ثقافة الحوار في مواجهة ثقافة الإقصاء
القسّ الدّكتور إدغار طرابلسي
السّلام معكم
بالأمس سمعنا رجالاً علماء أفاضل حكوا في الحوار ونبذ الإقصاء والفرقة والتوحّش والإرهاب وأهمّيّة الحوار وأطره وطرقه وفوائده. وقد سُررت أن أسمع عددًا من الأصدقاء الّذين سبق والتقينا معهم بمؤتمرات سابقة. وأنا إذ أودّ الكلام عن "ثقافة الحوار في مواجهة ثقافة الإقصاء" أرى أنّه من الضروريّ الاعتراف أنّنا لا نعيش في منطقة هانئة وطيّبة ومسالمة 100% قد تآمر الغرب عليها ورحنا ضحايا تلك المؤامرات. علينا أن نعترف أنّ موضوع المشاكل بين المجموعات الدينيّة والحضاريّة المختلفة قديم يضرب عميقًا بالتاريخ وقد سبّب آلامًا وهجرات وجعل دماء كثيرة تسيل.
وإذ لا بدّ أن نعرف كيف نعيش في مجتمع متنوّع ومتنافر ويضمّ أناسًا من خلفيّات دينيّة ومذهبيّة وحضاريَّة وإثنيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة مختلفة، نسأل: هل نتقاتل، أو نتنافر، أو نتعايش بالتكاذب، أو نتحاور ونبني حالة تكامل مجتمعيّ إيجابيّة وسليمة وصحّيّة؟ وإذ نعترف بوجود حالات مَرَضيّة قاتلة في مجتمعاتنا وعلى رأسها التعصّب الدينيّ والفرقة والتكفير وغيرها، نبدأ رحلة التفكير في علاج ناجح يشفينا من اللّعنات القاتلة. بالأمس سمعنا العبارة أنّ الأديان لا تتحاور بل الناس يتحاورون. وهذا يُريحني أكثر. وأسأل نفسي إن كنّا قابلين لبعضنا البعض بصدق في ظلّ التنوّع والاختلاف الدينيّ واللاهوتيّ والشعائريّ.
وأسأل: كيف لا نخاف الآخر ونحن نرتاب به؟ هل النقاش الدينيّ والفقهيّ واللاهوتيّ هو ضروريّ ليجعلني أرتاح لعلاقتي بالآخر وأتفهّمه وأقبله أو أنّه قد يثير الحساسيّات والمشاكل ويزيد من الفرقة؟ وأذهب بعيدًا لأسأل: يا ترى، هل نحن نُبقي الصداقة والأخوّة مع من يُخالفنا الرأي ضمن المذهب الواحد؟ أو هل نقبل أن يترك مذهبنا أو ديننا أحدهم ليلتحق بمذهب أو دين آخر؟ ألا نُكفّر المرتدّ ونسعى لمعاقبته بطريقة ما؟ هل حقًّا نحكي عن الحوار وقبول الآخر المختلف عنّا والسماح له بالحياة الكريمة وبحرّيّة الضمير والرأي والاختلاف وبحقّ تغيير المعتقد والانتماء والممارسة الدينيّة؟ وهل دائمًا الحوار يجب أن يكون دينيّا محضًا أو أنّه بالإمكان أن يكون حوارًا إنسانيّا وأخلاقيّا وتربويًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا؟ أنا لا أظنّ أنّه دائمًا علينا أن نتحاور بالدين لنصل إلى سلام ووحدة مجتمعيّة.
