع الأوقات
وتعتمد المرجعيّة معادلة تراتبيّة، وهي أنّ وظيفة الأديان للبشر هي الإسعاد وأنّ السلام هو جوهر سعادة البشر وهذا لا يتحقّق إلاّ بقبول الآخر واحترام رأيه، ولا يتمّ هذا إلاّ بالحوار ولا يمارس إلاّ بعد التأسيس النفسي والعقائديّ بأنّ الآخر يحمل جزءًا من الحقيقة ولازمة هذا الاجتهاد اعتبار التطرّف والتعصّب بوّابة لإجهاض السعادة والخير للبشريّة وهو من جنس الضرر المحرّم شرعًا
ويستند اجتهاد مرجعيّة النجف في هذا المسلك إلى آيات من القرآن الكريم وأحاديث نبويّة وأحكام وثيقة المدينة، وسيرة الإمام علي(ع) وما وصل من أقوال لأئمّة آل البيت (ع) بسند صحيح من ذلك مثلاً.
قول الإمام علي (ع) لمالك (وأشعر قلبك للرعيّة بالمحبّة ولا تكن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، يا مالك إنّ الناس صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
وترى مرجعيّة النجف أنّ المؤسّسات الدينيّة العالميّة المعاصرة أمام تحدٍّ كبير هو التطرّف والتعصّب الديني والمذهبيّ وتحرص ألاّ تستغلّ مكانتها ويستغلّ فكرها لإيقاع الضرر بالناس باسم الدين، بل عليها هي أن تصنع السلام لكلّ البشر وأنّ جزءًا جوهريًّا من هذا السلام المطلوب منها هو تحقيق العدالة لكلّ النوع الإنساني. ومن جهة الوسائل تعتقد أنّ هذا كلّه يحصل إمّا عن طريق لقاء عالميّ لكلّ أهل الأديان لإصدار وثيقة أمميّة لاحترام كلّ المعتقدات وتحريم الإساءة إليها والتأكيد على دور الأديان في إحلال السلام بين البشر.
أو في عقد اللقاءات الثنائيّة مع المتصدّين للمعرفة الدينيّة مع أهل المعتقدات كافّة لفتح حوارات تفضي إلى التقارب والتعايش وتفتح مرجعيّة النجف قلبها لاحتضان تلك اللقاءات والمساهمة الجادّة فيها.
وكجزء من معطيّات خاصيّة الاجتهاد التي التزمت مرجعيّة النجف هي العقلانيّة كطريق ومنهج تفكير الذي صار جزءًا مهمًّا من مضمون الفتاوى والأحكام والنظريّات التي تصدر عن المجتهدين والتي تفضي إلى السلام الذي تبتغيه أمم الأرض لاسيّما ما كان منه بالتعاون مع المؤسّسات الدينيّة العالميّة
ومن خواص الاجتهاد فإنّ النقد المنهجيّ للتراث يعدّ أحد ملازمات التفكير النقدي، فلا اجتهاد حقيقي ما لم يراجع العلماء أراء من سبقهم في المسألة أو مقارباتها، وعند مراجعتهم تظهر مشكلات جديدة فيتناولون حلولها بالنقد والتطوير ويقومون بإكمال نواقصها، لذلك فنقد التاريخ والذاكرة المعرفيّة المؤسّسة للفكر يعدّ مضادًا فكريًّا وفلسفيًّا للكراهيّة والعنف والتعصّب والانكفاء على الذات والزعم بامتلاك الحقيقة النهائيّة وهو ممارسة ضروريّة ولازمة من لوازم التطوير.
إنّ عدم اعتماد النموذج التاريخيّ للدين، ولزوم نقد الفكر الذي أنتجه التاريخ الديني وما تسرّب منه إلى دائرة الدين أمران مهمّان في أسس تفكير مرجعيّة النجف، فيتقرّر أنّ ما حصل من صراع واقتتال وتصادم بين أهل الأديان والمذاهب في فترات تاريخيّة ليس من الدين الذي يجب أن يتديّن به الناس، بل يناقش كلّ ما تقدّم من أحداث بحسب ظروفها ومسبّباتها البشريّة وما إذا كان لها سمة الاستمراريّة أو هو ظرف خاصّ بزمنه، وهذه الخاصيّة الفكريّة والمنهجيّة ربّما تفتقدها كثير من الجماعات الدينيّة فالنزاعات التاريخيّة حينما تتحوّل إلى ثأر عقائديّ يتناسل العنف ويتحوّل إلى دائرة مغلقة وحلقة مفرغة.
