في ثقافة الكراهية الظاهرة الدّينيّة، الحرب، التوحّش
الدّكتور عقيل محفوض
أوّلا: عالم بدون روح؟
ربّما كانت الرسالة العميقة للدين هي أن يكون "روحُ عالمٍ بدون روح"، بتعبير غير معروف كثيرًا لـ ماركس، افتتح ميشيل فوكو به كتابه الشهير "إيران، الثورة باسم الله"، وتهذيب أو ضبط التناقضات والصراع، والوصول إلى "مدينة الله" أو "المدينة الفاضلة"، والوعد بـ "تحصيل السعادة" بتعبير الفارابي. ولا بدّ أنّ فواعل الدين تواجهُ تحديّاتٍ عميقةً، والواقع أنّها أصبحت أحد مداخل الصراع والكراهيّة، فيما أصبحا (أيّ الصراع والكراهيّة) أحد مداخلها أيضًا، إذ لا يمكن –بنظر حرّاس المعنى الدينيّ المُشوّه – أن تكون مؤمنًا إن لم تكن كارهًا لـ إيمانٍ آخر أو إيمانِ الآخر، ورافضًا له، متبرّئًا منه! وبهذا المعنى فإنّ كلّ إيمان هو محدّد بكيفيّة أو أخرى لـ "كراهيّة"، وكلّ كراهيّة هي محدّد لـ "إيمان"، بمعنى أنّ كلاّ منهما يمثّل مُدخلاً ومُخرجًا للآخر.
وإذا لم يتمكّن "أهل الدين" من تجاوز فواعل الكراهيّة والعنف، ومثل ذلك بالنسبة لخصومهم ممّن عدَّ الدين "أفيونًا للشعوب" بتعبير شهير لـ ماركس، أو وعيًّا متأخّرا لديها وفقًا لـ كانط، أو "وهمًا" وفقًا لـ فرويد، أو "فيتامين الفقير" بتعبير ريجيس دوبريه؛ وإذا لم يتمكّن الإنسان من احتواء مصادر التهديد واللايقين تجاه المستقبل، والفقر والظلم والتخلّف إلخ/فإنّ من المحتمل أن تزداد ظاهرة الكراهيّة بين الجماعات والشعوب والدول، كما بين الأفراد، وحتّى على مستوى الإنسان/الفرد نفسه. ويكون أهل الدين حالة إذٍ قد تخلّفوا عن تحقيق مقتضى الرسالة.
ثانيًا: في العقليّة الدوغمائيّة
العقليّة الدوغمائيّة هي حسب ميلتون روكيش "عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكريّ أو العقليّ عندما تتطلّب الشروط الموضوعيّة ذلك، وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدّة حلول لمشكلة واحدة وذلك بهدف حلّ هذه المشكلة بفاعليّة"[1]، وهذا ينسحب على الجماعة أيضًا. ويتمركز المفهوم حول ثلاث محاور رئيسة هي: نظام معرفيّ مغلق، ولعبة مركزيّة من القناعات، ويولد سلسلة من أشكال التسامح – اللاّ تسامح.
تحيل "العقليّة الدوغمائيّة" إلى نظام إدراك وفهم ونظر للعالم، ينطلق صاحبُها من ثوابت ورؤية ومرجعيّات معيّنة، ويرى أنّه يملك المعرفة والحقيقة المطلقة، ويقيم ديناميّة تمييز وفصل مع الآخر مُعزّزة ومحروسة، كما يعني الجماعة المُغلقة أيضًا[2].
ويمكن تركيز معايير الدوغمائيّة في النقاط الرئيسة التالية:
- - التشديد على أهمّيّة الخلافات.
- - التأكيد باستمرار على عدم صحّة المحاجّات التي تخلط بينهما أو حتّى تقرّب بينهما.
- - "إنكار ثمّ احتقار الوقائع التي قد تظهر وتناقض" العقائد والإيمانات[3].
- - المقدرة على قبول التعايش مع التناقضات داخل نظام الإيمان من دون الإحساس بوجود مشكلة.
- - الرفض المستمرّ لمحاولات التوفيق أو التقريب أو المصالحة.
- - اليقين الدائم بامتلاك المعرفة حصريًّا.
- - اليقين بخطأ نظام اللاّ إيمان لدى الآخر.
- - لا تميّز كثيرًا بين معتقدات الآخرين، وتضعهم في خانة واحدة تقريبًا، هي خانة الكفر والضلال.
