دور المؤسّسات الأهليّة والمدنيّة والشبابيّة
الوزير السابق البروفّسور جورج القرم
أُقنعت بأن أساهم في هذه الندوة الجليلة، لأنّ مواقفي معروفة إلى حدّ بأنّه ليس الأديان معنيّة بالصراعات، السياسيّة الدوليّة، وأنّ هناك توظيفًا للأديان في النزاعات الحديثة، خاصّة في الشرق الأوسط، وأنا أعتقد كلبناني وكعربيّ، أنّه نحن نعيش في لبنان منذ أكثر من 13 سنة، بنفس الجبال ونفس الشواطئ بهذه التعدّديّة الجميلة، داخل المسيحيّة وداخل الإسلام، فيه ليست تعدديّة فقط من جهة إسلام ومسيحيّة.
وأنا كبرت وتربّيت في زمن كان التركيز على وحدة اللبنانيّين، أكثر من التركيز على إدارة التعدديّة، يعني أنا ابن المدرسة الشهابيّة ما أزال أتذكّر الجامعة اللبنانيّة في أوج قدراتها كانت تنافس الجامعة اليسوعيّة والجامعة الأميركيّة وخاصّة في العلوم الدقيقة (الرياضيات/ الفيزياء/ الكيمياء)، وحتّى الثانويّات الرسميّة كانت بمستوى عال للغاية، وكانت كلّ هذه المؤسّسات تجمع اللبنانيّين ببعضهم من كلّ الطوائف.
أتت الحرب الشعواء من العام 1975 إلى العام 1990 ولا نزال نعاني من الشروخات السكّانيّة التي حصلت، لأنّ الفرز السكّاني الذي حصل أثناء الحرب، فالتخالط بين أبناء الطوائف بات أقل، من لبنان ما قبل الحرب، أصبح هناك مناطق متجانسة طائفيًّا ومذهبيًّا، بينما في الماضي كانت قليلة، كانت القاعدة أنّ المناطق مشتركة بين الطوائف العديدة، والاستثناء أن تكون المناطق من لون مذهبيّ أو طائفيّ واحد، فهذا عقّد الأمور، وبتنا ندخل في حوارات، أنا أقول دائمًا أنّنا ندخل في حوار بيننا نحن اللبنانيّين عن العيش المشترك، وإلى حدّ ما تزعجني الفكرة، وسأستغلّ هذه الفرصة التي أعطيت لي لأتكلّم عن بعض التجارب الرائدة في موضوع تخالط العنصر الشابّ فيما بينه، وسأتكلّم أيضًا عن أهمّيّة الفن كعنصر وحدة بين اللبنانيّين لأنّه لا فرق في المواهب بين الطوائف، وأتذكّر لسوء الحظ، وهذا يعطيكم فكرة عن تشويش العقل الذي يمكن أن يحصل، منذ حوالي 12 عامًا أقيم في باريس معرض كبير للفنّانين اللبنانيّين، وكان لي الشرف أن أرافق المدام ميتران، بصفتي ابن رسام مشهور، لأتجوّل معها في المعرض، وفجأة تسألني مدام ميتران إذا كان هناك إمكانيّة أن نعرف إذا كان هناك فروقات في الرسم بين المسيحيّين والمسلمين، وأرادت منّي أن أرشدها على اللوحات الإسلاميّة وعلى اللوحات المسيحيّة، فذهلت، وهذا يعني أنّ هناك امرأة مثقّفة، لديها تشويش عقليّ في أعلى الدرجات، في هذه الأمور.
