جدليات في مسيرة الحياة الممتدّة
الشيخ شفيق جرادي
الدين الوحيانيّ، يقوم على معتقدات ثابتة وشريعة إلهيّة للناس بوجه عامّ؛ ولأمّة أو جماعة هذا النبيّ أو ذاك بنحو خاصّ. فإن كان الدين وحيانيًّا ومعتقداته ثابتة وشريعته إلهيّة؛ فما معنى أن نتحدّث حول ثقافة إسلاميّة أو مسيحيّة، أو... إلخ... من حيث التشكّل والأهداف والسيرورة والمقصد؟!
علمًا أنّ طبيعة أيّ ثقافة إنّما هي سيرورة التشكّل التجدّديّ والمتغيِّر، وهو ما لا ينسجم، حسب المفترض، مع الثابت والمتعالي الذي تحمله الأديان.
ثمّ إنّ الحديث حول الثقافة والدين في علاقتهما الجدليّة التي تشكّل نسيجهما التثاقفي، هو مدخل لازم للحديث حول تشكّل ثقافة دينيّة خاصّة؛ ذلك أنّ الحديث حول الثقافة يستدعي النظر إلى الأمر من خارج خصوصيتها، لموضعتها من جهة، وإتاحة الفرصة للحكم عليها من جهة أخرى. وهنا لا بدَّ من استعراض الحيثيّات التي نظر إليها من تعامل مع الدين بوجه عامّ، باعتباره مظهرًا ثقافيّا. وعليه سمح لنفسه باستخدام منهجيات دراسة الظاهرة الثقافيّة، لقراءة الدين بما هو دين. بغض النظر عن خصوصيّة كونه وحيانيًّا أو غير وحيانيّ، إسلاميّا أو مسيحيًّا، أو يهوديًّا، أو إلى ما هنالك... ففي رأي هؤلاء أنّه "في قلب الأنظومة الثقافيّة، وعلى صورتها نشأت الأنظومة الدينيّة ". وبعد أن يعتبر أنّ الدين؛ أيّ دين؛ إنّما هو واحد من اثنين: إمّا طلبٌ للخلاص، أو طلب للمطلق، فقد ذهب هؤلاء للاعتقاد أنّ الدين هو ذاك التعبير الثقافيّ لطلب الخلاص والمطلق. ويذهب هذا الاتّجاه المعرفيّ لطبع التشكّل الثقافيّ للدين بطابع أنثروبولوجي أو فلسفي، عاملاً على تقسيم المنظومة الدينيّة وفق ما يراه من احتياجات بشريّة؛ ذلك أنّ مصدر تشكّل هذه المنظومة الدينيّة – الثقافيّة، هو الإنسان عينه. أمّا المناحي والأقسام التي ينقسم إليها الدين الثقافيّ فهي، بحسبهم:
- المعتقدات التي تمرّ في إطارها البياني بمراحل منها التعبير الأوّليّ، العفويّ عن الأمور العقائديّة في قالب قصصيّ وأسطوريّ. ثمّ بعد ذلك تنتقل إلى المرحلة المنطقيّة التي يصوغ فيها رجال الدين نظريّاتهم اللاهوتيّة أو الكلاميّة بطريقة عقلانيّة تسعى لفهم المعطى النصوصيّ فهمًا نظريّا.
- المنحى الأخلاقي – العبادي الذي يسعى فيه الناس لربط أنفسهم وسلوكهم بالمثل الأعلى والذي يتمثلونه بالمقدّس.
- المنحى الاجتماعيّ والذي ينشأ عنه مجتمعٌ تراتبيّ فيه الآمر والمأمور.
وبهذا، فإنّ هذه المناحي المنظوميّة للدين إنّما تعبِّر عن احتياجات نظريّة ووجدانيّة وعمليّة مسلكيّة للبشر. بل بدقة أكثر، هي وليدة هذه الاحتياجات البشريّة التي عملوا على إسقاط طابع المقدّس عليها. وهو خلاف من ينظر إلى مصدر الدين باعتباره "المطلق"، أو "واجب الوجود"، أو "الكائن الأسمى"، أو "الله".
وكمدخل لدراسة إشكاليّة التشكّل الثقافيّ للدين؛ من المفيد أن نقيّم نظرة من اعتقد أنّ الدين ظاهرة ثقافيّة، وهي تعكس الجانب المعلمَن للدين من حيث هو منظومة عقيدة وقيم وسلوك، وبالتّالي مبنى خاصّ للنظام الاجتماعيّ، يعبِّر عن نفسه كونه دينًا. وإلى نظرة الموحّدين الوحيانيين للدين بعامّة. وسنعكف بنحو خاصّ على بسط الكلام في تشكّل الثقافة الإسلاميّة حسب وجهتي نظر، أوّلهما ما أفرزته أدبيّات اتّجاه "ثقفنة الإسلام" على محوريّة النصّ؛ مبدأً ومآلاً. واتّجاه "الإسلام الفطريّ" الذي يعتبر وحدة الكينونة والنصّ في فهم الدين وثقافته محورًا لرؤيته وتأويله.
- الثقافة وعلمنة الدين:
يذهب هذا التوجّه إلى أصالة الثقافة في تكوين النسيج الدينيّ بتنوّع أبعاده، وأنّ الكائن البشريّ يمتنع عليه الخروج من عالمه، وبالتّالي لا يمكنه أن يدرك إلاّ ما كان في عالمه ومن عالمه. وكلّ إدراك لما هو أعلى وأسمى من عالم الإنسان ينبغي تأويله وردّه إلى عالم الإنسان نفسه. ثمّ يفترض هذا الاتّجاه؛ أنّه لو سلّمنا جدلاً؛ أنّ هناك كائنًا أعلى؛ أرسل رسالته [كلامه] إلى متلقّيه. فإنّه لما كان مقتضى أيّ رسالة يقضي وجود مرسِل، ومرسَلٌ إليه، ومضمون، ووسائل تعبير... إلخ. كان علينا إيلاء التعبير أهمّيّة خاصّة. والمقصود من "معنى التعبير هو موضوع الاتّصال أو التبليغ". وبما هو معنى ينبغي ألا يختلف قبل التبليغ وبعده. إلاّ أنّ هذا التعبير يتضمّن مراد ومقاصد المرسِل؛ وهي أمور؛ إن لم تكن من بيئة فهم المتلقّي فلا يصح إرسالها. ممّا يعني أنّ صوغ التعبير عند المرسِل إنّما يكون على حسب فهم وبيئة إدراك المتلقّي. خاصّة أنّ إبلاغ الحقيقة لا يكون بحسب جوهرها، بل بأساليب متنوّعة ومتطوّرة ومتبدّلة من التعابير التي تنتمي للفضاء المعرفيّ للمتلقّي.