وتقدّم مدرسة النجف أنموذجًا لاجتهاد يعالج إشكاليّة التنوّع، وسبل إدارته فكريًّا وفلسفيًّا، وتؤسّس على فكرة الإقرار بالتنوّع كحقيقة وجوديّة كونيّة، ولأنّه موجود فلا بد من التعامل معه بوصفه واقعًا ومقتضى الإقرار بوجوده ربما قبوله على ما هو عليه وتسويغ التحاور معه دينيًّا وهذا يفضي إلى تحقّق حوارات متراكمة تؤدّي في الغالب إلى تفاهم اجتماعيّ بمعزل عن الاختلاف العقائديّ فينتج عنه "مجتمع متنوّع فيه هويّات ثقافيّة ولكنّها متصالحة" وينتج عن هذا الصلح سلام مجتمعيّ وتماسك اجتماعيّ تنمو في ثناياه قيم الحرّيّة والكرامة والابتكار والتقدّم والسعي لاكتشاف سبل سعادة الإنسان
إنّ في هذا الأنموذج موجبات وأطرافًا إيجابيّة وفيه أيضًا مجموعة (محرّمات) قام الفكر المرجعي بنقدها واستبعادها مثل الزعم بالخلاص الواحد أو الفرقة الناجية واحتكار الحقيقة الدينيّة وعدم التحرّج من التعامل مع أتباع الأديان الأخرى والمذاهب وإبطال الإفتاء بتحريم أبواب اللقاء مع الآخر وعدم تسويغ معرقلات التفاهم، وتحريم وتجريم كلّ ما يفضي إلى الإخلال بالسلام الاجتماعيّ وتماسك المجتمع من خطابات أو مدوّنات أو إفتاءات.
الاجتهاد في المجالين الاجتماعي والسياسيّ في مرجعيّة النجف:
لم تنكفء النجف عن ممارسة الاجتهاد في مجال العبادات إنّما وظّفت الاجتهاد لتطوير المجتمع وحلّ مشكلاته السياسيّة والاجتماعيّة فقد شخّص الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في رؤيته النقديّة إلى الاجتهاد عند الشيعة مجموعة أمور مهمّة منها ما يتّصل بأساليب البحث والاستدلال ومنها ما يتّصل بالهدف من الاجتهاد.
وفيما يتّصل بالهدف فقد جاءت مقاربته لتشخيص طغيان ما أسماه بالفقه الفردي على حساب الفقه الاجتماعي، وعزا ذلك إلى تاريخ الشيعة وعلاقتهم المتوّترة بالسلطات المتعاقبة، وسياسات عزلهم السياسي عن المجالات الاجتماعيّة ممّا أدّى إلى تقليص نطاق الهدف فانشغلوا بالفقه الفردي لكنّ مرجعيّة النجف المعاصرة منذ بدايّة القرن الماضي صارت تتحرّك باتّجاه الفقه المجتمعيّ مثل فقه التعاون الأمميّ وحرمة الضرر على الشعوب وحرمة الإضرار بالبيئة وفقه التعايش والإحسان.
لقد مارست مرجعيّة النجف مهمّتها الإفتائيّة في الجوانب الماليّة والاقتصاديّة وأحكام المياه والأنهار الدوليّة والمعادن وفقه الطاقة وأحكام السوق الدوليّة والتجارة الخارجيّة وحدّدت نطاق الدفاع وطبيعته ووسائله وأخلاقيّاته وجعلته التدبير الفطري لأيّ إنسان ضدّ العدوان على الفرد أو على الجماعة ولم تجز التوسّل بالجهاد لنشر الدين أو المذهب فلا ترى مرجعيّة النجف الجهاد الابتدائي كما يسمّونه، بل تشدّدت كثيرًا في ارتباط ذلك بالمعصوم، وحيث هو غائب فلا مبادرة لشنّ حروب تبشيريّة تحت عنوان الغزوات أو الفتوحات، وإنّ القتال الذي يواجه العدوان في رأي المرجعيّة ضرورة والضرورة تقدّر بقدرها، فلا يستمرّ المجتمع الشيعيّ في انتهاج سلوك القتال إذا انتفت الحاجة له وهو العدوان.
اعتماد مدرسة النجف الدراسات المقارنة:
ربّما تعزى ظواهر التعصّب إلى أسباب منتجة كثيرة منها أنّ المعرفة الدينيّة تقدّم من خلال رؤية واحدة، تقصي بقيّة الرؤى والاجتهادات وتعدّ ذاتها هي الحقيقة النهائيّة، وهذا التلقين الديني يجعل الناس ينظرون لمن يخالف هذه الوجهة "مارقين" وجماعات الباطل.
إنّ أوّل مقدّمة في إنهاء هذا العامل من عوامل التطرّف هو فتح الباب لكي يطلع المسلمون على ما عند مذاهبهم ويرون أدلّة كلّ اتّجاه، ولنفس الحيثيّة يفضّل أن يطلع المسلمون على الأديان الأخرى.