لنا في التراث الإبراهيميّ الذي ندّعي أنّه يجمعنا قصّة معبّرة جدًّا، ألا وهي قصّة إبراهيم الخليل عندما أتى من أور الكلدانيّين إلى أرض كنعان، وهناك وصل إلى أبي مالك أحد ملوك الفلسطينيّين الذي استحلفه: "فَالآنَ احْلِفْ لِي بِاللهِ ههُنَا أَنَّكَ لاَ تَغْدُرُ بِي وَلاَ بِنَسْلِي وَذُرِّيَّتِي، كَالمَعْرُوفِ الَّذِي صَنَعْتُ إِلَيْكَ تَصْنَعُ إِلَيَّ وَإلى الأَرْضِ الَّتِي تَغَرَّبْتَ فِيهَا. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَنَا أَحْلِفُ"[1]. وهكذا عقدا عهدًا دون نقاش لاهوتيّ دينيّ لكن كان باسم إله إبراهيم الّذي لم يكن أبي مالك يؤمن به. علينا أن نتعلّم من هذه السالفة التاريخيّة القيمة كيف نتعايش مع الآخرين ونقبلهم ونرتبط بهم بعهود أخوّة وحسن جوار.
الخوف من "الآخر"
معظمنا يخاف من "الآخر". وعالج كلّ من ميشال فوكو وليو ستراوس وغيرهما موضوع "الآخر" L’Autre وسألوا عن طريقة التخلّص من الخوف من الغريب الَّذي لا نعرفه فنتوجّس منه شرًّا فنبتعد عنه ونُعاديه. منهم من قال إنّنا نتغلّب على الخوف من الآخر بالتعرّف إليه، أو التغلّب عليه، أو بفرض القوانين الَّتي تُزل الفوارق العنصريّة والطبقيّة أو الدينيّة، أو عبر الحوار وإيجاد جوامع مشتركة أو عبر بناء جسور الثقة بين الناس. وينفرد يسوع عن غيره في طرحه مدّ يمين الخدمة إلى الآخر الَّذي يُقرّب المسافات بينهم ويجعلهم إخوة.
عانى المجتمع اليهوديّ أيّام السيّد المسيح من التعصّب والاستعلاء على الشعوب والتقوقع ورفض "الآخر" وتكفيره – على أساس دينيّ – واعتبار الجميع غرباء وأعداء نجسين لا يمكن التقرّب منهم. والتزم اليهود يومها التوحيد والوحي والشريعة والأخلاق والحرام والحلال والصلوات والأصوام والحج وسبقوا غيرهم في خطى إبراهيم. واجه السيّد المسيح مشكلة التعصّب اليهوديّ وأعطى قصّة السامريّ الصالح الّتي تبقى أنموذجًا رائعًا Masterpiece لتعليم دينيّ وأخلاقيّ واجتماعيّ وسياسيّ يُساعِد على شفاء الجراح وإحلال السلام والتعاون وتحتاج إليه جميع المجتمعات الَّتي تُعاني الفروقات بين الفرق الدينيّة والطبقات الاجتماعية والتعصّب والانقسامات والصراعات والحروب.
وإذ إنَّ لبنان وبلاد المشرق يُعانيان منذ مئات السنين، يكون من المفيد جدًّا إعادة اكتشاف التعليم الوارد في قصّة السامريّ الصالح لمحاولة رأب التصدّعات الَّتي لا تُلحَم. فمتى وقعت الفرقة بين الناس صَعُبَ إعادة بناء جسور المودّة والصداقة والعيش المشترك في سهولة. يُقال إنّ الرئيس فؤاد شهاب كان يقول في مجالسه إنّ حال لبنان كحال اللوح الزجاجيّ على طاولة حديقته، إن تعرّضت للكسر يصعب لحمها مجدّدًا! وحدها فلسفة السامريّ الصالح تلحم ما لا يُلحَم بين المتخاصّمين.[2]
من هو قريبي؟ وعلاج رهاب الغرباء
في هذه القصّة نرى ناموسيًّا يهوديًّا يسأل يسوع: "من هو قريبي؟" وللإجابة عن هذا السّؤال حكى الرّبّ يسوع عن يهوديّ كان نازلاً من أورشليم العاصمة إلى أريحا. هذا وقع في مكمن للّصوص ضربوه وجرَّحوه وعرَّوه وسرقوه وتركوه مرميًّا بين حيّ وميّت على قارعة الطريق. وكان اللصوص يهودًا من الَّذين أسّسوا عصابات سطو ومقاومة للرومان، زمن ساءت الأحوال السياسيَّة والاقتصاديَّة. وقد مرّ به كاهن ولاوي يهوديّان ولم يُسعفاه، في وقت مرّ به رجل سامريّ غريب الجنس فقدّم إليه المعونة وأعانه حتّى شُفِيَ فصار له كأخٍ.
