دور المؤسّسات الإعلاميّة في تحفيز ثقافة الحوار
الدّكتور إبراهيم الموسوي
ليس تعدّيًا في تعميم وتعزيز - وبكلمة أكثر تواضعًا - تحفيز ثقافة الحوار" القول إنّ المؤسّسات الإعلاميّة تحوّلت من كونها مؤسّسات إعلاميّة سلطويّة تفتح حوارًا يديره ما يسمّى في فنّ الحوار " مجمع " الحكماء" أو النخبة، في إطار ممارسة وظائف الضبط التعليميّ والثقافّي الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، وصولاً إلى الإعلام الشبكي الشعبي " المتمرّد"، إلى مؤسّسات تعليميّة تفاعليّة تؤثّر في محيطها وتتأثّر به، بحيث أصبحت الجماهير تشارك في صنع "المحتوى الإعلامي" بنفسها بعيدًا عن الضبط السلطويّ، من خلال ما أتاحته "منصّات" الإعلام الجديد وإعلام التواصل الاجتماعيّ من منصّات (فايسبوك، تويتر، واتسآب، تلغرام، انستغرام، الخ)، والذي أصبح فاعلاً إعلاميًّا جديدًا، وطرفًا جديدًا في حوار ينحو باتّجاه المستوى الشعبيّ المنتج للفوضى والتمرّد والثورات والاحتجاجات أحيانًا، حيث تنتشر كمّيّة بيانات وحوارات وعمليّات اتّصال فرديّ وجماعّي ضخمة وهائلة تنتج يوميًّا على مستوى الكرة الأرضيّة من خلال 1.3 مليار مستخدم لمواقع ومنصّات التواصل الاجتماعيّ وشبكات الإنترنت وفق إحصاءات وأرقام الاتّحاد الدوليّ للاتّصالات ITU، وأنّ حوالي 4. 1 مليار سيستخدمون الإنترنت بحلول العام 2020، وأصبحت هذه البيانات ثروة للشركات العابرة للدول تتلاعب وتستثمر فيها اقتصاديًّا وتجاريًّا، بما دعا أحد الخبراء لتسميتها " حقول بترول العصر الحديث".
وهو ما طرح سؤالاً إشكاليًّا عن فعاليّة دور المؤسّسات الإعلاميّة التقليديّة والمؤسّسات التعليميّة من جامعات وأروقة ومنتديات ثقافيّة ومراكز الأبحاث في الحوار والنقاش العام، بعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تطوّر تكنولوجي وتكاثر في المنصّات الإعلاميّة وحجم البيانات والمعلومات ووسائل الاتّصال الاجتماعي وبالضرورة الاتّصال السياسيّ والثقافيّ، وهي منصّات يرتادها ويستخدمها في الحوار والنقاش اليوم أكثر من نصف سكّان العالم، بما يفوق عدديًّا من يرتادون الجامعات والمنتديات ومراكز الأبحاث النخبويّة للحوار الثقافي والسياسي.
أنطلق في هذه الورقة البحثيّة من فرضيّة مبرهنة هي أقرب ما تكون إلى مسلّمة، يتبنّاها الجميع، في حقول العلم والمعرفة الأكاديميّة، وهي أنّ للمؤسّسات الإعلاميّة دورًا ووظيفة في تعميم ثقافة الحوار والنقاش العام في المجتمعات التعدّديّة، بل تذهب الورقة إلى أبعد من ذلك بأنّ دور هذه المؤسّسات لا يقتصر فقط على تعميم وترويج هذه الثقافة، بل تتطلّع بشكل حيويّ إلى تعزيز وتعميق هذه الثقافة ومأسستها، ولن نقع في المغالاة بالقول بأنّ لها دورًا في تأصيلها، لأنّ ذلك يتأتّى من مصادر وأماكن أخرى، لكن ذلك تعرّض لعامل تغيير طرأ في ضوء تبدّلات ومتغيّرات عالم الإعلام نفسه.
لكن سرعان ما يحيلنا السؤال إلى إشكاليّة فرعيّة قد تكون مساوية أو أكثر أهمّيّة وعمقًا على هذا الصعيد، والسؤال - الإشكاليّة - ليس حول ما إذا كانت المؤسّسات الإعلاميّة قادرة أو راغبة أو مؤهّلة في القيام بدور ما في تعميم وتعزيز "ثقافة الحوار"، السؤال الإشكالي هو حول ما اذا كان للإعلام الذي دخل اقتصاد السوق له دافع ومصلحة ونيّة أصيلة في "الاستثمار" في مجال المسؤوليّة الاجتماعيّة والوطنيّة والإنسانيّة التي تتطلّبها اشتراطات "ثقافة الحوار" وأخلاقيّاتها ومنهجيّاتها غير المربحة تجاريًّا وسياسيًّا للاعبين وصنّاع القرارات الإعلاميّة الممسكين بتلابيب وسائل الإعلام عن طريق التمويل وبكلّ أسف.
وبعبارة أخرى، كيف يمكن من وجهة نظر قطاع الإعلام الذي دخل السوق الرأسمالي من بابه الواسع تجاوز إشكاليّة " التحرّر" لقواعد وضغوطات واقتصاديّات " الصناعة الإعلاميّة" التي تضعها الجهات السياسيّة والاقتصاديّة المموّلة لهذه الصناعة وفق أجندتها الخاصّة؟
لن أستعجل الإجابة عن هذه الأسئلة والإشكالات، بنعم أو لا، فهذا ما ستتكفّل به هذه الورقة البحثيّة، من خلال عرض معلومات وأمثلة عمليّة، لأنّ هناك جزءًا من التجارب العمليّة، يفرض التوقّف عند جملة من الأمور الأساسيّة التي تتّصل بهذه المؤسّسات الإعلاميّة وبرامج وضوابط عملها والمحدّدات العامّة لطريقة إنتاج المادّة الإعلاميّة وهنا تطرح أسئلة أساسيّة حول الحوار الذي تريده هذه المؤسّسات ومن هم أطراف هذا الحوار (ماذا عن الاستثمار والمستثمرين في المؤسّسات الإعلاميّة / هويّتها / تبعيّتها / تمويلها / رسالتها / أهدافها / سياستها التحريريّة / ضوابط عملها / الخ،) كلّ هذه الأمور لها الدور الفاعل في جعل المؤسّسة الإعلاميّة المعنيّة أو المعينة، ما هي عليه.