وهكذا، فإنّ الرسالة الإلهيّة لا تتجلى، بل ولا تنتمي إلاّ إلى الأبعاد الإنسانيّة الأربع: "الكيان، والشخص، والجماعة، والتاريخ، حتّى لو كان محتوى التعبير اختبار الشخص الفرد، قام واقع التعبير عينُه بمحو فرادة الاختبار وبإظهاره في الأشكال الكليّة التي لِما يمكن تبليغه. ومن وجه آخر اعتبار الاختبار الفريد للشخص شكلاً من أشكال كيان الحقيقة الإنسانيّة"
ولا يفوت أصحاب هذا الاتّجاه القول: إنّ "وسائل التعبير، هي أوّلاً عناصر الأنظومة الثقافيّة، أيّ التصوّرات والقيم ونماذج السلوك، ونماذج النشاط الفنّي وطرائق الكلام، وأيضًا تقنيّات التعبير المتاحة في الأنظومة الثقافيّة، أيّ الكلام والكتابة والصورة والأنواع والأساليب الأدبيّة وغير ذلك... لذا أمكن أن تفرض وسائل التعبير شكلها على المحتوى، فتصير هي الرسالة. ولذا، من وجه آخر، لا يوجد مُعاش إلاّ في أشكال الأنظومة الثقافيّة"
وعلى ضوء هذا المبنى، فسواءً أكان هناك كائنٌ أعلى "الله"، أم لم يكن؛ فإنّ الدين بما هو رسالة، لا يمكن تصوّر تحقّقه إلاّ في إطار من العيش البشريّ الذي تعبِّر عنه الثقافة بما هي لغة ومعنى وتاريخ ووسيلة اتّصال وجوهر تعبير.
وحتّى الخصوصيّة النبويّة فإنّها تتماهى مع ذاك الامتداد الذي توفرّه الثقافة لتشكيل الجماعة ونظامها الحاكم.
ومن الملاحظ أنّ اشتغال هذا الاتّجاه إنّما يقوم على محاولة فهم الثقافة وكيف تحتضن أبعاد الدين، بل الدين عينه... وهي بواقع الأمر مهجوسة في هذا التمدّد الثقافيّ المعبِّر عن الدين. إذ لا إشكاليّة فكريّة لديها، مفادها العلاقة بين حقيقتيّ الدين والثقافة، وكيفيّة تشكّل بناء ثقافة دينيّة خاصّة أو عامّة. لأنّها أنجزت القول: إنّ الثقافة في قراءتها الفلسفيّة العامّة هي منشأ الدين، وبالتّالي، فلا يمكن معرفة وقراءة الدين إلاّ قراءة أنثروبولوجيّة. وهي بذلك تقف على طرف النقيض من الاتّجاه الدينيّ الماضويّ الذي غيَّب أيّ إمكانيّة دور للثقافة في تشكيل الدين، كأصل أو وجهة فهم. ومن هنا، فإنّ بحث "التشكّل الثقافيّ للدين" لن يجد له مكانًا ومطرحًا عند أصحاب الغلّو التأويليّ سواءً منهم الثقافويين، أو الحرفيين الماضويّين الدينيّين. لكن لا ينبغي أن يفوتنا أنّ كلاًّ من هذين الاتّجاهين لعب دورًا حسّاسًا في معرفة وفهم التشكّل الثقافيّ للدين؛ وحين دراسة أيّ خصوصيّة ثقافيّة لديانة ما من الأديان الوحيانيّة المعروفة، كالمسيحيّة أو الإسلاميّة فإنّا سنلحظ بوضوح بصمات الحضور المنهجي وإن على أرضيّة جدليّة لكلٍّ من الاتّجاه الماضويّ أو الثقافيّ في فهم الدين.
- الثقافة على ضوء المبنى الماضويّ
المقصود بالماضويّة في البناء الثقافيّ؛ الاعتماد على كلّ ما يمثّل التراث من صياغات ومقرّرات عقائديّة وقيميّة تبني التصوّر والسلوك الإيماني لاتّباع ديانة ما. والتراث هنا لا يقتصر على المصنّفات التفسيريّة والتأويليّة التي تمّ إنتاجها على هامش النصّ، بل هي تشمل النصّ نفسه، عند هؤلاء؛ لأنّ النصّ سواءً أكان ملهمًا أو موحًيا قد تمَّ تقييده عند الاتّجاهات الماضويّة الدينيّة بالقراءة، أو القراءات الرسميّة، بحيث تحوَّل الهامش التفسيريّ عند هؤلاء إلى أصل يكاد يكون حاكمًا على النصّ نفسه. والسبب في ذلك بتقدير أوّليّ، يكاد ينحصر بأمرين اثنين:
الأمر الأوّل: الاعتقاد بأنّ الفهم المعاصر للنصّ أو الأقرب إليه هو الحاكم المعياري على فهمه، ومعرفته، وتأويله. وبالتّالي فإنّ فلسفة للزمن تفيد انحصار الخير والصالح بالماضي، تحكم على الثقة في النتاج التفسيريّ المعتمد للنصّ.
الأمر الثاني: تحوُّل السلطة السياسيّة الحاكمة إلى مقنِّن رسمي شبه مقدّس؛ إنّ لم نقل مقدّسًا، على معرفة الدين وروحيّة أحكامه، فضلاً عن تشريعاته وكيفيّة التعاطي مع أمور عقائديّة أو تكليفيّة من مثل مِلاك التكفير وأحكامه. وبالتّالي، تبعيّة الحُسن والقُبح إلى الإرادات الحاكمة؛ وإنّ بثوب الشريعة. وعليه، يصبح كلّ أمر حادث هو مورد تحدِّ، لكنّه أبدًا لا يصلح ليكون جزءًا من مكوّنات الثقافة المعتمد؛ إذ الحادث بدعة، والبدعة ضلالة، بل شطط شيطانيّ عن جادّة "الصراطيّة" الماضويّة.
وهنا، الإصرار على استخدام مصطلح الماضويّة بدل السلفيّة؛ لأنّ السلفيّة – حسب فهمنا – مذهب من مذاهب الماضويّة. فكلّ سلفيّة ماضويّة، وليست كلّ ماضويّة سلفيّة. وقد قامت بناءات السلفيّة في الحاضرة الإسلاميّة على مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: مرحلة التكوُّن التراثي التأسيسيّ في حاضنة الحديث الشريف، واعتماد اللغة في بعدها التعبيري المحسوس كمبنى لتفسير النصّ. وبالتّالي تثاقفت السلفيّة التأسيسية مع واقع، جدّ ثقافيّ هو اللغة، ورفض آليّات وافدة أخرى كالمنطق والفلسفة وغير ذلك...