من ذلك: نجد أنّ مرجعيّة النجف تحثّ على دراسة الأديان ومن ذلك دراسة العلاّمة البلاغي بكتابه "الرحلة المدرسيّة" وإنّ دروس الحوزات العلميّة، ومناهج الكلّيّة الدينيّة الشيعيّة (كلّيّة الفقه) ففيها مادّة الفقه المقارن، وعلم العقائد المقارن، وقلّما نجد ذلك في أروقة المؤسّسات العلميّة الأخرى التي تتعمد إقصاء المناهج والمذاهب الأخرى. ومن جهة المؤسّسات فيلزم التذكير أنّه توجد حاليًّا في مدينة النجف مؤسّستان تحظيان بمباركة المرجعيّة الدينيّة تعنيان بالحوار الديني هما (المجلس العراقي لحوار الأديان، ومؤسّسة الحكمة للحوار).
وترسل مرجعيّة النجف من طلاّبها إلى جامعات غير إسلاميّة لدراسة الأديان وعلم الأديان المقارنة، أمّا على صعيد المذاهب: فمن المعروف أنّ دروس المرجع الأعلى كانت تضمّ أراء بقيّة المذاهب وأدلّتها.
الطبيعة التعدّديّة البرهانيّة للمنهج المعرفي التأهيلي للمجتهدين:
يتميّز هذا المنهج بتصميم يقوم على دراسة اللغة دراسة عميقة للوصول إلى ضبط حدود المجاز، ومديّات التأويل، لأنّ هذا المنهج لا يريد أن يقف الدارسون على النصّ الديني وقوفًا حرفيًّا كما هو حاصل في مدارس واتّجاهات دينيّة ربّما أنجبت عقلاً ماضويًّا حول الدين من مشروع إنساني متطوّر مع الزمان إلى تجربة تاريخيّة يراد فرضها على الأزمان التالية لها من دون مراعاة لكلّ مستجدّات الحياة المدنيّة وتطوّر الحضارات، وبذات الوقت يركّز المنهج الحوزوي النجفي على ألاّ يتماهى الدارسون للنص الديني في التأويلات البعيدة بحيث نصنع الحقيقة الجوهريّة للنصّ وإن كان لها عدّة تجليّات. ولا يمتنع من ممارسة التأويل المقنّن.
كما يتميّز هذا المنهج بأنّه يعتمد بشكل أساسي في (آليّة إنتاج الفقه) على عقلانيّة أرسطيّه تتمثّل باعتماد المنطق اعتمادًا كبيرًا ومن المجمع عليه بين الرافضين للمنطق الأرسطي والمجيزين إنّ هذا المنطق يصحّح المقولات وبذلك يتبنّى المنهج المعرفيّ المرجعيّ نزعة برهانيّة، وقد أدخلت الأدواتيّة الفلسفة في علم الأصول وعلم الكلام ومباحث العقيدة ممّا يعني أنّ قدرًا من العقلانيّة يكون مقدّمة لإنتاج المعرفة بحيث يستند كلّ رأي إلى دليل مقنّع.
موقف مرجعيّة النجف من التنوّعات العقائديّة لدى الأمم والشعوب:
يعدّ الموقف من الآخر الديني والمذهبيّ، الأساس في تشكيل نظريّة العلاقة بين الذات والآخر وعلى المستوى الديني فإنّ التسويغ الشرعي (المستند) للاعتراف الوجوديّ بالآخر ورسم طبيعة التعامل معه مع اختلاف المعتقد هو الأساس في ترسيخ السلم الإنساني والإقليمي والوطني.
وترى مرجعيّة النجف أنّ أهل الديانات السماويّة مؤمنون بحسب ما تعلّموه من بيئاتهم وإنّ المشترك معهم هو الخالقيّة والربوبيّة وتكريم الأنبياء واحترامهم وتقديسهم وضرورة العمل الصالح ورجوع الإنسان إلى يوم يحاسب فيه المرء على أفعاله وإنّ المسلم ملزم بالتصديق بالديانات السماويّة السابقة واحترام الأنبياء لورود ذكرهم ووجوب احترامهم في القرآن الكريم، ولا يحلّ المساس بهم، كما تقتضي المصلحة العامّة أن يكون الحوار مع أتباع الديانات الأخرى بالتي هي أحسن لقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾.
التوصيف العقائديّ للآخر الديني والمذهبيّ في تصوّر النجف:
ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ عقيدة المرجعيّة الدينيّة في النجف، تقوم أساسًا على ثلاثة أركان مهمّة هي التوحيد والنبوّة والمعاد وهذه (إجمالاً) محل وفاق عند كلّ الأديان وهذه العقيدة تؤسّس لمنطقة مشتركة بين أهل الأديان فضلاً عن أنّها تجمع أهل المذاهب الإسلاميّة على وعي عقائديّ واحد بما يقلّل من نزعات الإقصاء والتكفير.