الفصل الأوّل – ثبات مفهوم الحوار وتغيّر مفهوم الإعلام بين القديم والجديد
أوّلاً ـ الحوار لغة واصطلاحًا ودورًا وظيفيًّا من خلال وسائل الإعلام:
يحمل الحوار كمفهوم ومصطلح وأهداف اختلافات دلاليّة وتفسيريّة، على المستوى اللغويّ، يعكس الحوار معاني كثيرة وإن تساوت في الإجمال على سياق واحد.
الحوار في اللغة من حاور يحاور محاورة، وقد ورد معنى " حور " في لسان العرب لابن منظور الحَوْرُ الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء حارَ إِلى الشيء وعنه حَوْرًا ومَحارًا ومَحارَةً وحُؤُورًا رجع عنه وإِليه وقول العجاج في بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ أَراد في بئر لا حُؤُورٍ فأَسكن الواو الأُولى وحذفها لسكونها وسكون الثانيّة، وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام.
والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة. وقد حاوره. والمَحُورَةُ: من المُحاوَرةِ مصدر كالمَشُورَةِ من المشاورة كالمَحْوَرَةِ.
أمّا الحوار في الاصطلاح اللغويّ فهو نشاط عقليّ ولفظيّ يقدّم المتحاورون الأدلّة والحجج والبراهين التي تبرّر وجهات نظرهم بحرّيّة تامّة من أجل الوصول إلى حلّ لمشكلة أو توضيح لقضيّة ما، ويكون الحوار بهذا المعنى مرادفًا للمحاجّة والمناظرة والمناقشة والمباحثة والتعبير.
وقد يرتبط الحوار بالمحاورة وهي المجاوبة، أو مراجعة النطق والكلام في المخاطبة والتحاور والتجاوب. لذلك " كان لا بدّ في الحوار من وجود طرفين: متكلِّم ومخاطب يتبادلان الدور.
فحينًا يكون المتكلّم مرسلاً للكلام وحينًا مستقبلا له. أي يكون المتكلّم مخاطبًا حين يصمت ليسمع كلام نظيره. وهكذا يدور الكلام بين طرفين في إطار حلقة تبادليّة يكشف كلّ منهما عمّا لديه من أفكار. فيتشكَّل جرّاء ذلك ما يمكن أن نسمّيه بالخطاب المشترك الذي تستولده القضيّة المتحاوَر بصددها. فالحوار، بهذا المعنى، هو تبادل أفكار بين فريقين أو أكثر في إطار موضوع ما، حول قضيّة ما، بغية الاتفاق على صيغة حلّ أو اتّفاق أو تسوية في شأن القضيّة التي هي مدار الحوار".
ويرى البعض أنّ " الحوار حاجة بحدّ ذاتها وضرورة للاجتماع البشريّ" ولا بدّ أن يقوم الحوار بين مختلفين متعدّدين، فأمّا أن نؤمن بالحوار، وهذا يستبطن اعترافًا بالتعدّد والاختلاف، وإمّا نزعم بأنّنا متطابقون، فلا نكون بحاجة إلى الحوار، والاختلاف ليس حالة شاذّة، بل هو قاعدة تكوينيّة شاملة ومتحقّقة بداهة في أيّ اجتماع إنسانيّ، وأنّ السعي إلى إلغائه بدعوى التوحّد والمطابقة، هو سعي عقيم ينمّ عن سوء تقدير في أحسن الأحوال".
ومن هذا المنطلق تشكّل وسائل الإعلام بوصفها وسائطًا بين متحاورين، وهي إحدى محدّدات الحوار، من خلال تحديد قناة وشكل وصيغة الحوار، سواء من خلال المنصّات التقليديّة لإنتاج البرامج الحواريّة ونشرات الأخبار عن الأحداث ومواقف الأطراف المتخاصمة والمتصارعة حول قضايا وملفّات ومواقف محدّدة، من خلال البثّ عبر الشاشات أو الإذاعات، ويشار بالتحديد إلى برامج الكلام والحوار السياسيّ والثقافّي(Talk show)، وأيضًا على مستوى التحكّم بصناعة وتوجيه " المحتوى والمضمون الحواري" من خلال نوع الإعداد والأسئلة والإشكالات الموجّهة للمتحاورين، وتحديد الصفة التمثيليّة عبر نوعيّة الضيوف (المتحاورين) والمؤثّرات الإعلاميّة.
المحدّد الثاني للحوار هو شكل الحوار Format، فقد مرّت النظريّة الإعلاميّة لوظيفة الوسيلة الإعلاميّة على مستوى المفهوم بمراحل انتقاليّة، ابتداءً من نظريّة مارشال مكلوهان في "الحتميّة التكنولوجيّة" لأدوات وتقنيّات الاتّصال ووظيفته الإعلاميّة، إلى رؤية ريجيس دوبريه لذاتيّة "الدور الوسائطي للميديا" في إطار نظريّة علم وسائل الإعلام - الميديولوجيا، وصولاً إلى الدور الوظيفي للمتلقّي المنتج لرسالة الاتصاليّة، وهو ما تختصره مقولة فرنسيس بال الشهيرة " وسائل الاتّصال تتّخذ قيمتها في حقل استخدامها، فالتقنيّة لا تفرض علينا شيئًا، فهي تقترح والإنسان يتدّبر الأمر أو يعيد تركيبها ".