سأبدأ أنا ببعض التجارب في مرحلة بعد الحرب، تجارب رائدة في موضوع تخالط العنصر الشبابي بعد الحرب، يجب أن أذكر التجربة الناجحة للغاية التي قام بها الأب مارون عطا الله، في مؤتمرات "انتظارات الشباب"، والتي تمّت في أنطلياس، في العامين 1992 و1993، والحرب لا زالت مشتعلة، وإذ نجد الشباب من كلّ المناطق اللبنانيّة، ومن كلّ الأهواء السياسيّة تحاوروا بأرقى الأساليب فيما بينهم، وكان لي الشرف والفرصة أن أتحدّث للعنصر الشابّ وكان العنصر الشابّ منفتحًا للغاية يحب أن يسمع وجهات النظر المختلفة بجوّ صفاء ذهنّي أعجبني للغاية. هذا العمل تمّ تكملته من قبل "الحركة الثقافيّة في أنطلياس" عبر معرض الكتاب الذي أقيم في أنطلياس، وشارك فيه كتّاب من كلّ الطوائف.
تجربة أخرى أثّرت فيّ وأنا ما زلت شابًّا، هي تجربة "الحركة الاجتماعيّة"، الله يرحم المطران "غريغوار حدّاد"، ومشاركتي في الحركة الاجتماعيّة سمحت لي أن أتنوّع في احتكاكي بأبناء الطوائف الأخرى، وأتذكّر أوّل زيارة قمت بها للضاحية الجنوبيّة، لأحاضر هناك في الضاحية، وأعتقد أنّه لدينا اليوم مؤسّسة رائدة في هذا المجال هي "مؤسّسة عامل"، للدكتور كامل مهنّا، والتي أرى فيها سليلة الحركة الاجتماعيّة والعمل الذي يقوم به الدّكتور مهنّا عمل رائع، من كلّ النواحي، لأنّه فيه أيضًا اهتمام باللاجئين من كلّ الجنسيّات، ومهما كانت ديانتهم، وتمّ ترشيح مؤسّسة عامل لنيل جائزة نوبل للسلام في العام الماضي، وأنا رشّحتها، فهذه المؤسّسات رائدة، التي هي عابرة للطوائف، تعتبر أيّ إنسان على الأرض اللبنانيّ إنسانًا كامل الإنسانيّة، لا تنظر هل هو شيعي أم هل هو ماروني أم هل سنّي، هل هو سوري أم فلسطيني، يتعاملون معهم على قدم المساواة بشكل رائع.
أنا أعتقد أنّنا نواجه ضخامة المؤسّسات، شكلها مدني وأهلي وإنّما هي تابعة للطوائف عمليًّا، فالمؤسّسات المدنيّة الطابع مئة بالمئة ما زالت قليلة، لا أريد أن أنشر جوًّا من التنافس بين مؤسّسات اجتماعيّة تربويّة اقتصاديّة تابعة للطوائف، إنّ هذا واقع، مثل ما لدينا واقع الفرز السكّانيّ الذي حصل أثناء الحرب، والذي جعل مناطق الاختلاط تتضاءل.
أنا أعتقد أنّ تشجيع النوادي والمنتديات الرياضيّة مهمّة للغاية، ويجب أيضًا أن نعمل لكي نتجنّب ما يحصل بعض الأحيان في مباريات بين نوادٍ تنتمي إلى طوائف من أعمال شغب أو من عقليّة غير متسامحة ومنفتحة، يجب أن نعمل بهذا الخصوص، لأنّه لا يجوز أن تأخذ الأنشطة الرياضيّة طابعًا مذهبيًّا وطائفيًّا، أنا أشجّع المبادرات حول الفنّ، الفنّ لا دين له، صحيح أنّه من الممكن أن يستوحى من الدين بعض أساليب الرسم، أو الأساليب الموسيقيّة، إنّما الحياة الفنّيّة لا طائفيّة فيها، فأعتقد أنّه يجب أن نشجّع مؤسّسات العمل الأهلي التي لديها الطابع الفنّي، والثقافيّ في طبيعة الحال.