أمّا أصول مذهب الشيعة الإماميّة فهي اعتقادات المذهب وهي متفرّعة عن تلك كتفريع العدل عن التوحيد وتفرّع الإمامة عن النبوّة وهذان أصلان في الانتماء المذهبيّ لكنّهما ليسا معيارًا للإيمان وعدمه عند الشيعة لذلك فإنّ أغلبهم لا يرى من لا يقول بأصل العدل أو الإمامة كافرًا إنّما من آمن بالعدل والإمامة يحقّق لذاته منزلة عالية من القرب يوم القيامة وبهذا يتأسّس أنّ أهل الأديان مؤمنون بقدر يسمح بالحوار والتفاهم، وأنّ أهل مذاهب الإسلام مسلمون مصونة حقوقهم بما يؤهلهم للتفاهم والبناء.
وتعتقد مدرسة النجف أنّ الدليل العلميّ والجدال بالتي هي أحسن هي الوسيلة التي تفهم بها عقائد الآخر ويجب أن تكون الوسيلة لنقل عقائد الشيعة إلى الآخر.
ومن المهمّ القول: إنّما صدر عن مرجعيّة النجف من أنّ مفهوم العمل الصالح هو كلّ عمل بشريّ يحقّق الفائدة والخير لبني البشر وإنّه من أين صدر فصاحبه مثاب عليه إذا لم يتعارض مع موازين الشريعة، وبهذا يتأسّس مائز أخر لا صلة له بالعقيدة وهو تفضيل من جاء بعمل صالح لقوله (ص): "أحبّ عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده".
وترى مرجعيّة النجف أنّ العدل كأصل من أصول عقائد الإماميّة ليس له فقط مفهوم لاهوتي دالّ على أنّ الله عادل، إنّما ينحلّ هذا الأصل من كونه صفة إلهيّة إلى ضرورة تحلّي الأنبياء والأئمّة به، وضرورة أن يكون صفة للحكام والقضاة ومديري أمور الناس، بل يلزم به المؤمنون في سلوكهم مع الآخر فهو نقطة الوسط بين حقّ المسلم وحقّ الآخر الذي لا يضرّ كلّ منهما بالآخر ولا تتعدّى حرّيّة المسلم للإضرار بحرّيّة الآخر ولا العكس ونقطة التوازن بين الحرّيّة والنظام والحقوق ومن أجلها حقّ الإنسان في الحياة والتفكير والاعتقاد.
وينتهي الأمر بمن يقرأ أدبيّات العقيدة الشيعيّة في مضمار العدل أنّه في النهاية مقولة معرفيّة أساسها التكامل العقليّ ومن نتائجها أنّ الإيمان مشروع إنسانيّ يتوحّد مع المشروعات العقلانيّة، وهذا ما حدا بالتفكير المرجعي بترتيب المعرفة الدينيّة عندهم على أساس المنطق العقلي.
وتجد موقف الفكر الشيعيّ من الفلسفة التي خاصمها عموم الفكر الديني موقفًا أقلّ حدّة، إذ أنّنا لا نجد في الموروث الروائي الشيعيّ النصوص التأسيسيّة للأئمّة (ع) موقفًا ضدّ الفلسفة، وقد ذكرت بعض المصادر أنّ الفارابي (ت 339) كان يتّصل بأهل الفضل من الشيعة الأوائل مثل الصاحب بن عبّاد، وكان قد عاش في كنف سيف الدولة، وتجد في النصوص الفلسفيّة ما به صلة بالتفكير الشيعيّ عن ابن مسكويه وابن سينا وظهر في تاريخ الإماميّة نصير الدين الطوسيّ (ت 672 هـ) وترك آثاره على تفكير العلاّمة الحّلي لذلك كان في أسلافهم قطب الدين الرازي (ت 766هـ) والدا ماد والملا صدرا.
ممّا تقدّم نلحظ أنّه ليس في المسار الشيعيّ خصومة حادّة مع الفكر الفلسفي، بل إنّ من مؤاخذات الباحثين على الفكر المنهجيّ الشيعيّ أنّه غارق في الآليّات الفلسفيّة المتأخّرة منه.