المحدّد الثالث هو اتّجاه الحوار، فالإعلام التقليديّ كان يوجّه الحوار من أعلى إلى أسفل أي من النخب إلى الجماهير، وعلى العكس من ذلك، يتّجه الإعلام الجديد لشكل وصيغة الحوار من القاعدة والجمهور إلى السلطة والنخب وبات يعتمد على إنتاج محتوى مصدره من الجمهور، حتّى أصبحت وسائل التواصل الاجتماعيّ رافدا للإعلام المحترف وليس العكس، ويمّر عبر أشكال مختلفة من التعبير عن الذات والهويّة الجمعيّة التي تتّخذ طابع التعبير، وتتّخذ طابع التعبئة والتمرّد أحيانًا، وهي أشكال من الحوار التي تتقنها الشعوب والجماهير بصورة خاصّة، حيث تتضمّن رسائل عنيفة بما تتضمّنه من أنماط " العنف الرمزيّ "بالاستعارة من تعبير" بيير بورديو" صاحب نظريّة العنف الرمزي.
وفي هذا السياق، يرى غالبيّة خبراء الإعلام التقليدي أنّ دور المؤسّسات الإعلاميّة – على خلاف منصّات ومواقع التواصل الاجتماعيّ والإعلام الرقميّ الجديد – يقوم على "توفير معدّات لتشجيع الحوار من طرف السلطة السياسيّة والمجتمعيّة التي تملك الوسيلة الإعلاميّة، حيث أنّ وظيفة وسائل الإعلام في الحوار تقديم مجمع الحكماء Aeropaus الذي يقوم بأداء دور ترشيديّ للحوار وضابط وموجّه اجتماعيّ، وهي تقوم بدور الاتّصال الاجتماعيّ النخبويّ والتعبير عن الذات والهويّة في الإطار المنظوم والمضبوط مؤسّساتيًا".
وعلى النقيض من وسائل الإعلام التقليديّة التي تملكها الحكومات أو الشركات أو طبقات النخب الاقتصاديّة والسياسيّة، تقوم وسائل الإعلام الرقميّة أو وسائل الإعلام الجديد على الانتشار الشعبي، وتوفير المنصّات والوسائط بين يدي الجمهور قاطبة، ويقوم الدور الحواريّ على عمليّة صناعة " التعبير والتفاعل والتشارك والاطّلاع والتبادل والحوار المفتوح وغير المنظّم "، وهو يتّصف بحشد وتجميع " عدد ضخم من المستخدمين والمواطنين وخاصّة من طبقة وفئة الشباب - الجيل الجديد- على منصّات إعلاميّة تواصليّة واحدة مفتوحة للتفاعل والحوار التشاركي وتبادل الصور والبيانات والمعلومات وإبداء التعليقات والآراء والأفكار دون ظهور للشخصيّات والوجوه بالضرورة – إعلام وتواصل بلا وجوه حسب تعبير الخبراء – فهي مؤشّر على اتّجاهات الرأي العام وتوفّر فرصًا للمواطنين للاعتراض على سوء استخدام السلطة بعيدًا عن النخبويّة التقليديّة، وهي إعلام بلا حدود وهو ما يختلف عن الإعلام التقليدي الممسوك والمضبوط، حتّى بلغنا عصر رقمنة الديموقراطيّة، والانتقال من باراديغم الضبط إلى بارديغم الاستقطاب ".
ثانيًا ـ تطوّر تكنولوجيا وسائل الإعلام تهدّد فرص تحفيز " ثقافة الحوار "
وفّرت ثورة المعلومات والاتّصالات الحديثة فرصًا هائلة وواسعة لتعزيز ثقافة الحوار، وفي الوقت ذاته، زادت من تهديداتها لـ " ثقافة الحوار"، لجهة الإمكانيّات الكبرى للمنصّات الإعلاميّة التي وضعت بين أيدي الأفراد، في تسهيل أو تقويض الحوار بين الثقافات والجماعات المتعدّدة، على المستويّين الوطني والدولي، حيث فرضت وعيًا كونّيًا مترابطًا ومتداخلاً، أصبحت معه فكرة الانغلاق على الذات الاجتماعيّة والقوميّة والوطنيّة أمرًا مستحيلاً، كما حملت هذه المنصّات نفسها تهديدات مماثلة عبر تحوّل هذا الانفتاح إلى منصّات للصراع الاجتماعيّ بدل الحوار، خاصّة في ظّل كثافة نشر البيانات والمعلومات عبر وسائل الإعلام التي أصبحت بمثابة "بترول العصر الحديث" وفق تعبير أحد الخبراء.
فقد زادت الفرص والتهديدات بعد الانتقال من عصر الصحف والفضائيّات الأكثر انضباطًا في ممارسة المسؤوليّات الاجتماعيّة والقواعد المهنيّة، إلى عصر وسائل الإعلام الجديد وشبكات الإنترنت، ودخول العالم في العصرين الرقميّ والافتراضيّ بعد تجاوز الإعلام التقليدي، إعلام الصحف الورقيّة والإعلام الحكومي المضبوط، وإعلام شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ والفضاء السيبريّ، واندماج وسائل الإعلام عبر الانفوميديا.
فقد أتاحت شبكة الإنترنت للأفراد فرصة الاتّصال بسهولة مع أفراد ينتمون لثقافات ومجتمعات أخرى على الرغم من الحدود والحواجز بينهما. كما ساهمت التطوّرات التكنولوجيّة الحديثة في إقامة علاقة من خلال الهواتف المستقلّة والحواسيب الشخصيّة وغيرهما.