ويجب أن نشجّع العنصر الشابّ أن يتوجّه إلى القراءة إلى معرفة تاريخ بلده، أنا أذهل كلّما أعلم في الجامعة اليسوعيّة أو في الجامعة الأميركيّة، وأنا أدرّس مادّة "الفكر العربي واللبناني المعاصر"، أجد أنّ هناك جهلاً من قبل الشباب بغنى تراثه الفكريّ، وأنا أعتقد أنّه يجب أن نستدرك هذه الفجوة الكبيرة جدًّا لأنّ هويّة عنصر الشابّ اللبناني يجب أن تمتلئ بالروح اللبنانيّة الصحيحة، ويجب أن نعطيه هويّة لبنانيّة، والهويّة اللبنانيّة لا تنكر الهويّة العربيّة ولا تنكر ما يأتينا من علوم من الدول الأكثر تقدّمًا، إنّما الشابّ اللبناني في معظم الأحيان متروك، لا يُهتمّ به بالشكل الصحيح، في المؤسّسات الأهليّة، وهنا أودّ أن أذكر شخصيّات لعبت في الماضي دورًا كبيرًا جدًّا لتقارب اللبنانيّين مع بعضهم، لإنشاء ثقافة لبنانيّة موحّدة، كيف لا أذكر على سبيل المثال الدّكتور حسن صعب (الله يرحمه) الذي أسّس نادي الدراسات الإنمائيّة، وقام بعمل جليل على مدى عقود في لبنان، لا أحد يذكره. الشيخ عبد الله العلايلي من يذكره، الأب يواكيم مبارك من يذكره، هؤلاء من جبابرة العقل والثقافة والمنطق في لبنان، لا أعتقد أنّ العنصر الشابّ يأخذ ويشرب من فكرهم النيّر، وأذكر خليل رامز سركيس، أنا أتذّكر ميشال شيحا، من يذكره إلاّ في الاستعمال السياسيّ وليس الفكريّ.
ويجب أن نتحدّث عن مؤسّسات أهليّة تفاعليّة، فكرة الحوار الاستراتيجي، نحن أبناء الجبل والشاطئ منذ عصور عديدة، أنا أقول تفاعل، نعيد النسيج الاجتماعّي المشترك، نعيد الحياة المشتركة، العبارة التي وردت في وثيقة الطائف جميلة، العيش المشترك، لا ننسى أنّ الحرب انتهت من دون محاسبة أحد، ولم نعمل فعليًّا على إعادة اللحمة للمجتمع اللبناني.
نحتاج التفاعل وليس الحوار، فنحن أبناء الوطن الواحد وخاصّة إذا أخذنا الشابّ منذ نشأته، وأعطيناه ثقافة التفاعل، ثقافة معرفة البلد، معرفة تاريخه الثقافيّ والعقليّ والفنّي، حينها الشابّ من كلّ الطوائف يتحمّس، هناك حياة فنّيّة كبيرة في لبنان، مثل الرسم، كم يعني هذا الأمر للعنصر الشابّ، وهذه حقيقة مرّة، فالشابّ مشدوه بهاتفه، يقضي معظم أوقاته على الهاتف، أنا أعتقد أنّه يجب أن نعود أيضًا إلى روح العهد الشهابي، عهد الازدهار الكبير في لبنان، وفؤاد شهاب له عبارة "البوتقة الواحدة"، انصهار اللبنانيّين في بوتقة واحدة. تأتينا التيّارات الفكريّة من الخارج، ثقافة التعايش، ثقافة الحوار، أنا لا أرى ذلك بين أبناء المنطقة الواحدة، مع احترام كلّ الخصوصيّات، وإنّما يجب أن يكون التخالط تخالطًا إيجابيًّا، نحتاج تجدّدًا للبيئة الثقافيّة والفنّيّة والرياضيّة، وهذه الأمور كلّها مهمّة للغاية، وأنا أرجو أن لا ننزلق إلى ما يقال عن حوار الحضارات، وحوار الأديان، لا أحد يودّ أن يصبح المسلم مسيحيًّا، والمسيحي مسلمًا، هناك قضايا سياسيّة تتناقش سياسيًّا، تناقش دنيويًّا، وحتّى النزاعات في المنطقة التي يظهرونها في الإعلام أنّها صراع بين الشيعة والسنّة، هي نزاعات بين إيران والسعوديّة، ووضعوا بعض التعابير التي تدخل في ثقافتنا وكتبنا ومنشوراتنا، كلّ النزاعات في العالم هي نزاعات على القوّة والهيمنة والنفوذ، لا يوجد صراعات دينيّة، بل العكس، بنظري أنّه في كلّ المنتديات التي لها علاقة بالعنصر الشابّ، يجب أن نعلمهم أنّ هناك توظيفًا للديانات، توظيفًا للمذاهب الدينيّة في الصراعات الدنيويّة، وليس صدام الحضارات، ثقافة صدام الحضارات تزعجني جدًّا، وكتبت كتبًا لأدحض هذه النظريّة، العنصريّة الطابع، وعندما نقول نحن مع حوار الحضارات، نعزّز نظريّة صراع الحضارات، فالصراعات في العالم ليست صراعات حضاريّة ودينيّة، بل هي صراعات على الهيمنة، ونتيجة أطماع رؤساء الدول والأحزاب السياسيّة. هذه الروحيّة يجب أن تعطى للشابّ اللبناني.