المرحلة الثانية: السلفيّة المدرسيّة، وهي التي صيغت عبر جدل نظريّ كلامي وثقافيّ عاصف كان أحد أبرز رموزه ابن تيميّة، وابن قيم الجوزيّة وغيرهما، ممّن خاضوا جدلاً ثقافيّا إقصائيًّا للوافد من المنطق والفلسفة، وللمباحث اللاهوتيّة الدينيّة، بل ولأيّ دراسة إسلاميّة تعتمد العقل أو المعرفة المفتوحة على الراهن القابل لحوار القيم والأخلاق والفنون والعلوم، أو العلوم المعاصرة. وبالتّالي، فإنّ مثل هذا الإقصاء أصل لبناء في التصوّرات والرؤى والمسلك والفتيا، يعمل على أدلجة الوقائع وفق الذّاتية. بل أكاد أقول: إنّه لم يتعامل مع الواقع كمعطى قابل ليكون هو الموضوع، بل جعل من الواقع انحرافا عن موضوع هو؛ الذات السلفيّة. وهذا ما انعكس بشكل حادّ في تشكّلات النظام الثقافيّ للوهّابيّة. ولعلّنا لو أردنا أن نلحظ هذه الطبيعة من خارج السياق السياسيّ الذي نشأ مع اتحاد المشيخة والملكيّة المتمثّلة بمحمّد بن عبد الوهّاب، وسعود بن عبد العزيز، لطالعنا كتاب "التوحيد" لمحمّد بن عبد الوهّاب أنموذجًا صارخًا للإقصائيّة الدينيّة الماضويّة في الفهم والثقافة.
المرحلة الثالثة: السلفيّة المستحدّثة، وهي مرحلة الانفصام النفسيّ للسلفيّة؛ إذ سعت السلفيّة فيه على حفظ كلّ التصوّرات التي أنتجتها المرحلتان السابقتان لها، إلاّ أنّها بنت حقلاً متوتّرًا من الإقصائيّة المصلحيّة التي أوصلتها إلى درجة وجوديّة؛ ممّا بنى ثقافة دمويّة بفعل البناءات السلفيّة في تصوّر الذات على ما لا يقبل السؤال؛ وبفعل التردّي بالثقة بالذات نتيجة قراءة أيديولوجيّة بحتة للوقائع السياسيّة والدينيّة المحيطة، ثمّ بفعل الارتكاز الثقافيّ الأكثري في الحقّ الحصري بتمثيل الله والرسالة والمصير الأخروي، ممّا أدّى إلى ثقافة تدميريّة قتّالة أطلقوا عليها اسم "التكفير". إلاّ أنّ الانفصام النفسيّ والثقافيّ الحادّ، إنّما يتمثّل بذاك التناقض بين التصوّرات العقيديّة من جهة، وبين التمثّلات الإجراميّة والتكتيكيّة المستفادة من الحداثة الغربيّة؛ إنّ من أدوات القتل والترويج والإبلاغ، أو الأساليب المنتهجة لتحقيق المصالح المباشرة. الأمر الذي أحدث تلفيقًا غير متوازن بين ما اعتبروه معتقدات وقيما دينيّة، وبين الأشكال والمسلكيّات التي انتهجوها، سواءً في الأشكال التنظيميّة، أو الفعاليّات الدعويّة، أو أساليب الترويج الحديثة، ممّا يقع أصلاً وبالأساس تحت عنوان البدعة، بحسب مباني التصوّرات.
وهذا الخليط الإكراهي في التشكّل النفسيّ والثقافيّ هو ما أنتج خللاً في القوة عند السلفيّة المستحدّثة من تنكّر بعضهم للبعض، ومن تحوُّل فائض القوة إلى مجرّد الهدم العاجز عن بناء أيّ مشروع حياتي فعّال، بل هو عاجزٌ عن تصوّر إمكانيّة أيّ توحُّد في الصف الواحد. لأنّ البنية إذا قامت على الانفصام النفسيّ والثقافيّ استحال معها بناء أيّ شكل من أشكال الإيجابيّة في توحُّد القوى أو عمران الجماعة.
لكنّنا برغم ذلك، سنأخذ أنموذجًا آخر من الثقافة الماضويّة الدينيّة، وهي وإنّ اختلط عند بعض الناس واعتبروها سلفيّة إلاّ أنّها في واقع الأمر لم تأت من رحم التسلسل المذهبي للسلفيّة، بل جاءت من صياغات ثقافيّة وتحدّيات أيديولوجيّة فرضتها وقائع الدعوة إلى الإسلام وتحدّياتها السياسيّة والفكريّة المحيطة. وإنّي وإن كنت أعتقد أنّ أغلب الذين مدحوا بالسلفيّة من أمثال رشيد رضا، وإقبال، ومالك بن نبيّ ومنظريّ الإخوان المسلمين، سيّما سيّد قطب، إنّما أخذوا هذا الموقف من السلفيّة لدواعٍ ثقافيّة مبنية على التراث الماضويّ في الفهم الدينيّ. وليس الأمر إيمانًا مذهبيًّا بالسلفيّة. ولعلّنا لا نجانب الصواب لو قلنا: إنّ الذي استرعى انتباههم جملة أمور شكّلت موقفهم من السلفيّة منها: النزعة التطهريّة المشتركة عند السلفيّة والماضويّة الدينيّة، وتركيز الوهّابيّة على مقولة التوحيد بطريقة حادّة أقصت كثيرًا من الأمور التي التبست على الماضويّة الدينيّة الثقافيّة، فظنّوها هرطقة، أو شركًا، أو بدعًا خرافيّة حجبتها مدرسة مذهبيّة، ومن ذلك أيضًا تزاوج ثنائيّ الدعوة والدولة التي تبنّتها المملكة السعوديّة بتوظيفاتها للسلفيّة الوهّابيّة كدعوة عابرة للحدود القطريّة. إلاّ أنّ هذا إنما يعنينا الآن لنستنتج أنّ تشكّل هذه الثقافة إنّما قام على وجود رؤية دينيّة عقائديّة وأخلاقيّة قيميّة تقوم على قداسة التراث بما فيه مركزيّة النصّ.