- - إعادة تأويل الوقائع المنحرفة أو المضادة لكي تصبح مطابقة.
- - "الإخلاص للخطّ".
- - الانشداد إلى نموذج أو منوال يوتوبي متخيّل أو موعود في الزمن الآتي.
ثالثًا: الكراهيّة، المقدّس
تخرج الكراهيّة من عباءة المقدّس، وتحكي السرديّات الدينيّة عن أوّل كراهيّة أنتجت عنفًا في العالم، بحادثة قتل "هابيل" على يد "قابيل"، ومنذئذ وهاجس الإنسان هو ضبط الكراهيّة، وفق معايير سماويّة أو وضعيّة، ولكن بقدر قليل من النجاح، إذ أنّ ضوابط الكراهيّة أصحبت هي نفسها حضًّا عليها ومصدرًا رئيسًا من مصادرها، ومبرّرا أو مسوّغًا لها أيضًا.
تبدو الكراهيّة والتعصّب والعنف ملازمة للتصوّر الدينيّ أو الميثي للعالم، وتأخذ "الأضحيّة" مثلاً مقامًا مركزيًّا في هذا الباب، والانتقال من التضحية بالإنسان إلى التضحية بالحيوان، لم تمثّل قطيعة هنا، إذ لا تزال التضحية بالإنسان، الأنا أو الآخر، مدخلاً لازمًا للوفاء بمتطلّبات النعيم "الأخروي" الموعود، مثل الحوريّات والغلمان وأنهار اللبن والعسل الخ هذه مسألة إشكاليّة تنفتح على مخاطر كراهيّة وعنف لا حصر لها تقريبًا.
تؤسّس السرديّات الدينيّة لكراهيّة مقدّسة أو عنف مقدّس، ومفتاح الجنّة هو الولاء من جهة والبراء من جهة أخرى، وجهاد الأنا وجهاد الآخر، جهاد الأنا بمعنى مقاومة النفس الأمّارة بالسوء والشكّ والكفر، وجهاد الآخر بمعان عديدة منها عدّه موضوعًا للدعوة والهداية أو الهيّمنة والسيطرة، أو مواجهته بالقوّة وبحدّ السيف.
والجائزة الكبرى هنا هي الفوز بالموارد المادّيّة والمعنويّة في الدنيا، والفوز بالجنّة في الآخرة أو في نهاية التاريخ.
تجد في بعض الأحاديث المنسوبة للنبيّ محمّد بن عبد الله (ص)، ولا تختلف الأمور كثيرًا في الأديان الأخرى، أنّ الفوز بالجنّة حصريّ بفرقة أو طائفة معيّنة، بوصفها "الفرقة الناجية"، الحديث المعروف، "تفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة"[4]. وفي رواية أُخرى: "إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإنّ أمّتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة، وهي... ". هنا تختلف العبارة الأخيرة، باختلاف الروايات، فهي "شيعة أهل بيتي" لدى الشيعة[5]، والمتمسّكون بسنّتي" أو "الجماعة" لدى السنّة[6]، و"أهل العدل والتوحيد" لدى المعتزلة[7].
الحديث نفسه رواه الشعراني في "الميزان"، وصحّحه الحاكم على النحو التالي: "ستفترق أمّتي على نيِّف وسبعين فرقة، كلّها في الجنّة إلاّ واحدة"[8]، وفي رواية عند الديلمي تقول: "الهالك منها واحدة"، قال بعض الفقهاء هي "الزنادقة". وفي رواية عن أنس أنّ النبيّ (ص) قال: "كلّها في الجنّة إلاّ واحدة، وهي الزنادقة"، وفي رواية عن أحمد بن حنبل أنّه قال: "وهي الجماعة"[9]، وفي رواية أخرى "ما أنا عليه وأصحابي"[10]. وتجد مثل ذلك كثيرًا في الكتب والمصنّفات الدينيّة. وإنّ اختلاف العبارة أو العبارات الأخيرة يفسّر "التواطؤ الموضوعي" على استخدام "متن" الحديث أو المقاطع الأولى منه، وإدخال إضافات قصديّة لأغراض دينيّة وسياسيّة.
وعلى الرغم من عدم القطع بصحّة الحديث، في وجهيه المذكورين أعلاه، إلاّ أنّه يستخدم على نطاق واسع، ولكن بوجهه الأوّل، بمعنى "كلّها في النار إلاّ واحدة". ومن الواضح أنّ الوجه الثانّي، أيّ "كلّها في الجنّة إلاّ واحدة"، لا يفيد كثيرًا في عوالم الكراهيّة النشطة اليوم، ولذا تجده مهجورًا تقريبًا[11].