أحيانًا يبدو لي أنّنا نعيش بطريقة سورياليّة، نعيش قرونًا وقرونًا، ونتكلّم عن حوار مسلم مسيحيّ في لبنان، لا أفهم ذلك، بكلّ صراحة، أنتم عندما وجّهتم لي الدعوة كنتم تعرفون عن ماذا سأتكلّم، أنا لا أريد أن أقنع المواطن المسلم أن يصبح مسيحيًّا ولا المواطن المسيحي أن يصبح مسلمًا، يجب أن نعلّم الشابّ أن لا نقوم بتوظيف الدين في القضايا السياسيّة والدنيويّة، خصوصًا في السياسات الداخليّة، وفي أدبيّات أتتنا من الدول الغربيّة، وخصوصًا التي يوجد فيها مذاهب مختلفة مثل بلجيكا وكندا، وهي تبدو كأنّها مشكلة عظيمة أن يعيش أناس من ديانات مختلفة، ولون مختلف، وحتّى بموضوع الرجل والمرأة. نحن أحرار في لبنان، نحن ازدهرنا بهذه الطوائف لأنّنا كنّا حريصين على حرّيتنا، حرّيّة طوائفنا، حرّيّة الإنسان في لبنان، ونحن نرى كميّة المشاكل التي نتخبّط فيها، من الفساد المستشري من فشل الدولة، من الفروقات الاجتماعيّة التي أصبحت مذهلة، إلى آخر مشاكل لبنان، هل بالفعل يجب أن نكرّس وقتًا لكي نتحدّث عن حوار الحضارات، أتأسّف من منظّمي المؤتمر، عندنا مشاكل (كهرباء/ مياه/ نفايات/ إنصاف اجتماعيّ) هذه المشاكل التي يجب على المجتمع المدنيّ والشباب بشكل خاصّ، أن يهبّوا لها، ومسؤوليّة الكبار أن يحثّوا عنصر الشباب، مستقبل لبنان بعنصر الشباب، يجب أن يتركّز كلّ جهدنا الى إعطاء العنصر الشابّ عبر المؤسّسات الأهليّة المدنيّة نعطيه هويّة هادئة غير قلقة، ونبعد الأجواء السياسيّة الملبّدة، والأجواء الإقليميّة والدوليّة عنّا، الحمد لله أنّ لبنان ما زال سليمًا بأراضيه، وطردنا العدوّ الإسرائيليّ، وصار لدينا قوّة ردع، فأتى زمن الانصهار، وهي كلمة غير محبّبة بسبب تضخيم التعدّديّة.
العالم النفسانيّ سيغموند فرويد، حكى في أحد مؤلّفاته عن نرجسيّة الفروقات البسيطة، وكان يتكلّم عن النرجسيّة الألمانيّة مقابل الفرنسيّة مقابل الإيطاليّة، أنا أخاف أنّنا ننمّي النرجسّيات الطائفيّة، بوعي أو بدون وعي، ويجب أن نعطي العنصر الشابّ المناعة حتّى لا يقع في النرجسيّة الطائفيّة والمذهبيّة
وشكرًا