القسم الثاني: المواقف العمليّة لمرجعيّة النجف
المواقف التاريخيّة لمرجعيّة النجف مطلع القرن العشرين:
لقد اتّخذت النجف مواقف مهمّة ومتعدّدة تبعًا للظروف التي كان يمرّ بها أتباعها سواء كانت السياسيّة أو سبل العيش والاجتماع والخدمات المدنيّة فكان لكلّ عصر لها وظيفة بما يتناسب مع مشكلات ذلك العصر، وما يحقّق حماية أتباعها من المهالك، أو حمايتهم من تعسّف السلطات في مجال حقوق الإنسان وفي مجال إهدار الثروة الوطنيّة، لكنّ الأصل التاريخي المعتاد أنّ دورها في الغالب كان دورًا دينيًّا روحيًّا توجيهيًّا، لكنّ حينما حلّ القرن العشرين وتوالت الأزمات الكبرى مثل سقوط الدولة العثمانيّة والاحتلال البريطاني وتقسيم ولايات العثمانيّين ومحاولات إعادة تشكيلها كدول مستقلّة على غرار غربيّ، وجدت المرجعيّة نفسها مضطرّة لأنّ يكون لها دور سياسيّ فاعل وأساسيّ ومهمّ، فكان لها موقف مهمّ من الاحتلال في ثورة (1920) ثمّ موقف من تنصيب الملك فيصل الأوّل ومواقف أخرى إزاء أحداث البلاد إبّان الحكم الملكي الذي انتهى عام (1958) ثمّ اضطرّت أن تتبنّى مواقف مهمّة إزاء ما حصل بعد (1958) حتّى انتهاء الجمهوريّة العراقيّة الأولى عام (2003) على يد الاحتلال الأمريكيّ (مثل فتوى حرمة القتال ضدّ الأكراد، حرمة قتال الشعب الإيرانيّ، وحرمة احتلال الكويت، ووجوب التكافل الاجتماعيّ إبان الحصار (1991 – 2003) ورفض الاحتلال الأمريكيّ والدعوة إلى عدم التعامل معه، والاهتمام بالبناء الوطني للدولة من جديد وضبط ردود أفعال الناس إزاء عمليّة الإرهاب التي كانت تقوم بإبادات جماعيّة لأتباع المرجعيّة.
وبهذا العرض الموجز والسريع لمواقف مرجعيّة النجف في القرن العشرين تؤكّد مرجعيّة النجف أنّها لا تزال تؤمن بأنّ وظيفتها الأساسيّة تعميق الإيمان والقيم النبيلة وتكريم الإنسان وعدم الانشغال بالعمل السياسيّ كتشكيل دولة (ذات صبغة دينيّة) إلاّ أنّها تؤدّي دورها الإغاثيّ حينما تعصف بالمجتمع أزمات كبرى فعندئذ تجد نفسها مضطرّة للتدخّل (استثناءً) من مهمّتها التاريخيّة المعتادة.
ولأجل أن نكتشف ما وراء صناعة القرار المرجعيّ وجدنا أنّ الوقوف على أسس التفكير داخل الرواق المرجعي كان له مدخل مهمّ في هذا السياق وقد ظهرت في التاريخ القريب للمرجعيّة عدّة مواقف، يمكن وصفها بأنّها مؤشّرات على تحوّل مهمّ في طريقة التفكير وفي نوعيّة الاجتهاد ونطاقه وأهدافه مثل:
فتوى المرجع الشيرازي التي أدّت إلى إلغاء امتياز منح تجارة التبغ للبريطانيين 1890 فقد صدرت بوصفها حامية للسيادة الوطنيّة بعد عدوان اقتصادي بريطاني يهدف إلى نهب الثروة الوطنيّة وإفقار الناس. لذلك يقول دارسون: إنّ هذه الفتوى جعلت علماء الدين الشيعة قادة للشعب. ومنها اتّسعت سلطاتهم السياسيّة والاجتماعيّة المضافة إلى سلطتهم الروحيّة.
لما أدخل العرب أفكارًا ونماذج وتصوّرات غربيّة حول الدستور والحكومة وفصل السلطات وغيرها، وقع الناس في حيرة أساسها أنّ ما عندهم من فكر قديم لا يلبّي مطالب الناس المعاصرة بتشكيل دولة تحلّ مشكلاتهم السياسيّة وأنّ النموذج الغربي الذي جاءهم مع الاحتلال يتعارض مع قيمهم، فكان الميرزا النائيني وهو من مراجع النجف البارزين صاحب الأطروحة المهمّة التي أسماها (تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة والتي أصدرها عام 1906) وبها أسس وثيقة مهمّة لحقوق الناس في الحرّيّات، وفصل السلطات على أسس إسلاميّة وكان ذلك منه جهدًا مبتكرًا وعميقًا وجزئيًّا ومفيدًا جدًّا وقد دعا هو وفريق الدستوريين وهم الجناح الأهمّ من أجنحة المرجعيّة إلى تأسيس "دولة معاصرة حديثة دستوريّة ترعى حقوق الإنسان وتستلهم الحداثة على أسس معياريّة من تراثها الحضاريّ وقيمها".