هذا الحديث الملتبس والخلافي والمشكوك بصحّته، هو برواياته وتأويلاته وتوظيفاته، أحد مداميك الكراهيّة والعنف الثقافيّ أو الرمزي، وحتّى المادّي. وثمّة نسخ مشابهة له في الإيديولوجيّات والمدارس الفقهيّة والسياسيّة والفكريّة وغيرها، هنا تبدو الكراهيّة والعنف كما لو أنّ لهما شرعيّة أو توكيلاً إلهيًّا أو قدسيًّا.
للعنف أو الكراهيّة المقدّسة جاذبيّة كبرى، ولذا تجد:
- - الكراهيّة والتعصّب تستهدف أوّل ما تستهدف الجسور والقناطر والمعابر هي أوّل ضحايا الحروب والنزاعات، ومعلوم دورها وأهمّيّتها في "الوصل" و"التفاعل" بين جهات ومكوّنات أيّ مجتمع أو دولة، وما يحدث أنّها تستهدف قبل ذلك ومعه المدارك والهويّات الجمعيّة والروابط المشتركة، وحتّى العلاقات والزيجات العابرة للجماعات والأديان والمذاهب الخ وقد حدثت على هذا الصعيد فظائع وأهوال في الأزمة السورية.
- - رجال الدين أو فواعل الظاهرة الدينيّة منهم، الأكثر تشدّدّا هم الأكثر تلقيًّا ومتابعةً أيّ الأكثر شعبيّة، والنصوص والفتاوى ومقاطع اليوتيوب التي تدعو للكراهيّة والقتل هي الأكثر متابعة، فيما تتراجع تلك التي تدعو للحوار والاعتدال والوسطيّة وقبول الآخر.
- - "الهجرة إلى العنف" من قبل رجال ونساء وحتّى أطفال، وقد كانت الهجرة إلى العنف تحت عنوان الجهاد الأفغاني، وها هي تحدث اليوم تحت عناوين "الجهاد" و"النصرة" و"الخلافة" في سورية والعراق؛ وخاصّة أنّه عنف يفضي – من منظور المهاجرين – إلى نعيم الآخرة الموعود أو المفترض، في عالم تمثّل المخاطر والحرمان المادّي والمعنويّ السمة الأبرز فيه.
- - هناك إلى ذلك العنف المتمثّل بقتل النفس (ما يعرف بـ العمليّات الانغماسيّة أو الانتحاريّة) بهدف قتل الآخر، هذا العنف يمثّل تطهيرًا لـ "أنا" الفرد والجماعة التي ينتمي إليها أو يقتل نفسه باسمها، وممرًّا للمستقبل، هنا عودة إلى فكرة القربان (أو الفداء) إيّاها.
وثمّة محدّدات ثقافيّة وقيميّة عديدة لمنظومة إنتاج الكراهيّة والعنف، مثل تأثيم الآخر وأبلسته وتكفيره، و"الولاء والبراء"، و"الجهاد"، و"الردّة"، والمفردات الأخرى ذات الصلة، هي في المنظومات الفقهيّة التكفيريّة المختلفة وحتّى في الثقافة الدينيّة الشعبيّة، تمثّل قوّة إكراه وحضّ – بأساليب شتّى – على تبنّي قيم معيّنة، وإنكار قيم أخرى، يترافق ذلك مع قيم شرقيّة وغزويّة وأوضاع اجتماعيّة وتنمويّة وثقافيّة متأخّرة، تتحوّل الأفكار الدينيّة المشوّهة هنا إلى قوّة حشد مادّي ورمزي وأداة مواجهة وتبرير لكلّ أشكال العنف الرمزي والمادّي. وخاصّة إذا كان "المعروف" و"المنكر" متروكًا أمر تعيينهما للسلطة القائمة أو لجماعات القوّة والعنف نفسها، علمًا أنّ "المعروف" لدى جماعة أو جهة ما قد يكون "منكرًا" لدى جماعة أو جهة أخرى.
رابعًا: الكراهيّة، الحرب
تجد في أنماط الكتابة والتعبير في المنطقة اليوم، كراهيّة فائقة، لا تنقضي بالموت أو القتل، إنّما تصل إلى التمثيل بجثث الضحايا، ما قد يدفع الأفراد أو الجماعات المستهدفة، أن تفعل الشيء نفسه تقريبًا، إن أمكنها ذلك، وأنّ تراكم طبقات من مدارك وتصوّرات الكراهيّة والشعور بالتهديد والرغبة بالانتقام، ولو تمكّن الإنسان لفعل بغيره ما فعله ذاك الغير به. وهكذا تصبح الكراهيّة، ليس مجرّد ردّ فعل تجاه الآخر، وإنّما واجب ومقتضى.