إنّ دراسة عناصر القصّة/ المثَل هذه تؤكّد لنا أن يسوع لم يكُن يُعلِّمنا فيها المحبَّة العمليَّة والخدمة الاجتماعيَّة وحَسْب بل قدّمَ أيضًا درسًا عميقًا في الفكر السياسيّ لشفاء عِلل كثيرة، وفي مقدّمها التعصّب الدينيّ والقوميّ على أنواعه ورُهاب الأجانب أو الخوف المرَضيّ من الغرباء Xenophobia والانغلاق والانعزال وعدم التأقلم الاجتماعيّ ومشكلة العيش في سلام مع الجيران والاستعلاء والشعور بالتفوّق الثقافيّ أو الحضاريّ والكراهيّة الجماعيّة واحتقار الناس ونزع الإنسانيّة عنهم وأبلَسَتهم وظلمهم ونبذهم! فعند يسوع ليس من "غريب" أو "بعيد" أو "آخر" وهو الَّذي علّم: "أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الَّذين يُسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الَّذي في السَّماوات"؟[3]
وفي التمعُّن بسؤال الناموسيِّ: "من هو قريبي؟" لا يُستبعَد أن يكون في تصوّره أنّ قريبه هو حصرًا اليهوديّ ابن جنسه وبلده ومنطقته والحافظ لدِينِهِ بإخلاص. أمّا يسوع بإجابته، فحاول توسيع رؤية سائله لتتجاوز حدود العصبيَّة القوميّة والدينيّة الَّتي لا تعترف بالأخوّة الإنسانيّة العابرة للهويّات الخصوصيَّة. وأظهر يسوع أنّ من يمدّ يد المعونة إلى أخيه الإنسان يصير أخًا له، ولو لم يتعارفا سابقًا، أو حتّى لو انتميا إلى دينين مختلفين أو كانا قبلاً على خصومة أو عداء أو فرقة من أيّ نوع كانت. فأيّ إنسان، من أيّ خلفيّة كانت، هو مشروع "قريب لنا"، وعلينا مساعدته كأخ، وعندما نفعل ذلك نربحه أخًا حقيقيًّا لنا. ومن كانت له "نفسيّة" الجار القريب الطيّب جعَلَ كلّ من يلتقيهم في طريقه أقرباء له.
وفي تركيزه على كون الكاهن واللاّوي، وهما من النخبة اليهوديَّة، لم يلتفتا إلى ابن جنسهما اليهوديّ الآخر، يُظهِر يسوع أنّ الرابط الدينيّ لا يفترض دومًا وجود أخوّة حقيقيّة. وأيًّا تكن الأسباب خلف تقصير الكاهن واللاويّ، الإنسانيّ أو الاجتماعيّ، فهما أظهرا أن تديّنهما كان أعجز عن تغييرهما لجعلهما أكثر إنسانيّة ورحمة. وبتقديمه لهما مثالاً سيّئًا يكسر يسوع صورة نمطيّة لدى سامعيه تُمجّد الرابطة الدينيّة على الرّابطة الإنسانيّة. ويُظهِر هذا المثل أنّ الكهنة واللاويّين اليهود، حالهم كحال الفرِّيسيِّين والكتبة، إذ كانوا حرصاء على تطبيق الطقوس الدينيّة، إلاّ أنّهم سقطوا في امتحان الرحمة والمحبَّة والحقّ والإيمان[4].