في عام 1918 عندما احتلّ الإنكليز العراق، ظهر موقف من المرجعيّة بضرورة مطالبتهم تحقيق العدل والجلاء عن البلد وكانت إيذانًا بثورة 1918 في النجف الأشرف.
في عام 1920 أصدر المرجع شيخ الشريعة فتوى الثورة على الاحتلال البريطاني للعراق وأدّى ذلك إلى إقامة حكومة مدنيّة ملكيّة دستوريّة في العراق عام 1924.
ساهمت المرجعيّة بالنجف في الاهتمام بالقضايا الحقّة بالعالم ففي عام 1948 تضامنت مع الشعب الفلسطيني وطالبت بدعمه وأفتت مرجعيّة السيّد الحكيم في الستينات بدفع الزكاة والخمس للشعب الفلسطيني ونصرته من دون النظر إلى المذهبيّة الدينيّة المختلفة.
في عام 1956 تضامنت مرجعيّة النجف مع شعب مصر في أزمة السويس. وصدرت عنها بيانات مهمّة.
في عام 1958 تعاملت مع الوضع السياسي الجديد بالنصح والتوجيه ووقفت ضدّ تشريع قانون الأحوال الشخصيّة الجديد الذي تخالف بعض بنوده ثوابت الشريعة موقفًا حازمًا عام (1959).
وفي الفترة 63 -68 حاولت المرجعيّة أن ترتّب أوضاعها الداخليّة وتنشر ثقافتها المجتمعيّة في العراق وبلدان أخرى وتنصح الحكومات بانتهاج العدل والمساواة وبناء الوطن والإنسان. فانتهجت استراتيجيّة ثقافيّة لزيادة وعي الناس ولم تلجأ للتحريض الديني بل توسّلت بالمعرفة كوسيلة لخلق الوعي.
دخلت المرجعيّة بمواجهة مع الدكتاتوريّة بعد 1968 وكانت المواجهة أوّلا من جهة السلطة بصورة حاّدة ودمويّة وقد قدّمت المرجعيّة فيها الكثير من القرابين والضحايا، وتبيّن بعد ذلك صواب موقفها إذ أدخلت السلطات الديكتاتوريّة البلد في سلسلة من الحروب مع الأكراد (1968 – 1979) ومع إيران (1980 -1988) وحماقة غزو الكويت والحرب مع التحالف الغربي (1991) ثمّ أدخلت البلد بحصار قاتل (1991 – 2003) وأخيرًا سقط البلد في الاحتلال وما أعقبه من موجات الإرهاب الطائفي ضدّ الشيعة وبالاحتلال حصل انهيار الدولة ومؤسّساتها كافّة فتكفّلت النهوض بمهمّة إعادة بناء الدولة بدءًا بكتابة الدستور بأيدِ عراقيّة منتخبة وهي المهمّة الأكثر أهمّيّة في أدوارها.
ولأنّ مرجعيّة النجف تولّت مهمّة إعادة بناء الدولة العراقيّة فقد أصرّت على إجراء الانتخابات العامّة لاختيار منتخبين لكتابة دستور عراقي دائم وجديد، وطالبت بنظام ديمقراطيّ دستوريّ تداوليّ يمسك بالثوابت النبيلة وقيم الإنسان الفاضلة التي جاء بها الإسلام، ولاتزال مرجعيّة النجف تمارس دورها التوجيهيّ النقديّ للسلوك الحكوميّ وتدعو إلى سياسات المواطنة
-
مواقف المرجعيّة الدينيّة في النجف بعد 2003
- أ. الموقف من الاقتتال الطائفيّ 2006:
بعد سقوط الديكتاتوريّة في العراق عام 2003 بعدّة أشهر تشكّلت مجموعات مسلّحة تضمّ متعصّبين من داخل العراق وخارجه ممّن جلب للقتال في العراق ومعهم جماعات النظام السابق فكانوا مجموعات من القتلة والجلاّدين الذين كانوا ضمن أجهزة القمع الرهيب فيما سبق، وقد اعتمدوا فكرًا (طائفيًّا وثقافة الحقد والكراهيّة) فقاموا بعمليّات قتل جماعيّ عشوائيّ للعراقيين بالسيّارات الملغّمة والأحزمة الناسفة واستمرّ هذا من النصف الثاني من 2003 إلى الآن وذهب جرّاء هذه الجرائم مئات الآلاف من الأبرياء