إلاّ أنّ هناك بعض المعوّقات المرتبطة بهذه الوسائل ومن بينها عدم انتشارها على نطاق واسع، ويركّز معظم مستخدمي الإنترنت في الدول الرأسماليّة الغربيّة وبعض بلدان آسيا وخاصّة الصين، في ظلّ سيادة النصوص باللغة الإنجليزيّة على شبكة الإنترنت. وهو ما من شأنه التأثير على عمليّات الحوار على المستويات الدوليّة.
ووفق التقرير الإحصائيّ الصادر عن الاتّحاد الدوليّ للاتّصالات الذي نشر مركز أنباء الأمم المتّحدة ملخّصًا عنه، أن 830 مليون شابّ حول العالم يستخدمون الإنترنت، بما يمثّل 80 بالمائة من الشباب في 104 بلدان، مشيرًا إلى زيادة كبيرة في اشتراكات الإنترنت تتقدّمها الصين.
وأوضح الاتّحاد أنّ الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا، يأتون في الطليعة، بينما يصل عدد مستخدمي الإنترنت في البلدان الأقل نموًّا، إلى 35 بالمائة لنفس الفئة العمريّة، مقابل 13 بالمائة في البلدان المتقدّمة و23 بالمائة عالميًّا. وفي الصين والهند وحدهما، يستخدم حوالي 320 مليون شابّ الإنترنت.
وقال "هولين تشاو"، الأمين العام للاتّحاد الدوليّ للاتّصالات، إنّ "هذه الحقائق تظهر أنّه يتّم تحقيق خطوات كبيرة في توسيع الوصول إلى الإنترنت، من خلال زيادة توافر الشبكات واسعة النطاق، كما أنّ الاتصال الرقمّي يلعب دورًا حاسمًا في تحسين حياة الناس، لأنّه يفتح الباب أمام معرفة غير مسبوقة وفرص عمل وفرص ماليّة للمليارات من الناس في جميع أنحاء العالم".
كما تلعب الجهات الحكوميّة للدول الغربيّة وخاصّة الإدارة الأميركيّة دورًا متزايدًا في السيطرة على عمليّات الاتّصال والحوار من خلال سيطرتها على المواقع والمنصّات الإعلاميّة التي توفّرها وسائل التواصل الاجتماعيّ، وفق ما كشفه عدد من الخبراء الغربيّين.
ومن جهة أخرى تتولّى الحكومات والجهات المهيمنة على العالم، وخاصّة الإدارة الأميركيّة عن برامج لتمويل الصحف والفضائيّات ومواقع الإنتنرت ووسائل التواصل الاجتماعّي والإعلاميّين والصحفيّين في إطار حملات للتأثير والنفوذ القوّة الناعمة لتشويه صورة خصومها بشتّى الطرق بدلاً من الحوار، وفق ما كشفه السفير الأميركيّ السابق جيفري فيلتمان في شهادته أمام الكونغرس الأميركي عن إنفاق حوالي نصف مليار دولار عبر استراتيجيّة " إضعاف جاذبيّة حزب الله أمام الرأي العام والشباب اللبناني".
وفي هذا الضوء أصبح الإعلام سلاحًا ذا حدّين؛ فقد يعزّز الحوار وقد يؤجّج الصراع.
فما يعزّز ثقافة الحوار هو ما يلي:
- التغطية الإعلاميّة لكلّ ما يخدم الحوار والتعارف بين الشعوب (مثل اللقاءات والمصنّفات والأنشطة الكثيرة التي تجري في مختلف أنحاء العالم) وغضّ الطرف عمّا يباعد بينها؛
- التعريف بالثقافات وبعطاءاتها بدلاً من تجاهلها وإنكارها.
- تغيير الصور النمطيّة السلبيّة بإظهار محاسن الشعوب وثقافاتها وتاريخها.
- إجراء محاورات في مختلف وسائط الإعلام بين ممثّلي الثقافات المتنوّعة ممّن عُرف عنهم الحكمة في الحوار وليس العكس، كما يجري في بعض البلدان حيث يدعون من تعوزهم الحكمة فيكرسون لدى المتلقّي الصور السلبيّة عن الثقافات المعنيّة.
- وممّا يؤجّج " ثقافة الصراع" بدلاً من الحوار هو بعض ما يأتي:
- تكريس الصور النمطيّة السلبيّة للآخر.
- استدعاء الذاكرة التاريخيّة الجَمْعيّة السلبيّة ضدّ الآخر.
- السكوت عمّا يقارب بين الشعوب.
- التركيز على ما يفرّق بدل ما يجمع.
- الاستفزاز والتغطية الإعلاميّة لكلّ حدث مستفزّ مهما صغُر شأنه، بل وتضخيمه في غالب الأحيان.
وممّا سبق يتّضح أنّ الإعلام – بوسائله التقليديّة والجديدة – قد يعزّز الحوار مع الآخر في المجتمع أو يهدّده من خلال المعالجة الإعلاميّة " للواقع" و" للأحداث" في المجتمع، أي من خلال عمليّات بناء الواقع" من منظور القائمين على الوسائل الإعلاميّة.
في هذا السياق، يختلف الباحثون حول مدى قدرة وسائل الاتّصال على تفعيل الحوار من عدمه، خاصّة مع استخدام الاتّصال من قبل الأقوى لإخضاع الأضعف. حيث تسهم الوسائل – على المستوى الدوليّ – في نشر أطر مسبقة بين الأطراف الفاعلة وترسيخ صور نمطيّة سلبيّة للآخر تنطلق من فوقيّة الغرب ونظرته الدونيّة للثقافات الأخرى، هذا إن لم نقل عدم اعترافه بها.