يُخفق قادة المؤسّسة الدينيّة اليهوديَّة بينما نرى سامريًّا، ومُحتقَرًا من اليهود، يتصرّف كأخٍ حنون مُكرِّسًا وقته وجهده وماله ومعارفه لإسعاف الجريح. وكان "اليهود لا يُعاملون السامريّين" – طبعًا ولا يُحاوروهم بأيّ موضوع – وكانت بينهم توتّرات كثيرة لعدم نقاء دمهم ولهرطقتهم ولإشراكهم الدينيّ. وها هو السامريّ المكروه يُظهِر محبَّة أخويَّة تجعل اليهوديّ المُسعَف يشعر بأخوَّته إذ رحمه. في خلاصة المثَل نرى يسوع يدعو الرجل الناموسيّ إلى بناء أواصر الأخوَّة مع الآخرين، فلا يبقون "غرباء" بل يصيرون "أقرباء".
وهكذا اختتم يسوع المثل وأجاب عن السّؤال، وعلّم أنّ الرحمة تُقرّب المسافات بين النّاس، وأن الأخوَّة الحقيقيّة هي الَّتي تبنيها القلوب الرحومة المملوءة بالمحبَّة الخالصة للقريب كما للنفس. وهنا يصير أيّ إنسان قريبًا لنا عندما يُحسِن إلينا أو عندما نُحسِن إليه. الموضوع ليس موضوع عصبيَّة عرقيَّة أو دينيّة تجعل الَّذي معنا هو دائمًا الأفضل والأعظم والأنبل، في وقت يكون الآخر الغريب هو دائمًا الأسوأ والأدنى والأحقر.
في معالجة الوضع اللبنانيّ والشرقيّ
سبق وعالج عدد كبير من المفكّرين الناطقين بلغة الضّاد، ومنهم أديب إسحق وأمين الريحاني وخليل سعادة وغيرهم، موضوع التعصّب والغلوّ في الدين واعتقاد الصحّة في الرأي وادّعاء الكمال والتعالي الَّتي تُعانيها المجتمعات العربيّة. وعزا أديب إسحق عامّ 1874 إلى التعصّب إدانة الغير ومحاربته والافتراق عنه[5]. ورأى أنّ المتعصِّب لا يعرف اللين والرفق والحنوّ والحلم والسلام والأخوَّة والوفاء.
واستكمل ناصيف نصّار، الفيلسوف المعاصر في العام 1988، ما ابتدأه أديب إسحق في معالجته موضوع التعصّب في العالم العربيّ محاولاً الرّدّ على جمال الدين الأفغانيّ الذي كتب في القرن التاسع عشر مدافعًا عن التعصّب الجنسيّ والدينيّ وعن العصبيّة الَّتي رأى فيها الرابط القوي بين أهل القوميّة والدين بهدف حمايتهما، إلاّ أنّها كانت خلف نموّ الاستعلاء والكراهيّة والجور. وتحدّث نصّار عن التعصّب "الَّذي يعود بقوّة إلى مسرح الأحداث الاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة من خلال تعاظم الحركة الإسلاميّة الأصوليّة" الَّتي ليست سوى وجه من أوجه "الحركات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة الَّتي تعيش بالتعصّب أو تُغذيه". وبرفضه التعصّب قال نصّار: "إن تقدّم البشريَّة ليس فقط غير محتاج إلى التعصّب، بل هو محتاج إلى تجاوز التعصّب، مهما كان موضوعه وشكله[6]".