والعمّال والفقراء والنسوة والأطفال، وقد كان ازدياد هذه العمليّات دافعًا للبعض أن يردّ على تجمّعات أهل السنّة بالمثل إلاّ أنّ المرجعيّة وقفت بقوّة إزاء هذا الرأي وحرّمت القيام بأعمال مماثلة في المناطق غير الشيعيّة، وطالبت في خطابات صلاة الجمعة بالصبر والحلم وحرّمت الاعتداء على من لم يثبت ضدّه عمل عدواني ولم تجد في الخطب أيّة إشارة تنّم عن غضب وتوتّر، إنّما وجدنا فيها دعوة للسلام والمحبّة وإعطاء من يشعر بالغبن حقّه، ولو كانت المرجعيّة الدينيّة قد سكتت فقط، من دون أن تصرّح بالحرمة وتمنع الردّ بالمثل لكان البلد قد غرق أكثر مما هو الآن ببحر من الدماء، وفي 22 شباط 2006، فجّر الإرهابيون مرقد الإمامين العسكريين (ع) في سامّراء وبوقتها سرت في أوساط الشباب الشيعة حالة من الرغبة العارمة في الانتقام الشامل، وكان يوم التفجير إيذانًا بهجوم شامل على جميع المدن غير الشيعيّة والقيام بإبادات جماعيّة تحت ضغط الشعور الجامح بالثأر، عند ذاك صدر عن المرجعيّة الدينيّة بيان يدعو إلى ضبط النفس وعدم الاعتداء على أيّ شخص انتقامًا، وكان الشيخ الفياض قد دعا فقط إلى مسيرات سلميّة احتجاجًا على عدم حماية الحكومة للعتبات المقدّسة، ودعا في بيانه إلى عدم التعرّض لمقدّسات الآخرين وسرعان ما أدركت المرجعيّة أنّ المراد من التفجير إشعال فتنة طائفيّة كبيرة في العراق تحرق البلد كلّه.
وفي خطبة الجمعة في كربلاء بعد التفجير دعت المرجعيّة إلى فتح تحقيق مهني لمعرفة المتسبّب، ووضع معالجات مهنيّة لهذه الخروقات.
ومنذ عام 2003 حتّى 2014 كان خطاب المرجعيّة الدينيّة خطاب المصالحة والمواطنة والأخوّة وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وعدم التمييز بين أبناء البلد الواحد والدعوة إلى بناء العراق وتقدّمه والدعوة إلى الوحدة والتماسك والنزاهة الوظيفيّة واحترام الأديان الأخرى والمذاهب الأخرى
- ب. الموقف من هجوم داعش على الموصل 2014:
ظلّت المرجعيّة توجّه الحكومات بضرورة معاملة الناس بالحقّ والعدل والمساواة وكفالة المحتاجين واعتماد النزاهة والكفاءة والسعي نحو دولة مواطنة رشيدة، ومجتمع واعٍ ومتماسك، ودعت إلى قيم المواطنة ودولة الوطن وليس دولة المكونات والطوائف وظلّت هكذا توجّه بوسائلها المتعدّدة حتّى 2014 عندما هاجمت (جماعات داعش) العراق ودنّست بعض مدنه ودخل البلد في أزمة دوليّة كبيرة وخطيرة، وفي هذه الأزمة الكبرى التي هدّد بها الإرهابيون وحدة الشعب وحضارته وقيمه، وهدّدوا كيانه الحضاريّ واعتقادات أغلبيّته بالهدم والتدمير والقتل والترويع وسبي النساء، وقد ظهر خلل في الأجهزة الدفاعيّة، فاضطرّت المرجعيّة إلى التصدّي لهذا الخطر الذي كاد أن يطرق أبواب الخليج وإيران، ويعصف بالمنطقة فأصدرت دعواها للانضمام إلى الجهاد الدفاعي الكفائي، وصدّ هذه الهجمة على أن يكون المتطوعون ضمن تشكيلات الدولة وقوانينها وأنظمتها.
وظلّت على مدى السنوات الثلاث المنصرمة تراقب بقلق بالغ تطوّرات الأحداث وتدعم ماليًّا ومعنويًّا الحشد الوطني الشعبي الذي انضمّ إليه مئات الآلاف من الشباب من كلّ التنوّعات العراقيّة.