ثمّ جاءت سياقات النزاع مع الآخر غير الإسلاميّ لتكون جزءًا في بناء نمطيّة خاصّة من النظر للذات العقيديّة، كما وللمحيط المنتسب إلى هذه الذات العقيديّة؛ والتي أطلقت عليه أدبيّات هذه الماضويّة الدينيّة؛ بالجاهليّة؛ إذ اعتبرت أنّ المجتمع الإسلاميّ عاد القهقرى نحو الجاهليّة بفعل متابعته للغرب بشقّيه الغربي والشرقي، وعلى حد سواء، فيه الأفكار والقيم الماركسيّة أو الليبراليّة الرأسماليّة. وهذا ما يشي بالتفاعل الواسع عند هذا الاتّجاه بكلّ ما يصدر عن الحداثة الغربيّة من فلسفات وقيم وسلوكيات ونظم وتشاريع. إلى الدرجة التي بات فيها الحكم على المجتمع الإسلاميّ بالجاهليّة بسبب اقترابه من هذه الحداثة الغربيّة. والملفت في هذا الصدد أنّ هذا التفاعل مع الغرب وصل إلى درجة أن كانت المصطلحات، وآليّات وأُطر العمل الدعوي تشابه في صيغها ومضمونها الثقافيّ ما أنتجه الغرب من مصطلحات وأُطر وآليّات حزبيّة وأيديولوجيّة.
إلاّ أنّ خير ممثّل لهذه الثقافة الدينيّة الماضويّة كتبٌ ثلاث: أوّلها كتاب المصطلحات الأربع لأبي الأعلى المودودي، ثانيها، كتاب للسيّد قطب، معالم في الطريق، وثالثها، خصائص التصوّر الإسلاميّ للسيّد قطب أيضًا. وإننا وإن كنّا سنعكف على عرض كتاب خصائص التصوّر الإسلاميّ فلِما يمثّله من عمق في الطرح، ونموذجيّة في التعبير عن هذا الاتّجاه، وعميق التأثير على أدبيّات الإسلام السياسيّ في تشكّلاته الثقافيّة.
- التشكّلات الدينيّة – الثقافيّة للإسلام السياسيّ الماضويّ عند سيّد قطب
يمكن لنا الشروع في التعرّف إلى هذه الطبيعة الدينيّة والثقافيّة التي يتبنّاها هذا التيّار إنطلاقًا من كتاب خصائص التصوّر الإسلاميّ ومقوّماته، ففي الوقت الذي عكفت فيه الأدبيّات الإسلاميّة لتلك المرحلة بالحديث حول "الأيديولوجيا"، أو "الاشتراكيّة الإسلاميّة"، أو "الفلسفة الإسلاميّة" وإلى ما هنالك... فإنّ سيّد قطب حدّد كبديل عن كلّ ذلك، بل وكبديلٍ عن مصطلح الثقافة عبارة "التصوّر"، والتي هي بنظره "تفسير شامل للوجود، يتعامل على أساسه [المسلم] مع هذا الوجود... يقرب لإدراكه طبيعة الحقائق الكبرى التي يتعامل معها، وطبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الحقائق: حقيقة الألوهيّة/ وحقيقة العبوديّة "وهذه تشتمل على حقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان"، وما بينها جميعًا من تعامل وارتباط". وهذا يوفّر جملة أمور كما عند سيّد قطب:
- معرفة حقيقة مركز الإنسان في هذا الوجود الكوني وغاية وجوده الإنساني.
- تبيين دور الإنسان في الكون، وحدود علاقته بخالقه.
- يتحدّد منهج حياته، ونوع النظام الذي يحقّق هذا المنهج، فنوع النظام الذي يحكم الحياة الإنسانيّة رهين بذلك التفسير الشامل
ولو أردنا التدقيق في معنى التصوّر ودور البحث فيه، لألفيناه يعادل معنى الأيديولوجيا أو الثقافة – حسب كثير من التعريفات –
لذا، فإنّ مسعى التميّز عن كلّ ما هو سائد من تداولات أدبيّة ثقافيّة ودينيّة كان مرمى طموح هذا الاتّجاه.
ومعرفتنا بخصائص التصوّر الإسلاميّ المبحوث هنا، في هذا الكتاب كتعبير عن فكر هذا الاتّجاه؛ يعيننا على معرفة كيف تشكّل ثقافتها الدينيّة.
لقد سعى هذا الاتّجاه ليتمحور مشروعه على تعاند بين مركزين:
المركز الأوّل: النصّ القرآنيّ.
المركز الثاني: ما أفرزته العلمنة والإلحاد من فكر وثقافة ونتاج تنويري أو حداثويّ. بحيث إنّهم اعتقدوا أنّ تمام مضمون التوحيد إنّما ينقسم إلى قسمين:
القسم الأوّل: "لا إله"؛ وهي تعبير عن كلّ واقع أو أمر سائد وقائم بفعل الجاهليّة والعلمنة والانحراف الدينيّ والإلحاد.
القسم الثاني: "إلاّ الله"؛ وهو حصر الحقيقة والإدراك والكينونة وبناء الواقع بالتعبير القرآنيّ عن مضمون وحقيقة وثوب التوحيد.
وقد قرّر هذا الاتّجاه جملة قواعد وارتكازات منها:
- - أنّ القرآن لم يحاصر الإدراك البشريّ بالعقل وحده أو الحسّ وحده، بل تعامل القرآن الكريم مع الحسّ والفكرة والبديهة والبصيرة، ومع فعاليّات الكينونة الإنسانيّة، وسعى الطرح القرآنيّ بين مختلف هذه الفعاليّات، في كينونة الإنسان. والملفت هنا، رفض هذا الاتّجاه للعقل كذات، واعتباره مجرّد حركة وفعاليّة في الإدراك الإنساني، وإنّ هذا خلاف ما عليه الأمر في الفكر الغربي، في الوقت الذي أعطى فيه هذا الاتّجاه مساحة واسعة للمدارك والإدراك الحسّي.
- - إنّ الهدف القرآنيّ من المعرفة هو هدف عملي. صناعة الحركة والنشاط والعمل من وراء المعرفة. وأنّ المعرفة أو العلم لا يُقصد لذاته.
- - إنّ التناغم بين المضمون والشكل، أو حسب تعبيرهم، التناغم بين القلب والقالب، هو ضرورة توحيديّة قرآنيّة. فلا يمكن الموافقة على مضامين من القيم والأفكار والمعتقدات التوحيديّة الإسلاميّة، ثمّ نقوم بإلباسها قوالب أو أشكال من خاصّيّة وتصوّر غير توحيدي. فإدراج المضامين التوحيديّة، في ثقافة من واقع علماني هو هرطقة وانفصام في الهويّة القرآنيّة لأيّ جماعة تنزلق في هذا المنزلق. لذا، فلا يمكن الموافقة على أيّ مصطلح، أو منهج، أو آليّة، أو مرجعيّة ثقافيّة لا تنسجم مع المضمون التوحيدي القرآنيّ، حتّى لو كانت مجرّد أشكال ولو سطحيّة.