على المستوى المحليّ أو الإقليميّ، كما قد تحقّق وسائل الإعلام التفاهم بين الجماعات على مستوى الثقافة الواحدة أو الثقافات المتعدّدة، لكنّها في بعض الحالات يمكن أن تدعم الصدام بينهما. فمن خلال تقديمها – وبصورة غير محايدة – لأحداث مرتبطة بجماعات ثقافيّة أو لغويّة أو دينيّة، فإنّها تقوّي صورًا ذهنيّة تصنيفيّة Image Categorization حيث يتمّ تبعًا لها تصنيف الأفراد وفقًا للجماعات التي ينتمون إليها، ممّا ينمّي روح المقاومة والعداء تجاه الآخر. وهذه العمليّة من شأنها أن تقود إلى صدامات عنيفة بين الأفراد الذين ينتمون إلى هويّات مختلفة داخل الثقافة الواحدة. وتحت هذه الظروف يصبح الحوار مستحيلاً.
وتثار – في سياق الحديث عن الإعلام والحوار بين الشعوب والثقافات – إشكاليّة حرّيّة التعبير والحوكمة والمسؤوليّة الاجتماعيّة للوسائل الإعلاميّة. إذ لا بدّ من التأكيد على الدور البنائي للوسائل في تكوين مواطنين صالحين رشداء من خلال تنمية الفكر والعقل النقديّ، في ضوء مساندة القيم الإنسانيّة العالميّة التي تروّج للتسامح والحوار بين الثقافات والأديان. وهنا يسهم الإعلام ليس فقط في الحوار بين الحضارات ولكن في التحّول تدريجيًّا نحو حوار حضاريّ بكلّ ما للكلمة من معنى.
وفي هذا السياق أكدّت المواثيق والمنظّمات الدوليّة على " دور وسائل الإعلام في تعميق الخلاف أو في تقريب وجهات النظر ومدّ الجسور بين الشعوب والتعريف بها وبتاريخها بما يعزّز التفاهم بين الثقافات على نحو أفضل. وبهذا الصدد، اعتمد المجلس التنفيذيّ لليونسكو بالإجماع قرارًا يقضي بمناصرة "ممارسة حرّيّة التعبير بروح من الاحترام المتبادل والتفاهم"، وحثّ على "الاحترام المتبادل للتنوّع الثقافيّ والمعتقدات الدينيّة والرموز الدينيّة. ".
الفصل الثاني – دوافع الاستثمار الإعلامي ومتطلّبات وشروط ثقافة الحوار
أوّلاً ـ دوافع وسائل الإعلام وجدوى الاستثمار في " ثقافة الحوار":
لا نجافي الحقيقة إن قلنا إنّ الغالبيّة الساحقة من وسائل الإعلام تقع تحت ضغوطات ومؤثّرات ما يسمّى "اقتصاديّات الإعلام والميديا" وكذلك الأمر متطلّبات " الصناعة الإعلاميّة " وتقع أيضًا تحت سلطة المفاهيم الفكريّة المدرسيّة التي تتبنّاها المؤسّسة الإعلاميّة والناظرة إلى وظيفة ما يسمّى بـ "العمليّة الاتّصاليّة" ودور المعلومات والبرامج والمنتجات الإعلاميّة في الصناعة والاستثمار.
فهناك أطراف معنيّة بالاستثمار في وسائل الإعلام، ومن هذه الأطراف:
أطراف من داخل المؤسّسات الإعلاميّة (من يعملون في المؤسّسات، ومن يمثّلهم)، وأطراف خارجيّة (زبائن، معلنين، متلقّين، مستهلكين، ممّولين، مساهمين، فعاليّات مجتمع مدنيّ، وبالعموم المجموعات التي يتوقّف على دعمها وجود وبقاء المؤسّسة الإعلاميّة (المجتمع، الدائنين، المساهمين، المزودين، الخ).
ومن خلال تقييم بيانات ومخرجات 27 مقابلة مع رؤساء مجالس إدارة مؤسّسات إعلاميّة لبنانيّة، بهدف معرفة مدى وعيهم بخصوصيّة الاستثمار في الإعلام وتعقيدات العمل الإعلاميّ ومدى تحسّسهم لموضوع المسؤوليّة الاجتماعيّة، اجتهد رؤساء مجالس الإدارة ليجدوا لمؤسّساتهم وظائف ومسؤوليّات اجتماعيّة، سواء كانت تنطوي تحت عنوان ما هو كائن أو ما يجب أن يكون، وقد تمحورت إجاباتهم حول بؤر الاهتمام التالي:
- الوظيفة المرتبطة بالالتزام الدينيّ وبتنوير الرأي العامّ انطلاقًا من القيم والتعاليم الدينيّة.
- الوظيفة المرتبطة بالتنمية الاجتماعيّة والمواطنة وتعزيز الثقافة الإنسانيّة والقيم الاجتماعيّة والإنماء من أجل مجتمع حرّ وديمقراطي.
- وظيفة الإعلام المتمثّلة بكشف الحقائق وتقديم برامج توضيحيّة للمتلقّي ونقل الخبر بدقّة وموضوعيّة وأمانة ونقل الحدث إلى الجمهور.
- الوظيفة المرتبطة بخدمة جانب سياسيّ معيّن من خلال نقل الرأي السياسيّ الذي تعبّر عنه المؤسّسة الإعلاميّة أو من خلال تنفيذ توجّهات الدولة ونظامها السياسي.