يقول الروائي اليوغسلافي إيفو أندريتش، الحاصل على جائزة نوبل، في رواية "جسر على نهر درينا"، أنّ اندلاع الحرب "أطلق الآن الوحش الضاري الذي يسكن الإنسان... فأُعطيت الإشارة وأزيلت العقبات. وكما يحدث كثيرًا في التاريخ الإنسانيّ، أُبيح العنف والسلب، ضمنًا، بل حتّى القتل، شريطة أن ترتكب هذه لأعمال باسم مصالح عليا وتحت شعارات جاهزة وبحقّ عدد محدود من البشر، لهم اسم محدّد ومذهب محدّد".
حدث في الأزمة السورية أن تفلّتت الكراهيّة وتشوّهات الدين من أيّ عقال، وكان الذبح وقطع الرؤوس منذ الأيّام الأولى، في مشهديّة إجراميّة فائقة قامت دول ومؤسّسات وجماعات ومحطّات تلفزة وشبكات كبرى ببثّها والترويج لها، ليس بغرض الإدانة أو التشهير بالفاعلين، وبالقطع ليس بهدف الإخبار والإعلام، وإنّما بهدف التحريض على ارتكاب المزيد، واستثارة ردّة فعل مماثلة. مثّلت الكراهيّة هنا أداة حرب.
خامسًا: ثقافة التوحّش
تشهد ثقافة الكراهيّة والعنف وديناميّات إنتاجهما المادّيّة والرمزيّة انتعاشًا كبيرًا في فترات الأزمات والحروب، وحيث الغايات تبرّر الوسائل، وحيث تبيح أو تتيح المواجهات والمقاصد كلّ الغايات المتاحة أو الممكنة، وتستحضر كلّ المبرّرات والإمكانات.
هنا، تتغيّر اشتراطات وبيئات الإنتاج والتلقيّ، وخاصّة نظم القيم، التي تعمل بأقصى طاقة تأويل ممكنة لتوليد أو تحريك الكراهيّة، وتصييرها عنفًا فائقًا يتجاوز كلّ الحدود وكلّ التوقّعات، وتبريره وتسويقه – السكوت عنه والتنكّر له إذا وقع على الآخر – ويتطوّر الأمر ببعض الثقافات، لأن تعيد مراجعة نظم القيم وقواعد السلوك، بأثر رجعيّ، بحيث يتمّ أبلسة الخصم موضوع الكراهيّة والعنف، وشيطنته، من خلال "تكييف" بنى ووقائع ومرجعيّات ومبرّرات تاريخيّة وفقهيّة ونفسيّة وسياسيّة وثقافيّة وأمنيّة، لتصبّ جميعها ليس في "تشريع" الكراهيّة والعنف فقط، وإنّما في عدّهما ضرورة وواجبًا وأمرًا لا مناص منه.
وهكذا تتطوّر "ثقافة الكراهيّة" إلى "ثقافة التوحّش" و"الإبادة"، كما يحدث في المشهد السوري اليوم، حيث تمّ حشد الذاكرة التاريخيّة والموارد المادّيّة والمعنويّة ووسائط الميديا والبنى الاجتماعيّة والقبليّة والدينيّة والعرقيّة والريعيّة الخ من أجل خلق بيئة استقطاب اجتماعيّة وسياسيّة حادة، وإلباس الأزمة السورية لبوسًا طائفيًا وخلق قابليّة عنف فائقة.
وقد وصل الأمر بالبعض للدعوة إلى شنّ "حرب مقدّسة" والقيام بإبادة دينيّة ومذهبيّة وعرقيّة ليس في سورية فحسب، وإنّما على مستوى الإقليم أيضًا، حتّى أنّ مثقّفين – فضلاً عن تنظيمات جهاديّة كثيرة – تبنّوا مقاربة داروينيّة دينيّة سياسيّة تدعو إلى عنف يؤدّي إلى "انقراض" طوائف وأعراق بعينها، بكيفيّة أظهرت أقصى ما يمكن أن تصل إليه "حيونة الإنسان" بتعبير الكاتب الراحل ممدوح عدوان[12].