- - إنّ المرجعيّة للثقافة الإسلاميّة حصرًا هي النصّ القرآنيّ، وليس للعقل من دور؛ ولو فرضنا أنّ له دورًا؛ إلاّ فهم ما وصل إليه من أمور الوحي ومضامين النصّ، أمّا أن يكون للعقل دور تقريري في طرح وإنشاء الحقائق، أو تنظيم شؤون الحياة، فهذا خارج عن دائرة اهتمامه وموقعه ودوره؛ لأنّ نطاق صلاحيّة العقل إنّما تكون في إطار فهم وتفسير النصّ، والاهتداء به.
- - إنّ طبيعة أيّ نظام اجتماعيّ إنّما تتشكّل على ضوء طبيعة التصوّر الاعتقادي، ولا العكس.
هذه الاستنتاجات الموشية لطبيعة تفاعل تشكّل الثقافة الإسلاميّة على نهج الماضويّة الدينيّة، تفيد أنّ الواقع أو العقل ليسا إلاّ محفّزًا للنصّ، وخطوطًا ومدارات لحركة مضامين النصّ.
وبالتّالي، فالثقافة فيها البُعد الإيجابي الثابت والمتبنّى، وفيها الهامش المتغيّر الذي يبقى محلاًّ للتشكيك إلى أن ينسجم مع الثوابت الإسلاميّة الوحيانيّة. ولهذه الثوابت خصائص مركزيّة في تصوّرات هذا المنزع الثقافيّ. وهي تمثّل الإجابة الصريحة على سؤال؛ ممّ تتشكّل الثقافة الإسلاميّة؟
الخاصّيّة الأولى: الربّانيّة، وقد عرّفها سيّد قطب بالقول: "هو تصوّر غير متطوّر في ذاته، إنّما تتطوّر البشريّة في إطاره وترتقي في إدراكه، وفي الاستجابه له"
وقد اعتبر قطب أنّ هذه الخاصّيّة هي مصدر أيّ موثوقيّة متوقّعة لأيّ أمر من الأمور سواءً أكانت قيميّة أو فكريّة أو عمليّة. وأنّ هذه الخاصّيّة مبرّأةٌ من كلّ نقص أو زلل. والربّانيّة بما هي مصدرٌ متسام فلا يعبِّر عنها إلاّ الوحي والنصّ، أمّا "الفكر البشريّ [فهو] مدعو للتدبّر والتفكّر، والنظر والاعتبار، والتكيّف والتأثّر والتطبيق في عالم الضمير وعالم الواقع"
وبرغم هذه الميزة "الربّانيّة"، والقول: إنّ مصدرها غير العقل، فلا بدّ من إجراء نقاش ثقافيّ مع هذا الطرح. إذ القول: إنّ هذا التصوّر "غير متطوّر في ذاته، إنّما تتطوّر البشريّة في إطاره، وترتقي في إدراكه" يفترض أنّ خاصّيّة الربّانيّة هي أمرٌ ثابت؛ يمثّل مثالاً أعلى للكمال؛ وأنّ قصد هذا المثال الأعلى، ومحاولة فهمه، هو سرّ الرقيّ والتكامل الإنساني.
لكنّ هذا التصوّر لم يُبيّن لنا أنّ الثبات هنا، هل هو بمعنى التوقّف والجمود عن الحركة، أو بمعنى أنّه جوهرٌ ثابت. فإنّ كان بالمعنى الثاني فقد وقع صاحبنا، بفخ المقولات الفلسفيّة. وهو ممّن يستنكرها ويدّعي رفض الإسلام لها. وإنّ كان بالمعنى الأوّل فهذا يخالف قوله سبحانه وتعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾، أو القول: "له سبحانه في خلقه شؤون". وإن كان الثبات هنا، بمعنى الذات والهويّة السيّالة، فإنّ هذا ممّا يحتاج في أصل إثباته إلى حيِّز معرفيّ، وإن تحدّث النصّ عن مظهره العامّ، لكنّه أحال إثباته وجودًا وتأويلاً إلى العقل نفسه. والعقل المبرهِن واحد بوحدة مصدره الإنساني. أمّا العقل المقيّد بخصوصيّة ثقافيّة ناتجة عن النصّ وفهمه، فهو عقلٌ تسويغيّ، أو بأفضل حالاته يعمل على كشف المراد، ليس إلاّ. وهذا النحو هو ما يميّز طبيعة تشكّل الثقافة الإسلاميّة عند هذا الاتّجاه الماضويّ.
ولتأكيد هذه الخصوصيّة المعرفيّة في بناء التصوّر، فقد ربط "قطب" الربّانيّة، بالفطرة التي اعتبرها سرّ الثبات ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلقِ اللهِ﴾
وبالتّالي، فيكون الثبات الناتج عن الربّانيّة؛ حسب قطب؛ يتعدّى ما هو إلهيّ؛ إلى ما هو تكويني عند أصل ذات الناس وهويّة "العبد". لكنّه يعود ليقرّ أنّ هذه الخاصّيّة تدفعنا لمعرفة طبائع الأمور في ذواتنا وفي كلّ ما هو حولنا.
فإذا كانت الفطرة التكوينيّة كذلك، فلم لا نعتبرها العقل الباحث بذاته عن أصل الحقيقة ومسالكها. وليكون العقل بذلك صنو النصّ في مدارات البحث عن الحقائق والأشياء.
إنّ رفض الإجابة أو النتيجة التي يمكن أن تؤول إليها الإجابة عن هذا السؤال؛ هي التي تطبع كلّ ثقافة انحصاريّة، وتقدّرها بالذات والهويّة المستعلية، وإنّ عبّر عنها بعض الباحثين أو المذاهب والأديان بالنصّ الموحى أو الملهم.
ولإخراج كلّ مورد ومصدر من البين، يذهب قطب في بحثه حول الربّانيّة لاعتبار خاصّيّة ثالثة هي "الشموليّة". ويحيل كلّ أمر إلى غير الإنسان؛ ذلك أنّ الإنسان مهما بلغ شأنه، هو محدود، ومتموضع في إطاريّ الزمان والمكان، لذا لا قدرة لديه على صياغة النظم والتشاريع الناجعة. ممّا يفرض عليه أن يستقيل عن أداء أيّ وظيفة سوى التلقّي والتسليم ومطلق القبول.
