مقاربة مسيحيّة مشرقيّة
الأب الدّكتور بورفيريوس جرجي
الوطن مساحة انتماء ولقاء وتجذّر. ونحن في لبناننا نتطلّع إلى تربية دينيّة تنشئ الإنسان على ثقافة الحوار. نتطلّع إلى مقاربة تعليميّة وفلسفة تربويّة شموليّة تمهدان السبيل لصقل قناعة الإنسان بحاجته إلى الانفتاح على الآخر وإلى تحقيق هويّته وتجذّره في الأرض، عبر لقاء الوجوه وانفتاح القلوب.
وقد ينسى البعضُ، نتيجةَ صروف الأيامِ وظروفٍ راهنة، أنَّ الدين في بلادنا لطالما أَسَّسَ لبناء الحضارات المتلاحقة وتراكم الخبرات فيها، فكان المجال الأرحب للخلق والإبداع واستلهام الجمال في اللغة والفنّ والعطاء العلميّ والتعارف والانطلاق نحو الآخر.
الانفتاح الديني في بلادنا أسهم إلى حدّ بعيد في بناء هويّة مجتمعاتنا الفكريّة والثقافيّة والحضاريّة، فخبِرنا في تاريخنا صفحاتٍ منيرةً في تجسيد المواطنة والانفتاح، وفي احتضان الآخر والتعلّم منه وتبادل الخبرات والرؤى.
أمّا التعصّب المذهبيّ، الذي فرض سطوته على العلاقات بين الناس في مجتمعات تكتنفها المخاوف الطائفيّة، فما هو إلاّ النتيجةُ لثقافة انطواءِ المرء على ذاته، سواء أكانت الذات الفرديّة أم الذات الجماعيّة، أي استسلام الإنسان للأنانيّة التي هي أمٌ لكلّ خطيئة وشرّ. والخطيئة في عرف آباء الكنيسة المشرقيّة هي حبّ الذات. هذا الانغلاق وما يستتبعه من انعدامٍ للحسّ، انعدام الحسّ بالآخر الذي هو قريبي في المواطنة والعيش الكريم، وانعدامِ الحسّ بالإله الذي ينتظر من الإنسان كلّ خير وصلاح وعطاء.
الفرق بين التربية المذهبيّة الطائفيّة، إن صحّ التعبير، والتربية الدينيّة البناءة، شاسع. الأولى برمجة لعقول أبنائنا وقلوبهم؛ حجبٌ لأنظارهم عن فضائل الآخر وعن غنى خبرة العيش معه والانفتاح عليه. هي أشبه بإيديولوجيّة دينيّة تقولب الذهنيّات بحيث لا يعود الفكر يقوى على الانفتاح والتحرُّك والإبداع. هي تزكية لفرديّة متقلقِلة تُحصِّن شعورًا كامنًا بعدم الأمان، عبر الانغلاق الاجتماعيّ والتكتّل المتأسّس على رفض الآخر.
أمّا التربية الدينيّة المسؤولة البنّاءة، والتي هي مهمّتنا ومسؤوليّتنا في المؤسّسات الدينيّة، فهي نشرٌ لثقافة التآلف والانفتاح والحوار. هي استلهامٌ لكلّ ما في إيماننا من خيرٍ وبرٍّ من أجل بناء الوطن وصون المواطنة. هي تبيانٌ لمساحة التلاقي الواسعة التي يقدّمها لنا الدين في نصوصه التأسيسيّة، وفي المواقف التاريخيّة النبيلة، والوجوهِ البهيّة التي سطّرت تراثًا من التعارف والتعاضد والتآخي، حيث كان العطاء الخلاق. وهي وعي ناضجٌ لجروح التاريخ وأخطائه من أجل تخطّي عُقد الماضي، والاعتبار، والتطلّعِ، والعملِ من أجل مستقبل أبهى.
جاء في إنجيل متّى: "هُوَ ذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَمَاكِنِ المُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الأَرْضِ الجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرًا، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاَثِينَ"[1].
الأرض المزروعة هي قلوب أبنائنا، فكيف لنا أن نستصلحها لكي تأتي بالثمر المرجو؟
كيف نجعل منها حديقةَ أزهارٍ عطرةً أو بستان أشجارٍ وارفةٍ مثمرة، لا حقلاً للشوك والعلّيق؟
كيف نساعد أبناءنا على تخطّي حواجزِ التموضع الراهن من أجل الارتقاء إلى سموّ الدين والانفتاح على آفاقه الرحبة؟
كيف ندرّب حواس الأجيال الجديدة بحيث تتّخذ عينًا نيّرةً فتطمئنّ بذكر الله القلوب، ويضحى الوطن موضعًا للتعارف والحوار والبنيان والإبداع؟
هذه مسؤوليّة جسيمةٌ ملقاةٌ على عاتقِ كلِّ من له باع في التربية الدينيّة.
وعلى هذا الأساس نبني عملنا في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في جامعة البلمند. نسعى على الدوام لكي يبقى معهدنا مدرسةً في الانفتاح، مدرسةً في قبول الآخر على غيريّته واختلافه، وفي مدّ يد التعاون نحوه والتعلّم منه، وبناء الجسور بين الناس والجماعات، والفرح بالآخرين، وتعهّد الحوارات التي لا تمَلُّ ولا تنثني أمام عُقَد التاريخ والماضي وأمام صعوبات التواصل وإساءة الفهم.
عملُنا مسعى مستمرّ لفتح قلوبنا للآخر وللولوج إلى قلوب إخوتنا في كلّ ناحية وصوب من أجل التقارب والبنيان وإرضاء من علّم أنّ المحبّة وحدها هي سمة الإنسان المؤمن.
ولكن نبقى بحاجة على المستوى الوطني الأشمل إلى إطلاق وُرش حوارٍ تربويّ تمهّد للعمل على تجديد مناهجنا التعليميّة الدينيّة ومقارباتنا التربويّة، بحيث نُبرز قيمة الإنسان، غاية الدين والإيمان؛ وقيمةَ الوطنِ، من حيث هو الإطارِ الأكثرِ رسوخًا للمحافظة على إيماننا بالله تعالى وبقيمنا السامية.
لا بدّ لنا، وهذا ما أرجوه من لقائنا اليوم، من أن نأخذ مبادرات عمليّة لا نظريّة فحسب، تفتح لنا الباب الرحب على العمل التربويّ الوطنيّ المشترك والتعاون من أجل تزكية ثقافة الحوار والتلاقي على خير الإنسان في هذا الوطن ومحيطه العربيّ والمشرقي الأوسع.
الإنسان هو أثمن ما يصونه الدين. وما العقيدة والأخلاق إلاّ نبراسًا للارتقاء بالإنسانيّة إلى سواء السبيل والتآخي والعيش الكريم.
قبول الآخر كما هو، والانطلاق نحوه باحترام كبير، وصون كرامته، لطالما كانت من شيم أجدادنا وآبائنا الذين استلهموا الكتب وأحبّوا الأرض والوطن. فلنجدّد العهد، عهد أجدادنا وآبائنا، ولنعمل معًا من أجل خير أبنائنا وتنعّمهم بثقافة الحوار والمواطنة والسلام الحقيقيّ الذي هو عطيّة من الله يتلقّفها الإنسان في التربية الدينيّة السويّة.
[1] (متى 13: 3 – 8).