وبرزت فتاوى ومقولات تبرّر قتل حتّى ثلث السكّان طالما أنّ في ذلك "خيرًا" للثلثين الباقيين، وتدعو للجهاد أو العنف المفضي إلى الجنّة، بكلّ ما يعنيه ذلك من تحريك لمخيال الرهائب والرغائب في العقليّة والبنى النفسيّة والاجتماعيّة وغيرها في المجال الإسلامويّ في المنطقة والعالم، وهذا يفسّر "هجرة" جهاديّين ومغامرين من أربع جهات الأرض للمشاركة في "ملاحم" العنف والتدمير التي تجري في سورية والمشرق.
هذه الكراهيّة أو العنف الرمزي الفائق، تفسّر جانبًا من العنف المادّي والمشهدي الفائق أيضًا، الذي تقوم به التنظيمات الجهاديّة مثل "جبهة النصرة" و"داعش" و"القاعدة" وأشباهها في المنطقة والعالم، كما يفسّر ذلك التلقيّ وتلك الجاذبيّة الملغّزة للعنف، إذ أنّ خطاب الكراهيّة يلقى شعبيّة غير مسبوقة، كما سبقت الإشارة، في وقت كان التوقّع هو أن تؤدّي الكراهيّة، قل الأهوال والتوحّش الناتج عنها، إلى انفضاض الناس عن ثقافتها (الكراهيّة)، وليس العكس؛ في دورة إنتاج عالية المرونة والجاذبيّة، للأسف، ولا من سياسات تستطيع حتّى الآن كسر تلك الدورة أو احتواء ديناميّاتها النشطة.
خاتمة
ثمّة تلازم غير قابل للانفكاك حتّى اليوم بين الدين أو المقدّس وبين الكراهيّة المفضيّة إلى العنف والتكفير في تاريخ المنطقة، تلازم يحيل إلى علاقة مركّبة واستخدام أو توظيف متبادل، تعزّزه بنى ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة متأخّرة، وبنى سياسيّة تسلطيّة ثقيلة الوطأة[13].
وبدءًا من حادثة السقيفة (سنة 11 هجريّة، 633 ميلاديّة) وحتّى اليوم، لا يزال العنف هو سيّد الأحكام، ولاتزال الحادثة طازجة، كأنّما لم يمض عليها الزمن، ولم تتقادم بل تتراكم تداعياتها وتتواصل منازعاتها، وقد قرأتُ في مواقع التواصل الاجتماعيّ بيانًا قيل إنّ تنظيم "داعش" نشره في مناسبة عاشوراء، جاء فيه كلام من قبيل: "يزيد إمامنا، والحسين إمام الرافضة"، ومثل ذلك كثير، ومع منطق الفرقة الناجية والعقليّات الدوغمائيّة والكراهيّة المقدّسة يبدو أنّه سيستمرّ إلى ما لا نهاية.
الكراهيّة التكفيريّة الحاصلة في المنطقة وفي غيرها من العالم لها عوامل كثيرة، وهي كراهيّة تنتج عن صراع دائم على الموارد المادّيّة والمعنويّة، وتتوسّل مدوّنات ومقولات فقهيّة ودينيّة، وآيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة وتفاعلات قبليّة وتحالفات ارتزاقيّة، وقصصًا تاريخيّة كثيرة ومتناقضة. هذا لا يعني أنّ لا أساس دينيّ وقيمي وروحي للصراع، بل لعلّ اختلاف القيم والمدارك وافتراقها واختلاف أفهام الناس واختلاف أولويّاتها، كان عاملاً نشطًا وربّما مرجّحًا في تجاذبات القوى ورهاناتها في تاريخ المنطقة، مثلما هو الحال في حاضرها. ويبدو أنّ تاريخ الإسلام كان تاريخ "الصراع المأساوي بين العنف البنيويّ للسلطة أو الدولة وبين قيم المسلمين" بتعبير كارين أرمسترونغ[14].
المعركة الدائرة اليوم ليست معركة نصّ دينيّ أو ثقافيّ فحسب، وإنّما معركة خيارات ورهانات مختلفة، بل هي معركة محتدمة على شكل المنطقة وطبيعتها، واتّجاهات الهيّمنة فيها. هنا يتخذ الدين أو المذهبة والتكفير عنوانًا رئيسًا، لأنّه العامل أو الفاعل الأكثر قابليّة واعتمادّيّة وتعويلاً والأكثر انسجامًا مع ديناميّات التحشيد والتأييد والاستقطاب لدى مختلف الأطراف.