وهذا التصوّر – حسب قطب – "يمنح القلب والعقل راحة وطمأنينة واتّصالا بحقيقة المؤثّرات الفاعلة في هذا الوجود – كما هي في عالم الحقيقة والواقع – ويعفي الفكر البشريّ من الضرب في التيه بلا دليل"
هكذا، وبصياغات شاعريّة – أدبيّة يعالج، قطب، أعظم إشكاليّة بشريّة يعيشها الإنسان. وكأنّ البلاغة الأدبيّة تُغني عن الحاجة إلى نقاش موضوعيّ، وهذا يؤكّد مرّة جديدة طبيعة هذه الثقافة الاختزاليّة التي تفترضها جماعات الماضويّة الدينيّة، لكنّ الخطورة الفعليّة؛ هنا؛ هي في التعابير التي تصرّح بالخمول والجمود العقيدي والوجداني والثقافيّ. من مثل: منح القلب والعقل الراحة والطمأنينة، والاتّصال بحقيقة المؤثّرات الفاعلة في هذا الوجود، وكأنّ في ذلك مشروعًا لتوليد (أنبيّاء جُدُد، يتّصلون بمصدر الحقيقة)، بل (هناك تصوّر للاستحواذ على الحقيقة من مصدرها، كما هي في الواقع. والأنكى القول: إنّ هذا التواصل وتلك الراحة "تعفي الفكر البشريّ الضرب في التيه بلا دليل". إنّها عبارة صريحة بإنتاج (العقل المستقيل)؛ لأنّ فاعليّة أيّ إدراك وعقل إن هي إلاّ مغامرّة من البحث لا مقصد لها إلاّ التوفّر على معرفة وجوه من الحقيقة. وبدون ذلك، بدون تجربة العقل، لا معرفة ولا إدراك ولا ثقافة.
أمّا بعد ذلك، فإن "قطب" يرتجي خاصّيتين حسّاستين هما: التوازن في أبعاد الكينونة البشريّة لنيل ثقافتنا، والعقلانيّة في التعاطي والتفاعل مع المحيط والوعي والثقافة.
ولو اكتفى ممثل الماضويّة الدينيّة الثقافيّة بالعنصرين الأخيرين لأتاح الفرصة لنحو من التعدّد في الأفهام، وفي درك العلاقة بين ما هو ثابت وما هو متغيّر في الدين والثقافة، ولأعفى نفسه والآخرين من التعرّض لثقافة عنف الحصريّة العصبويّة.
لكنّ النتيجة التي يمكن الوصول إليها، أن تشكّل هذه الثقافة، إنّما تمّ باندفاع نفسيّ نحو جعل المركزيّة المعرفيّة منحصرة بالنصّ وحرفيّة ما فيه، ممّا يحفّز تأويل العقل للواقع بما ينسجم مع فهم النصّ، وهو ما غلّب الطابع الأيديولوجي على طروحات هذه الاتّجاهات، بل هو ما وظّفته فيما بعد بعض الاتّجاهات العنفيّة – التكفيريّة لما يخدم منطقها وسلوكها الإرهابي.
- المسار الرسمي لتشكّل الثقافة الدينيّة، الإسلاميّة (الإسلام الفطريّ)
لا أقصد بالمسار الرسمي، البُعد المؤسّسي الدينيّ، بل ما غلب على التشكّل الثقافيّ عند الأوساط الدينيّة عمومًا، وفي الوسط الإسلاميّ على نحو خاصّ. وسنأخذ هنا النموذج الإسلاميّ كحالة صالحة لممارسة هذه القراءة.
تقوم القراءة الإسلاميّة على اعتبار أنّ الإنسان منتمٍ لبُعد دنيويّ، وآخر، هو فوق الطبيعة، أي بعد إلهيّ، أو حسب بعض التعبيرات لاهوتيّ. وهذان البعدان يحاكيان كامل الذات والكينونة الإنسانيّة، بما تنطوي عليه من مدارك حسّية وعقليّة ووجدانيّة، بل ومدارك ينسبها بعضهم إلى طور ما بعد العقل.
هذا فضلاً عن الجوانب والأبعاد الأخلاقيّة – القيميّة، والاحتياجات الغريزيّة والعاطفيّة والفيزيائيّة، ثمّ تلك الأبعاد المسلكيّة النفعيّة أو المتسامية... وتعتقد القراءة الدينيّة خاصّة بوجهها الإسلاميّ، أنّ الوحي هو مصدر مؤثّر وفاعل في حياة الإنسان، ومنشئ لقواعد التكامل في كامل جوانبه وأبعاده. بما في ذلك الإضاءة على موقع الناس من محيطهم الطبيعيّ والاجتماعيّ.
فحسب القراءة الإسلاميّة، ليس الإنسان مالكًا لشيء، بل هو مستخلف من مالك الملك الذي هو الله سبحانه. وأنّ المالك الحقيقيّ خلق الخلق على أحسن نظام، وسخَّر هذا المحيط للإنسان المستخلف، وبالتّالي، فإنّ الإنسان مسؤول عن إدارة صلاح العالم وإدارته نحو كمالاته وتنضيج خيراته. بما في ذلك القابليات الذّاتية القائمة في الإنسان نفسه، بما فيها: العلم، والقدرة، والإرادة، والحرّيّة، والاختيار، والإبداع... ومن هنا، كان قوله سبحانه: (وَقِفُوهُمْ إنّهم مَسْئُولُونَ). إلاّ أنّ الصورة هنا، ليست على النحو المنجز والفعليّ، بل إنّ القراءة الإسلاميّة تعتبر أنّ ما عند الإنسان هو على نحو الجعل الفطريّ، الذي يحمّل قابليات مهيّأة للانتقال من مرحلة الإمكان والكمون إلى مرحلة التحقّق والظّهور؛ وشرط هذا الانتقال؛ وعيٌ داخليّ للذات "معرفة النفس"، ووعي عميق بالآفاق "معرفة العالم"، ومعرفة الذات، أو معرفة العالم؛ وإن كانا يرتبطان بعلوم ومدارك خاصّة، إلاّ أنّ فهم كلّ ذلك، وفهم الوعي الجمعيّ والتاريخيّ لهذه المعارف هو ما يمكنّنا تسميته بالثقافة. وبدون هذه الثقافة لا يعقل أن ينتقل الإنسان إلى المرحلة الفعليّة في تكامله العقيدي والقيمي والأخلاقي والعملي أو المسلكي.