- وتعمل مجالس إدارة المؤسّسات الإعلاميّة وفق عدد من الخطط والقواعد لإظهار حياديّتها ودورها في الحوار الاجتماعيّ والسياسيّ عبر اعتماد الطرق الآتية:
- الترميز المسبق للآراء ووجهات النظر (تحديد إطار الحوارات من خلال الأسئلة المركّبة والمحضّرة والمهندسة مسبقًا).
- القيام بوظيفة الأجندة (تحفيز انتباه الرأي العامّ نحو قضايا معينة وإغفال قضايا أخرى).
- الاهتمام بالمركز على حساب الأطراف والمهمّشين (نشر آراء جهات تسيطر على الأكثريّة بوسائلها الماليّة وتهميش الآراء الطرفيّة والأقلّيّات).
- وظيفة التسميات: (استخدام ترسانة المصطلحات وبنك المواقف والتصوّرات المسبقة التي يريد شرعنتها النظام القائم).
- وظيفة الصدى للحسّ المشترك: (ربط وضبط إيقاع الاستضافات في الحوارات ونوعيّة الضيوف وفق انعكاساتهم الجماهيريّة ونصيبهم من السوق وليس وفق المعايير المهنيّة والأخلاقيّة).
- وظيفة بناء المعنى: (الدوران في فلك الخبراء والمحلّلين والمصادر والشخصيّات، موجات الإعلام المتناقض في تقديم تفسيرات وتساؤلات متضاربة ومتعدّدة ومتناقضة، الانكفاء نحو العمل المكتبيّ غير المهنيّ ونهاية التقصّي عن الحقائق، انفجار المهنة نتيجة ضعف الأخلاقيّات الإعلاميّة والتبعيّة السياسيّة والماليّة، الخ).
- وفي هذا الضوء، لا نجد أنّ محور " تعزيز ثقافة الحوار " يقع من بين اهتماماتها المركزيّة، ويأتي بشكل هامشي على جدول أعمال هذه المؤسّسات، في إطار كسب الأطراف المتحاورة وجذب واستقطاب جمهورها الخاصّ، من خلال الحوارات المثيرة للجدل، أكثر منه باتّجاه تعزيز ثقافة الحوار.
ومن خلال قراءة نتائج دراسة " مؤسّسة مهارات " لتطبيق النظريّات والمعايير الإعلاميّة الدوليّة على الواقع الإعلامي اللبناني خاصّة من خلال قراءة " مقدّمات نشرات الأخبار في التلفزيونات والإذاعات اللبنانيّة"، والتي جرت بالتعاون مع "برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي"، ونشرت تحت عنوان "تجارب مقارنة من العالم حول دور الإعلام في تعزيز السلام والاستقرار الاجتماعي: أيّ تنظيم وأيّ نموذج". أظهرت وبيّنت النتائج وفق رأي بعض المحلّلين للدراسة أنّ "المشكلة الأساس تكمن في أنّ الإعلام اللبنانيّ عالق في دوّامة تتحكّم بها آفّات ثلاث، هي: التبعيّة السياسيّة، ومصادر التمويل، وهاجس "الرايتنغ rating" (نسب وحصص المشاهدة من قبل الجمهور)، هذه الآفّات التي يمكن لواحدة منها فقط أن تعطّل دوره، ستكون فعليًا كافية لإبقائه على حاله كمروّج لسياسات السلطة مع هوامش حرّيّة تتماشى مع التحالفات والخصومات السياسيّة "
وتتابع هذا الرأي " أنّ التجربة الإعلاميّة اللبنانيّة لم تكن مشاكلها يومًا مشكلة قوانين أو مواثيق شرف، فالقنوات التي لا تحترم، وبمباركة سلطويّة، القوانين الموجودة حاليًّا والمواثيق التي وقعت هي عليها، لن يختلف الأمر معها مع القوانين الجديدة التي يجري العمل عليها.
في حين يرى بعض خبراء الإعلام أنّه إلى جانب أزمة المسؤوليّة لدى وسائل الإعلام وعدم اهتمام الدولة أو عدم مقدرتها على ممارسة مسؤوليّتها القانونيّة الشرعيّة على وسائل الإعلام، هناك مشكلة إضافيّة موجودة في المناهج الجامعيّة لكلّيّات الإعلام على مستوى تدريس المفاهيم والنظريّات الاتّصاليّة والإعلاميّة، وعلى مستوى التدريب والتطبيق، وتتلخّص المشكلة من وجهة نظره " بعدم تعرّض مناهج تدريس الإعلام إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام في المجتمع، خاصّة الحديثة منها، وأثرها في نشر وتعميم قيم قد تؤدّي إلى تغريب المواطن في وطنه. ".
حيث أنّ الإعلام عنصر أساسيّ من عناصر النظام الاجتماعيّ. ولانتظام عمله بشكل إيجابيّ لا بدّ أن يتمّ التنسيق بين العمل الإعلاميّ وباقي عناصر المجتمع الأخرى. وهذا يتطلّب علماء اجتماعيّين متخصّصين في مجال الإعلام، وهو ما نفتقده في لبنان والعالم العربي، إذ إنَّ غالبيّة برامج الإعلام الجامعيّة اللبنانيّة والعربيّة تنصرف إلى التدريب المهنّي على تقنيّات وسائل الاتّصال الاجتماعيّة الحديثة وتهمل إشراك طلاّبها في وضع خطط وسياسات إعلاميّة تعالج مشاكل مجتمعهم.
ولهذا، نجد أنّنا "بحاجة إلى مهندسين اجتماعيّين أكثر من حاجته إلى مهنيّين في مجال الإعلام. ما يحتاج إليه لبنان هو اختصاصيّون في تنظيم عمل المهنيّين الإعلاميّين عن طريق وضع خطط وسياسات إعلاميّة تنسّق مع عناصر المجتمع الأخرى، فتساهم في توحيد فئات المجتمع وجماعاته المتنافرة في مجتمع حديث فاعل".