ورأى نصّار أنّ التعصّب في حقيقته العميقة، هو "تحويل الانتماء إلى جماعة معيّنة والاعتزاز بها إلى استعلاء أو انغلاق مصحوب بكراهيّة للآخرين أو احتقار لهم". واقترح مفهوم التضامن كمفهوم أسمى وأسلم من مفهوم التعصّب[7]". وزاد نصّار على مفهوم التضامن، مفهوم الانفتاح في مجال الرأي والانفتاح الاجتماعيِّ على الآخرين كضرورات للتخلّص من التعصّب وتبعاته. وهكذا نرى نصّار يسير بنقاشه الفلسفيّ في خطّ متوازٍ مع تعليم المسيح المُعلَن في قصّة السامريّ الصالح الَّذي قصد فيه إخراج الرُّسل والتلاميذ الأوّلين من أسر القبليّة اليهوديَّة وعصبيّتها إلى رحاب الأخوَّة الإنسانيّة ورباطها الَّتي يسمّيها نصّار: "التضامن".
هدم جدران الفصل
وإذ تعلو جدران الفصل والتباعد بين المجموعات والمذاهب الدينيّة – لأسباب شتّى – في شرقنا وفي العالم نأخذ من التاريخ غير البعيد بعض الأمثلة لإمكان هدم تلك الجدران. وقد دخلت عبارة جدار الفصل إلى اللغة السياسيَّة من جدار برلين الَّذي كان يفصل بين شرق المدينة وغربها وأسقطه الناس في 9 تشرين الثاني 1989 (انتهت إزالته في 13 حزيران 1990).
ويُجسّد القسّيس المعمدانيّ مارتن لوثر كينغ النموذج الأقوى من حيث التمسّك بتعاليم المسيح لإبطال الفصل العنصريّ بين السود والبيض فألزم الدَّولة الأميركيّة إزالة هذا التمييز في العام 1966. وهناك أيضًا علامة فارقة في تاريخ النضال لإزالة الفوارق بين الناس على أساس العرق واللون ألا وهو الأسقف الأنكليكانيّ ديزموند توتو (المولود عام 1931). فقد تميّز نضال الأسقف توتو ضدّ التمييز العنصريّ Apartheid في جنوب أفريقيا بالسلميّة لتخليص بلاده منها.
أمّا أفضل نموذج للتغلّب على الفرقة والخلاف ما بين الطوائف في بلد واحد فهو رئيس وزراء إيرلندا الشماليّة، القسّيس الإنجيليّ، إيان بايزلي وقائدي الجيش الجمهوريّ الإيرلندي جيري آدمز ودايفيد ماغنيس اللَّذين أنهيا حوالي مئة عام من الصراع ما بين البروتستانت والكاثوليك في إيرلندا الشماليّة في العام 2007 وعملا معًا من أجل مصلحة مواطنيهما ونجحا في بناء صداقة شخصيَّة متينة بعد عقود من الخلاف الحادّ والصراع الدامي.
ويبقى فخامة الرئيس العماد ميشال عون، العلامة الفارقة في تاريخ لبنان والمشرق المعاصر إذ بادر بوضع حدّ لحال الفرقة والخلافات والانفصال النفسيّ والعمليّ والمناطقيّ بين المسيحيّين والمسلمين في لبنان. وهذه ابتدأت قديمًا في العام 1860 ولم تُمحَ مع الميثاق الوطني في العام 1943. وتجدّدت في الأعوام 1958 أو 1975 ولم توقّفها وثيقة الطائف (1989) ولا إزالة خطوط التماس في العام 1990. ولم تشفِ جروحها ثورة 14 أذار 2005.
لقد آمن العماد عون بالأخوّة بين اللبنانيين وهو الذي سبق له وأرسل موفدين عنه من منفاه في فرنسا (1990-2005) إلى جميع الأفرقاء في لبنان وسوريا بهدف فتح صفحة جديدة تطوي صفحة الحروب وتهدم جدار الفصل القائم بينهم. وهكذا بَقِيَت الحواجز النفسيّة تفصل بين المسلمين من جهة والمسيحيّين من جهة أخرى حتّى أُعلنت وثيقة التفاهم بين العماد ميشال عون والسَّيِّد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وعُرِفت باسم وثيقة تفاهم مار ميخائيل، على اسم كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل حيث تمّ اللقاء في 6 شباط 2006.