ما يحدث في الواقع هو أنّ دوغما التسلط تحافظ على دوغما الفقه ومنطق الفرقة الناجية أو منطق التكفير، أو "ميتافيزيقا الجلاّد" بتعبير نيتشه، هذا أحد أهمّ مصادر الكراهيّة في المنطقة وفي عالم اليوم.
وأخيرًا، ثمّة بداهتان تلازمان الصراع في المنطقة، ولكنّهما غير مساعدين في احتوائه، الأولى هي بداهة التعدّد الاجتماعيّ والثقافيّ، ﴿وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾[15]، و﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾[16]، وربّما كان علينا الحديث عن انقساميّة اجتماعيّة نشطة وصعوبة في الانتقال من الملّة إلى الأمّة والمواطنة بالمعنى الحداثي والإنسيّ للكلمة.
الثانية هي بداهة الكراهيّة والصراع والعنف والقتل، ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ﴾[17].
ما قُدّم في هذا النصّ/الورقة هو الكراهيّة التي تصدر عن رؤية دينيّة أو تعزّزها رؤية دينيّة، والكراهيّة بوصفها واجبًا أو ضرورة دينيّة. وكذلك منطق أو بالأحرى لا منطق الفرقة الناجية أو الفرقة المنصورة، كما لو أنّنا أمام حتميّة تاريخيّة قاهرة ولا نهائيّة، إلى أن يُقدِّرَ اللهُ أمرًا كان مفعولاً.
[1] هاشم صالح، "بين مفهوم الأرثوذكسية والعقلية الدوغمائية"، في: محمّد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ترجمة: هاشم صالح، ط2، (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1996)، ص 5. وتعتمد الفقرات الخاصّة بالعقلية الدوغمائية على هذا النص.
[2] عقيل سعيد محفوض، العنف المقدس: في الأسس الثقافية لعنف الجماعات التكفيرية، دراسة، (الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2017).
[4] بسام الجمل، "حديث الافتراق ومفهوم الفرقة في الإسلام"، مقال، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، (13 شباط/فبراير 2015).
[5] أنظر أسانيد وروايات كثيرة لدى الشيعة في: محمّد الموسوي الشيرازي، الفرقة الناجية، ترجمة: فاضل الفراتي، (بيروت: دار الأمين، 2004)، ص 20-28.
[6] أبو المظفر طاهر بن محمّد الإسفرائيني، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (بيروت: عالم الكتب، 1983)، ص 185-187.
[7] انظر: محمّد يحيى سالم عِزّان، حديث افتراق الأمة تحت المجهر، (صنعاء: مركز التراث والبحوث اليمني، 2001)، ص 92 وما بعد. ويخلص طه جابر العلواني إلى أن دلالة الحديث تنحصر "على الإخبار بافتراق الأمة لا غير"، انظر: طه جابر العلواني، العراق الحديث بين الثوابت والمتغيرات، (دون مكان، دون ناشر، دون تاريخ) ص118.
وانظر مسرد في الروايات المختلفة للحديث على مختلف المذاهب والفرق الإسلامية في: خميس بن راشد العدوي، "قراءة في رواية الفرقة الناجية"، مؤتمر "الوحدة الإسلامية"، المنامة، 28 إلى 30 ديسمبر 2007م.
[8] أبو حامد الغزالي، فيصل الفرقة بين الإسلام والزندقة، تحقيق: محمود بيجو، ط1، (دون مكان، دون ناشر، 1993)، ص58.
[9] ابن كثير، تفسير القرآن، تحقيق: سامي السلامة، ج1، (الرياض: دار طيبة، 1999)، ص 390.
[10] رضا محمّد رشيد رضا، تفسير المنار، ج8، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990)، ص 221.
[11] انظر سردية دينية مناقضة لحديث الفرقة الناجية والتكفير في: عبد الحسين شرف الدين الموسوي، الفصول المهمة في تأليف الأمة، ط7، (بيروت: دار الزهراء، 1977).
[12] ممدوح عدوان، حيونة الإنسان، (دمشق: دار ممدوح عدوان للنشر، 2007).
[13] الأفكار الواردة هنا مأخوذة من نص سابق للكاتب بعنوان العنف المقدس.
[14] كارين أرمسترونغ، حقول الدم: الدين وتاريخ العنف، مصدر سابق، ص 296.
[15] القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 13.
[16] القرآن الكريم، سورة هود، الآية 118.
[17] القرآن الكريم، سورة الحج، الآية 40.