ثانيًا ـ شروط ومتطلّبات " ثقافة الحوار" في المجتمعات التعدّديّة
للحوار منهجيّة وأخلاقيات، واستراتيجيّة تعزيز " ثقافة الحوار" هو الخيار الوحيد أمام المجتمعات المتعدّدة لتجنّب الصراعات والحروب الداخليّة، وبما أنّه لا حوار في الفراغ و" الهواء كما يقال"، فلا بدّ من رسم مضموم اجتماعيّ سياسيّ وطنيّ للحوار للوصول إلى بناء الاستقرار والتوافق على العيش في إطار المواطنة المتعدّدة في دولة.
وفي هذا الإطار تؤكّد المعطيات حاجة المجتمعات المتعدّدة اثنيًّا ودينيًّا وعرقيًّا ولغويًّا وثقافيًّا للحوار المفضي إلى التوافق الديموقراطيّ وفق قواعد تؤسّس للتعايش الوطني، حيث " لا يوجد في العالم أكثر من 15 دولة أو وطن أو شعب أو مجتمع يستطيع الزعم أنّه متجانس على المستوى الاجتماعيّ والقوميّ والدينيّ، فالدول تستهدف قدر المستطاع أن تكون مجتمعًّا مكوّنًا من أنداد وأتراب، حيث أنّ التجانس الاجتماعيّ والإجماع السياسي يعتبران شرطين مسبقين للديمقراطيّة المستقرّة، أو عاملين يؤدّيان بقوّة إليها، وبالعكس، فإّن الانقسامات الاجتماعيّة العميقة والاختلافات السياسيّة داخل المجتمعات التعدّديّة تتحمّل تبعة عدم الاستقرار والانهيار في الديموقراطيّة والبناء الوطني، وهذا يتطلّب تعاونًا للنخب، فهي السمة الأولى المميّزة للديموقراطيّة التوافقيّة ".
ويشير العديد من الباحثين والمفكّرين إلى أنّ الحوار كعمليّة يحيط بها العديد من التهديدات، منها قبول الرأي العام للمفهومين التاليّين:
- الأخلاقيّات المفروضة من خلال الثقافة Ethics Through Culture.
- الديمقراطيّة من خلال القانون Democracy Through the Law.
- ويضيف هؤلاء أنّ " الحوار يكون غامضًا نتيجة التناقض في الطبيعة البشريّة ما بين رفض القهر وممارسته تجاه آخرين في ذات الوقت".
ومن هنا، لا تنفصل قضيّة الحوار عن مفهوم العدالة، ولن تؤتي الجهود الرامية لوجود حوار بين الثقافات العربيّة، أو بين الثقافات الغربيّة والعربيّة ثمارها إلاّ من خلال جهود متوازية لبناء عالم قائم على العدالة والمساواة الحقيقيّة بين جميع التيّارات والفصائل والاتّجاهات وأعضاء المجتمع. وسواء تمّ الحوار على مستوى داخليّ، أو إقليميّ، أو دوليّ، فإنّ الأمر يقتضي من طرفي الحوار الالتزام بالأخلاقيّات التالية:
النقد الذاتي للأنا من خلال الحوار مع الذات لتقييم ممارساتنا السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة في الفترات الماضية. وهذا النقد الذاتي ضرورة للحوار الثقافيّ لأنّه يفترض أن يقدّم كلّ طرف نفسه في الحوار، بكلّ سلبيّاته وإيجابيّاته، وبكلّ مشكلاته سواء مع الأنا أو مع الآخر.
في هذا السياق، تتمّ عمليّة نقد الذات من خلال التقمّص الوجدانيّ Empathy، أو كما يشير Kloczowski من خلال دراسة نقديّة للتاريخ، حيث تؤثّر خبرات الماضي على الحوار في المستقبل، أو من واقع فهم مفردات لغتنا وحضارتنا. ويقع على الفرد في الثقّافات المختلفة عبء تفسير المعلومات. ومن هنا يستلزم الأمر تطوير مهاراته من خلال عمليّات التربية والتعليم التي يتطوّر من خلالهما الإدراك والمعرفة والوعي والأخلاقيّات، بحيث يمكن تطوير مفاهيم نقد الذات. فالتعليم داخل الثقافات هو الوسيلة التي من خلالها تنظر كلّ ثقافة بشكل نقدي للذات وتضع ثوابتها محلّ التساؤلات.
- الاستيعاب النقديّ لفكر الآخر والمعرفة بالآخر من خلال المتابعة الدقيقة للحوار الفكريّ العميق الدائر على مستوى عالميّ أو على مستوى محلّي من خلال تفكيك خطاب الآخر بطريقة علميّة ومنهجيّة. وتبدأ عمليّة الاستيعاب النقديّ برسم خرائط معرفيّة عن الآخر بحيث تتمّ على بصيرة من تعداد المواقف والتيّارات الأيديولوجيّة.
- تحديد المعايير الأخلاقيّة بشكل موضوعيّ والالتزام بالفضائل العامّة والقواعد الأخلاقيّة التي لا غنى عنها في أيّ حوار. ومن هنا، يتطلّب نجاح الحوار على رفض ادّعاء أيّ مجتمع ثقافيّ بتميّز أو تفوّق منظومة قيمه الأخلاقيّة أي عدم الاستعلاء الحضاريّ أو العنصريّ أو الدينيّ في الحوار ونبذ التعصّب والرغبة في السيطرة والإقرار بالقيم المعنويّة المستقلّة للمجتمعات الثقافيّة والقوميّة واحترامها. في هذا السياق، يكون الوعي بتعدّد الهويّات هو الخطوة التي تتيح لكلّ فرد إمكانيّة فهم الآخر. ويعني الوعي بالتعدّد الاعتراف Recognition بالآخر واحترامه Respect وترويج وحماية التنوّع Promotion and Protection of Diversity.