لذا، فإنّ الثقافة تمثّل "البصيرة"، والتزامها الجدّي هو عين "الاستقامة"، ومن دون البصيرة والاستقامة لا يمكننا رسم مسار العلاقة المخلصة مع الله، أو ما بعد الطبيعة؛ لأنّ هذا المسار هو الذي نسمّيه "الدين". بناءً عليه، فالثقافة التي نودّ البحث عنها هي ترتبط ارتباطًا وثيقًا وعميقًا بالدين. بل هي عينه. ومن هنا أسمينا منهج البحث فيها "إلهيّات المعرفة". فعلى سبيل المثال: عبّر هذا الاتّجاه عن أنّ الدين عبادة هي عين السياسة، والسياسة هي عين العبادة. فلم يفصل بينهما؛ أيّ ما هو إلهيّ وما هو بشريّ، ليعود فيبحث عن علاقة تلفيقيّة تجمعهما، بل اعتبرهما ينتميان إلى حيّز واحد، يقوم على ما يصطلح عليه "بنمط الحياة"، وقوله: نمط حياة ينطوي على أمرين اثنين:
الأمر الأوّل: تغليب البعد الإنساني، في أيّ قراءة. والنظرة للإنسان قد تكون مبنية على استقلاليّة وجود هذا الكائن، عن كلّ ما هو فوقه أو يحيط به، وهو الإنسان الأبتر والمنقطع عن كلّ ما عداه. وبالتّالي، فإنّه يدخل مع كلّ ما سواه معركة التملّك وإثبات الذات، أو الإنسان المتّصل بما فوقه وما يحيط به وهو الإنسان المتفاعل؛ المستخلف لإعمار الأرض، والثاني هو مقصد هذا الاتّجاه.
الأمر الثاني: الاعتراف بأيّ ثقافة قد تنجم عن نظرة هذا الإنسان، ممّا يشكّل تحديدًا للهويّة ولنمط الحياة.
وهذا الاعتراف يقتضي معرفة وتفاعل، بل وتكامل مع الغير أحيانًا. إلاّ أنّه يرصد ويفرّق ببصيرة التميّز والتمايز بين ثقافة وأخرى، ونمط وحياة مع نمط آخر.
وبالتّالي، فإنّ هذا الاتّجاه، وإن كان يبحث عن طبيعة الفرادة في ثقافته الدينيّة، إلاّ أنّ تشكّل هذه الثقافة تلحظ بشكل كبير ما عند الغير، من تصوّرات ومقولات وفنون ومسارات حضاريّة وقيم وتاريخ. تلحظ "نقدًا" لا "نقضًا"، لترى ما يتوافق ممّا لا يتوافق، وما يفيد ممّا لا يرجع بالفائدة، بل أحيانًا يرجع بالضرر. لذا يتحوّل الآخر إلى جزء مكوّن للذات، إذ الناس إمّا إخوة في الدين، والمعتقد، والثقافة، أو نظراء في الخلق والانتماء الجغرافي والحضاريّ. وهذا المنحى أو الاتّجاه ما كان بإمكانه المرونة والتميّز في هذا الجانب لو لم يعتمد في تشكّله الدينيّ والعقيدي والثقافيّ على مبدأي التجدّد والاجتهاد الفكريّ. وهي عمليّة تستند منهجيًّا إلى النصّ القرآنيّ والروائيّ، كما تستند إلى نحو من استقلاليّة العقل وقدرته الذّاتية على نحو من الحجيّة في فهم واستنتاج المقولات والقواعد والأحكام. كما أنّها تستند إلى مراجعات تراثيّة تراعي التخصصيّة والأهليّة العلميّة. وتنطلق هذه المنهجيّة من قواعدها آنفة الذكر، لتخوض غمار التعرّف والتحليل والبحث التأويلي لأنواع المنظومات الثقافيّة الأخرى. مجرية حراكًا حواريًّا فعّالاً وصل إلى مرحلة تقديم أطروحة "حوار الحضارات" في فترة من الفترات، كتعبير عن مثل هذا التفاعل. واليوم يعود الكلام حول شرط التفاعل التكاملي مع علوم ومعارف كسند للتطوّر في تشكّلات معارفنا وثقافتنا الإسلاميّة.
وللتدقيق في مفاصل هذا الطرح، علينا التركيز على جملة مكوّنات ترجع إلى تشكّل الثقافة الإسلاميّة، بحسب هذه القراءة الرسمية "التجدّد والاجتهاد الفكريّ". ومنها "الواقع" باعتباره المصدر الذي تتأتّى منه المعرفة أو المعلومة. والواقع هنا يتفاوت تحديده كثيرًا، فمن الناس من يعتبر الواقع هو هذه الحصيلة الناتجة عن جملة العلوم والفنون والاكتشافات والمعارف. وبالتّالي، يصبح هذا الناتج هو المولِّد للثقافة، فضلاً عن كونه الموجّه لمسار ونمط هذه الثقافة. وهناك من يعتقد أنّ الواقع هو ما يمكن لوسائلنا المعرفيّة الحسّية أن تدركه. وبالتّالي، كلّ ما يقع في مرمى الحواس فهو واقع، وما ليس كذلك فهو من تخلّقات الذهن وليس واقعًا.
أمّا ما تقول به الأديان، فيعتبر الواقع هو كلّ ما يصدق عليه أنّه موجود حقيقة سواءً أكان غيبيًّا أم عقليًّا أم حسيًّا. ذلك أنّ أيّ قيمة أو حقيقة إنّما تنطويّ في الموجود، من هنا كان الوجود هو مصدر ومرجع كلّ واقعيّة أو واقع. والواقع بالنتيجة، هو متن أو قاعدّة كلّ موجود، إلاّ أنّه جوهر الحقيقة، وما من جوهر إلاّ ويتمظهر بعوارض من الأمور المتحرّكة المتغيّرة، والتي منها حصيلة العلوم والفنون والمعارف.
والسؤال المطروح هو هنا، إلى أيّ مدى يتأثّر الواقع باعتباره جوهر الحقيقة بالعوارض الناشئة والمتحرّكة؟ وإلى أيّ مدى تتأثر هذه العوارض بالجوهر (الواقع) نفسه؟
وهنا تفرض خصوصيّة الحديث حول الثقافة أن نتناول ما هو متغيّر في مجرى الواقع. وذلك للتناسب القائم بين الثقافة وبين حراك المتغيّرات. ذلك أنّ الثقافة هي حصيلة مجمل العلوم والمعارف؛ وهي حينما تنتسب إلى أمّة أو جماعة أو ديانة بعينها، فإنّها تخضع للضوابط العقليّة المنتسبة لتلك الأمّة أو الديانة. فيبحث العقل عما هو متوافق مع جوهر وهويّة الديانة من معطيات، ثمّ يقوم ببحث حجم التناسق بين تلك المعطيات ومدى انطباقها على مرجعيّة النصّ، فيما يخصّ موضوع الأديان. وهكذا يؤمن العقل بالثقافة ومرجعيّة النصّ ما يضفي على الواقع الثقافيّ نمطًا حياتيًّا معرفيّا خاصًّا.