في العاشر من حزيران 2014 هاجمت (جماعات) من الغرباء والأجانب ومعهم بعض العراقيين (مدينة الموصل) وأطلق عليه عندهم آنذاك اسم (الفتح) ممّا يشير إلى استمرار هذا الهجوم على محافظات أخرى وقد حصل بعد ذلك فعلاً فقد احتلّت مجاميع مسلحة بعض محافظات العراق وقامت بمجازر دمويّة شنيعة منها مجزرة سبايكر الذي راح فيها أكثر من (2000) شابّ من الشيعة قتلاً متعمّدًا وممنهجًا بلا سبب إلاّ بسبب هويّتهم المذهبيّة، وانضمّت لهم خلاياهم النائمّة على حزام بغداد وفي وأماكن قريبة من كربلاء وسرعان ما صدر عنهم أنّهم ينوون الوصول إلى كربلاء والنجف لهدم العتبات الدينيّة المقدّسة بتصريح رسميّ صدر عنهم، وإزاء هذا الخطر ومع انكسار الجيش وانسحاب البيشمركة، وحدوث الانهيار الشديد، أصدرت المرجعيّة دعوة للجهاد الكفائيّ لمواجهة هذا الخطر الداهم وكانت الدعوة موجّهة لكلّ العراقيين النجباء بلا تعيين، وكان هدفها كما جاء في الفتوى للدفاع عن الشعب العراقي وأرضه ومقدّساته، فهبّت الآلاف للالتحاق بمراكز التطوّع وبدأت صفحة الدفاع المجيد عن العراق. وكانت الفتوى الحلّ الوحيد لإيقاف التطوّرات الكارثيّة التي كادت تحلّ بالعراق وعموم المنطقة
ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ دعوة الناس للجهاد لم تكن مألوفة لدى شيعة العراق فقط كانت آخر دعوة في 1920، وقد مرّ عليها قرابة قرن من الزمان فلم يعد الأمر مألوفًا ورغم ذلك كانت الاستجابة مذهلة وغير متوقّعة وسرعان ما ظهرت طبيعتها من الدمج بين البعد العقائديّ والبعد الوطني، حينها تأسّس الحشد الشعبي من كلّ التنوّعات المذهبيّة والدينيّة العراقيّة وعندها أخذت المواجهة بعدًا وطنيًّا، وبالتحاق المكونات الأخرى للشعب العراقي سقطت ذريعة الظلاميين بأنّهم يخوضون حربًا مذهبيّة، بل صار هدف الدفاع الوطني بأوامر المرجعيّة الدفاع عن أراضي ومجتمعات أهل السنّة فالدماء الغزيرة التي سالت في الموصل والأنبار وتكريت من شباب العراق كان هدفها ألاّ يذلّ الإخوة من أهل السنّة وكانت المرجعيّة تحثّ أسبوعيًّا على إظهار المحبّة والمودة والعون والرفق والاحترام لسكّان تلك المحافظات.
وقد صار لكلّ عراقي في ملحمة الدفاع المقدّس عن بلده اليوم قصّة بطولة خاصّة به، فقد استبسل الشباب من كلّ التنوّعات بسالة تثير الإعجاب والزهو، امتزج فيها الدفاع الوطني بالعقائد وبذلك تجسّد مرجعيّة النجف تبنّيها مفهوم الجهاد الدفاعيّ مقابل فكرة الجهاد التكفيريّ (الغزو) الخارج عند الجهات المتطرّفة وقد اتّضح الفرق بين فكر الإقصاء وفكر الاحتواء والتعاون.
لقد كشفت ملحمة الدفاع عن العراق:
- أنّ المرجعيّة تمارس دورًا أبويًّا لكلّ العراقيين بمختلف تنوّعاتهم.
- وأنّها حريصة على أن يكون الكلّ داخل بلده يعالج مشكلاته، دون استعانة بالخارج أيًّا كان.
- إنّ دور المرجعيّة الدينيّة هو دور المنقذ حينما تحصل انهيارات وكوارث سياسيّة واجتماعيّة.
- إنّ المرجعيّة تتضامن مع كلّ القوى العالميّة الصادقة في مواجهتها للإرهاب على ألاّ تتدخّل في الشأن العراقي وهي لا تتبنّى أيّ جهة أو حزب أو مصالح لدولة أخرى.
- إنّها قادرة على صنع تكاتف وطني لمواجهة النزعات الظلاميّة ولا يقتصر خطابها على الشيعة.
- إنّها حريصة على حضارة العراق بكلّ روافدها الدينيّة ورموزها وأماكنها المقدّسة من دون تحيّز لدين أو مذهب.
ظلّت المرجعيّة تتابع بدقّة وعناية، وتبذل ما لديها من احتياط مالي لدعم النازحين وإغاثتهم وتمريضهم وعلاج الإصابات وزرع الثقة، كما دعمت الجهد العسكري للمقاتلين الذي أحرزوا النصر تلو النصر.
الخاتمة:
على الرغم من التاريخ الطويل من اضطهاد المرجعيّة الشيعيّة في النجف، إلاّ أنّ التطوّر الفكري والمنهجيّ الذي حصل ويحصل فيها يبشّر بإعطاء صورة مشرقة وقراءة علميّة للدين ودوره وأظنّ أنّ المراكز الدينيّة في العالم أجمع من قيمها أن تنظر لمرجعيّة النجف باحترام كبير وتمدّ يدها للتعاون معها لأجل الإنسانيّة.