- تحقيق التوازن بين المشترك العام والموروث الخاصّ في الحوار. ولذلك، لا بدّ أن يرتبط الحوار بالقيم الإنسانيّة التي تدعو إليها كافّة الأديان.
- إحياء الدين أو "البعد الأيديولوجي للدين الذي يمثّل مرادفًا لذلك" الذي ينبغي التخلّص منه" أو "هذا الذي يمثّل حجر عثرة" من منظور العديد من المجتمعات العربيّة والغربيّة.
- دعم العقلانيّة والرشد والفكر المنطقيّ وعدم الاستسلام للغرائز والفكر العشوائيّ والاطّلاع على وجهات نظر الآخرين والتسامح.
- السعي نحو تحقيق صالح الشعوب والأوطان لا تحقيق المصالح الفئويّة، فالأمّة والأوطان هي الغاية التي يجب السعي إليها في أيّ حوار. ويتحقّق ذلك من خلال تناول القضايا الجوهريّة وعدم التركيز على القضايا الهامشيّة، والدعوة إلى إقامة حوار بين الأطياف المختلفة داخل المجتمع، وانفتاح عقول الأطراف الفاعلة لفهم وجهات النظر المعارضة، والمشاركة الكاملة لكلّ الأصوات التي يمكن أن تشارك في هذا التبادل الفكريّ أو تثريه.
- عدم وجود تحيّزات ومفاهيم وأفكار وصور مسبقة عن الآخر قبل بدء الحوار معه.
- الوعي بنسبيّة الحقيقة بين المتحاورين، وتباين المعارف والانطلاق من فكرة أنّ القضيّة محلّ الحوار خلافيّة تحتمل اختلاف وجهات النظر فيها، مع أهمّيّة الالتزام بإظهار الصورة كاملة بكافّة جوانبها المؤيّدة والرافضة، السلبيّة والإيجابيّة، وتجنّب سيطرة الرأي على المعلومة.
-
خاتمة واستنتاجات:
في ظلّ الإشكاليّة القائمة التي طرحناها في هذا البحث الموجز، لجهة ضعف "دوافع استثمار وسائل الإعلام في ثقافة الحوار"، وانطلاقًا ممّا سبق يجب البحث عن البديل في إيجاد حالة ممانعة وتحصين لدى الرأي العام، ودور أساسيّ للقوى والنخب الاجتماعيّة والسياسيّة المتعدّدة، لتعديل ميزان القوى على المستوى الإعلاميّ، خاصّة أنّه أصبح للأفراد دور كبير من خلال النشاط الحرّ على وسائل التواصل الاجتماعيّ الأقلّ خضوعًا لاشتراطات واقتصاديّات الصناعة الإعلاميّة.
وأختم بالتأكيد على جملة من المبادئ والتوصيات، والتي أرى أنّها من المناسب أن تعتمد من أجل حلّ أيّ مشكلة ولتعزيز ثقافة الحوار التي حان أوان الحديث عنها:
من أجل أن يكون هناك دور للمؤسّسات الإعلاميّة في تعزيز ثقافة الحوار وتعميمها وتعميقها، فإنّه ينبغي توفّر جملة من الشروط والالتزام بمراعاة وتطبيق عدد من المبادئ والسياسات التي ينبغي أن تتماهى مع جملة من المبادئ والقيم الأصيلة أصالة الحياة ونقائها الفطريّ الأوّل.
أوّلاً: الصدق والمصداقيّة ابتداءً من المدخلات وصولاً إلى المخرجات، أي على طول خطّ العمليّة الإعلاميّة.
ثانيًا: توضيح المصطلحات اللازمة كافّة، سواء أكانت ماديّة أو معنويّة أو أشخاصًا أو أفرادًا أو مؤسّسات أو جماعات أو أحزاب أو قوى مقاومة، واعتباره أصلاً لازمًا، لأنّه يترتّب عليه طريقة التعاطي. وإيجاد قاموس موحّد لدى قوى المقاومة والممانعة، لتسمية الأمور بأسمائها، الأحزاب والأفراد والدول والمنظّمات.
ثالثًا: وضع سياسات حاكمة وضوابط ثقافيّة وأخلاقيّة أصيلة في كيفيّة التعاطي الإعلامي تكون بمثابة ميثاق إعلاميّ عالميّ يلتزم به وينضبط تحت سقفه الجميع.
رابعًا: تجريم كلّ الذين يقومون بتضليل الرأي العامّ ووضع عقوبات قاسية بحقّهم، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات أو مؤسّسات أو منظّمات.
خامسًا: التشديد على دور الثقافة والتعليم، ابتداءً من المدرسة أو الجامعة وصولاً إلى وسائل الإعلام القديم والجديد لتعميق الثقافة الصحيحة حول القضايا القائمة.
سادسًا: بسبب وجود تدمير منهجّي مقونن، للثقافة العليا والفطرة الأخلاقيّة والمفاهيم الحقّة فإّن للأسر والعائلات دورًا أساسيًّا في غرس هذه المفاهيم وضخّ المناعة.
سابعًا: الرقابة والمحاسبة، وأعني رقابة المؤسّسات الرسميّة والحكوميّة.
ثامنًا: رقابة الجمهور والناس والرأي العامّ، ومقاطعة بعض الوسائل الإعلاميّة إذا تطلّب الأمر، والمطالبة بمعاقبتها أوّلاً ووسطًا وأخيرًا، وأشدّد على ترسيخ نظام القيم وعلى رأسها الصدق والحقيقة الحقيقيّة، أي الحقيقة الأصليّة.