إذن، العقل يشكّل مصدر النقد والحكم، وذلك بالكشف عن الأشياء والعلاقة بينها، وهو بعينه يعيدنا إلى مرجعيّة المصدر (النصّ)، (الكلام الموحى والملهم)، ليرى طبيعة التطابق بين الأصل والعوارض الحادثة، ممّا يعيد المجموع بتكامله إلى إحداث وتركيز واقع خاصّ. وتكبر وتتعاظم المشكلة حينما تتعارض نوعيّة وطبيعة نتائج العلوم والمعارف.
وهنا يواجه المسار الدينيّ، الإسلاميّ الأمور الآتية:
- - محدوديّة الإنسان في أصل وجوده ومكوّناته الإدراكيّة والمعرفيّة.
- - الحاجة إلى استكمال ما يحقّقه العقل من معارف بمصدر أو مصادر تضفي عليه اليقينيّة.
- - ذهاب البعض إلى ظنّيّة النقل.
وهذه الأمور يتسبّب عنها مشكلات في كثير من الأحيان منها:
- - غلبة الميول والأهواء والنمطيّة على الناتج المعرفيّ الثقافيّ والفكريّ.
- - إضفاء طابع الثابت، بل أحيانًا المقدّس على بعض النتاج البشريّ، والتعامل معه وكأنّه موحى أو ملهم.
وأمام هذه المشكلات خرجت مؤخّرًا دراسات تعتبر أنّه علينا الفصل الحادّ بين ما هو إلهيّ، وما هو بشريّ. بحيث إنّنا أمام خيارين: إمّا التطرق في اعتماد ما هو إلهيّ ونفي النتاج البشريّ، وإمّا علمنة كلّ النتاج الثقافيّ والمعرفيّ الإسلاميّ.
وبين هذين الاتّجاهين جاءت القراءة المعتمدة لتعتبر أنّ أصالة الواقع والحقيقة تفرض كون الصواب هو بمقدار الاقتراب من هذه الحقيقة، وما على المسعى البشريّ إلاّ الاجتهاد في هذا السعي والتجدّد في قراءة كلّ ناتج جديد. وأنّ النقل يبقى النبراس الهادي والمسدِّد لحركة العقل الذي يمتلك مقوّمات البرهنة والإثبات.
عليه، فإنّ عنصر الزمان والمكان هما ثابتان في أصل اعتمادهما، وإنّ كنّا نقرّ بطبيعتهما السيّالة والمتغيِّرة، والتي تفرض على الدوام مبدأ التجدّد.
وعند اشتباك التعارض في المعطيات تأتي قاعدتا (الاتّساق والانطباق) لتلعبا دورًا مركزيًّا من خلال جدليّة: العقل، النقل، والواقع بشقّيه الجوهري والعارض.
وعليه، سواءً اعتبرنا العقل ذاتًا ماهويّة، أو اعتبرناه فعاليّة، تعقُّلاً، فإنّ للعقل دوره المحوريّ في تشكّل الثقافة الإسلاميّة، وبدونه، فإنّ الجمود النمطيّ سيكون هو سيّد الموقف، سواءً أكانت هذه النمطيّة صادرة عن اعتماد النصّ بحرفيّته، أو كانت صادرة عن اعتماد الواقع بمعناه المتبدّل. فكلّ حركة تموضع العقل وتحجزه في قمقمها فإنّها تفرّغه من كلّ قدراته ومحتواه، وتوقّعه بالعجز عن تقويم الواقع، أو تأويل النصّ والواقع، وبالتّالي، عن تصحيح أيّ خلل. إذ تنميط العقل هو فرض على تكييف ذاته وقوامه بما يتلاءم مع تغيّرات الوقائع والانسياق لغلبة ما تفرضه قوى التحكّم من قيم ورؤى وأخلاقيّات اجتماعيّة وسياسيّة.
بكلمة أخيرة: إنّ التشكّل الفعليّ للثقافة الإسلاميّة وإن كان يعتمد على النصّ، والواقع، ومجريات الوقائع والأحداث، وغير ذلك... إلاّ أنّ الدور الفاعل والمحوريّ يبقى للعقل الذي يلحظ كلّ ذلك، ومن ضمن ما يلحظه العادات والتقاليد والأعراف؛ ليقوم بدور المنظّم والمظهِّر لطبيعة الثقافة المعتمدة. وبقليل من العودة لبعض تعريفات الثقافة الإسلاميّة بإمكاننا الوصول إلى هذه النتيجة بشكل واضح ومن ذلك: أنّ الثقافة الإسلاميّة هي: "الحصيلة العمليّة والفكريّة الناتجة عن دراسة وفهم النصّوص الشرعيّة وميراث الأمّة من قيم وأخلاق اكتسبتها الأمّة بالتجارب والحياة"
وآخرون يذهبون إلى أنّها الرؤية العقائديّة، أو تصوّراتنا للقيم والتاريخ والفنّ والفكر.
بكلّ الأحوال هي نحوٌ من الفهم والتصوّر، وهما أمران ناتجان عن العقل نفسه.
واستنادًا لما يعتبره فيلسوف الثقافة بولس خوري، فإنّ مقوّمات الثقافة هي انتقالات من الذات للموضوع عن مجالات أربع:
- - التصوّرات والتي تضم الرؤية الكونيّة، وموقفنا من التجريبيات.
- - السلوك والتصرّف وهي عبارة عن مجموع القيم المعياريّة وقواعد السلوك الأخلاقي، ونماذج التنظيم العلائقي.
- - الصنع والإنتاج التقني وفاقًا للحاجات.
- - الفنّ وهو جملة أصول، ومجموعة من الرموز المشيرة لأنماط وأساليب التعبير.
وفي كلّ هذه، يدخل العقل كمفصل حسّاس، سواءً أكان العقل المستطلع، أو العقل المكتشف، أو العقل المبدع. وإذا انصبغت هذه المجالات بصبغة الدين، فإنّ العقل يتقدّم كرسول بشريّ تولّد من حضرة الذات الإلهيّة ليجمع بين ما هو سماويّ، وما هو أرضي في معادلة العيش والثقافة.