المفارقة كانت أنّ توقيع الوثيقة حدث في اليوم التالي لاقتحام مئات الإسلاميّين المتطرّفين أحياءً من الأشرفيّة معتدين على كنائسها ومبانيها وممتلكاتها بالتخريب والنار والوعيد! أمّا تفاهم مار ميخائيل – ولم يكن ثمرة حوار دينيّ – فشابه، في جانب منه، عهد السلام الموقّع بين إبراهيم وأبي مالك قبل ألفَي عام من المسيح، مكرّسًا السلام والأخوَّة بين شريحتين كبيرتين كانتا متباعدتين في الدين والسِّياسة والعلاقات الاجتماعيَّة.
وجاءت في تمّوز 2006 حرب إسرائيل على لبنان التي هجرت حوالي مليون مواطن شيعيّ من جنوب لبنان، فتمّ اختبار أصالة التفاهم وصدقه بين الطرفين، فقام مناصرو التَّيَّار الوطني الحرّ من المسيحيّين وفتحوا بيوتهم للمهجَّرين وأسعفوهم تلبية لنداء العماد عون. وللمرَّة الأولى، أُعطِيَ المسيحيّون من جميع الطوائف فرصة، وفي شكل واسع النطاق، لإظهار المحبَّة العمليَّة لشركائهم في الوطن نازعين الخوف والتشكيك المتبادَلين لتحلّ محلَّهما أخلاقيّات "السامريّ الصالح" الَّتي أنتجت أخوَّة حقيقيّة ما زالت مستمرّة.
وكانت ورقة إعلان النيّات بين التَّيَّار الوطنيّ الحرّ بقيادة العماد عون من جهة وحزب القوّات اللبنانيّة بقيادة الدّكتور سمير جعجع من جهة أخرى، تُوقّع بتاريخ 2 حزيران 2015 واضعة حدًّا لخلاف ولصراع عسكريّ ودمويّ وسياسيّ ولفرقة دامت حوالي ثلاثة عقود. قام الزعيمان السياسيّان باستعراض مسبّبات خلافهما وتأثيره في المجتمع المسيحيّ واللبنانيّ والسبل الآيلة إلى إنهائه، خلال أشهر من التفاوض. والجدير ذكره أنّ التشكيك في الوصول إلى نتائج إيجابيّة كان يرافق المحادثات بين الفريقين، ولكن وبتوقيع الوثيقة عَلَت نسبة الانفراج في المجتمع لتتجاوز التسعين في المئة. هنا قد يفيد المسيحيّين اللبنانيّين أن يتذكّروا ما قاله مارتن لوثر كينغ: "يجب أن نتعلّم أن نعيش معًا كالإخوة، لئلا نموت معًا كالبلهاء".
بعد هذا العرض لقادة معاصرين تبنّوا نموذج السامريّ الصالح في نجاح، تبقى الأسئلة الأساسيّة التالية مطروحة دائمًا: هل نتمنَّى بناء علاقات القربى مع الآخرين ونعمل من أجلها في إخلاص، أم نستسلم للتعصّب ولمشاعر الكراهيّة إلى ما لا نهاية؟ هل نُغيّر نهج السامريّ الصالح في حال قوبل بالاضّطهاد والرفض ونكث العهود وعدم التقدير من الَّذين نُبادر نحوهم؟ هل نتغلّب على فلسفة الإقصاء بطيبة خاطر أو ننتظر وقوع كارثة وطنيّة أو إنسانيّة كبرى تلزمنا الحوار والتضامن الأخويّ؟
الخلاصة: التعصّب ضدّ الآخر مُعيب ومرفوض وخَطِر
وإذا كان التعصّب على أنواعه اليوم مُعيبًا للبشر، وأُدرِجت الـ Xenophobia مع العنصريّة والتعصّب على لائحة الجرائم المُدانة في إعلان فينّا الَّذي تبنّاه المؤتمر العالميّ لحقوق الإنسان في 25 حزيران 1993، إلاّ أنّ هذه المقرّرات وحدها لا تكفي لقيام مجتمع تعدّدي مثاليّ، يقبل فيه الناس بعضهم بعضًا كإخوة. يحتاج جميع الناس إلى تبنّي قصّة السامريّ الصالح والعمل بمبادئها لبناء الأخوّة بينهم. ورجوع المؤمن الحقيقيّ، أفي موضع القرار كان أو مواطنًا عاديًّا، إلى تعليم يسوع وتمسّكه به، يُساعدانه على أن يكون صانع سلام ومصالحة وأخوّة حقيقيّة فيحظى ببركة الرّبّ القائل: "طوبى لصانعي السلام، لأنّهم أبناء الله يُدعون"[8].
ومن الأهمّيّة بمكان أن نذكر التعاليم التالية عن الرّبّ يسوع الَّذي دان الاستعلاء القوميّ والدينيّ والاجتماعيّ بين الناس[9]، ولم يُبرّر احتقار الآخرين[10]. وقد شجّع معاملة الغريب كالأخ، "أحبّ قريبك كنفسك"، فهذه أعظم الوصايا[11].
والأهمّ في تعليم يسوع هو أن نُعامل الآخرين كما نُحبّ أن يُعاملونا، فهذه هي القاعدة الذهبيّة الَّتي تضمن العدالة والمساواة على كلّ الصعد: "وكما تُريدون أن يفعلَ الناس بكم، إفعلوا أنتُم أيضًا بهم هكذا"[12]. ستبقى هذه المبادئ الإنسانيّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة الَّتي جسَّدها يسوع في قصَّة السامريّ الصالح صالحة للتطبيق ومُفيدة لمعالجة مشاكل المجتمع التعدّديّ في كلّ مكان وزمان.
إنّ ما سبق أن اطلعنا عليه عن أبينا إبراهيم وملك الفلسطينيّين أبي مالك اللّذين تمكّنا من وأد التوتّر والفِتَن بينهما بعقدهما ميثاق سلام كرَّسا فيه السلام والعيش المشترك بينهما وبين نسلهما من بعدهما[13]، وما عمله إبراهيم، إضافة إلى ما أتاه السامريّ الصالح، تشكّل جميعًا تحدّيًا إيجابيًّا لجميع الناس، بخاصّة لأبناء الإيمان الإبراهيميّ، ليتصرّفوا بأخوَّة مع جميع الَّذين يختلفون معهم في الرأي والموقف والانتماء. أمّا وأنَّ الأرض تعاني اليوم انفلات شياطين التعصُّب والحروب الدينيّة وغيرها، فهي تحتاج إلى نعمة سماويّة تشفيها من أمراضها المستعصية.
[1] سفر التكوين (تك 21: 24).
[2] إنجيل متّى (22:34 – 40)، إنجيل مرقس (12: 28 – 34)، إنجيل لوقا (10: 25 – 37).
[3] إنجيل متّى (5: 43 – 45).
[4] إنجيل متّى (23: 23).
[5] مجموعة مؤلفين من أديب إسحق والأفغاني... إلى ناصيف نصار، أضواء على التعصّب، بيروت: مكتبة الفكر الاجتماعي، دار أمواج، 1993، ص 15.
[7] المرجع السابق، ص، 195-196.
[8] إنجيل متّى (5: 9).
[9] إنجيل لوقا (16: 15).
[10] إنجيل لوقا (18: 9).
[11] إنجيل متّى (5: 43 – 48؛ 19: 19؛ 22: 37 – 39).
[12] إنجيل لوقا (6: 13).
[13] سفر التكوين (تك 21).