وعي المشترك الدينيّ (الأخلاقيّ والإنسانيّ والقِيميّ...)
الدّكتور أحمد عبد الحليم عطيّة
من تشكّل الثقافة الدينيّة ومعوّقات الحوار بين الأديان وعبر مناقشة دور المؤسّسات الدينيّة ومؤسّسات الحوار نصل إلى ما نهدف إليه ألا وهو مستقبل الحوار. فما يشغلنا هو مستقبل الحوار. فهل هناك مستقبلٌ للحوار؟ يبدو لي أنّ الوعي المشترك الدينيّ؛ وبين قوسين (الأخلاقيّ والإنسانيّ والقِيميّ) هو التّحقيق لثقافة الحوار. وحول هذا السّؤال يدور بحثنا ونفترض أنّ ما يمكن أن نطلق عليه "قانون الرّوح" أو "دستور المثال الأعلى الكونيّ" أو ما أسماه الإمام القشيري "نحو القلوب" يمكن أن يؤسّس أخلاق المستقبل ويكون تحقيقًا لوعي المشترك وتجسيدًا للحياة في عالم واحد.
من متابعة الجوانب المختلفة لثقافة الحوار؛ يتّضح لنا أنّ هناك ثلاثة أشكال أو صُور يمكن أن يتّخذها الحوار بين الأديان هناك أوّلاً الحوار العقائدي وهو أصعبها وفي الغالب يكون على المستوى النّظري ويمكن أن نتّخذ مثالاً له الكتاب الذي ألّفه بالفرنسيّة كلٍّ من لويس جارديه والأب قنواتي وترجمه للعربيّة فريد جبر وصبحي الصّالح، وثانيًا الحوار بين الأديان الذي تدعو إليه المؤسّسات الدينيّة الرسميّة والذي قد يبدو في الغالب إعلاميًّا ويتّخذ أحيانًا صيغةً سياسيّة. وهناك أخيرًا وهو ما نحن في حاجةٍ إليه، البحث العلميّ في حوار الأديان؛ الذي يسعى للإجابة عن سؤال كيف يمكن أن نحيا معًا مع اعتراف واحترام كلٍّ منّا لعقائد الآخر؟
ونتساءل بداية في هذا البحث هل يمكن تأسيس برنامج عملٍ ومشروعٍ إنسانيّ عامّ وجماعةٍ دوليّةٍ للحكماء تحدّد لنا معالم طريقٍ للبشريّة الحائرة تّجاه غايةٍ وهي الحياة معًا في مواطنةٍ كونيّةٍ تضمّ الجميع؛ ذلكم هو المشروع الدينيّ والإنسانيّ؛ القِيميّ والأخلاقيّ.
يقتضي تحقيق هذا البرنامج وتجسيد هذا المشروع؛ تحديد المفاهيم التي نتداولها ونتّفق عليها وهي: الدّين والأخلاق والقيم وكذلك مفهوميّ المشترك والوعي. ويحتاج مفهوم المشترك؛ الذي علينا جميعًا القصد إليه والتنبّه عليه وتأكيد أهمّيّته وضرورته ودوره ضدّ: المتفرّق والمُنقسم والمشتّت والممزّق. فهو الشّراكة مقابل الفرقة والجمع بدل القسمة في القول والفعل والحركة والسّلوك.
ووعي المشترك يقتضي بحث وتقصّي حول ماذا يعني المشترك، ما هي حدوده وإمكانيّاته وغاياته، هل هو متحقّق أو يمكن أن يتحقّق، وعي المشترك هو الثقة والتيقين من أهمّيّة دور المشترك بين البشر ومعرفة ما يجمعهم وكيفيّة تجاوز ما يفرقهم، فهو المشاركة التي تعني الندّيّة مقابل الهيمنة والسيطرة، حرصًا على تحقيق التلاقي والقبول والتقبّل مقابل الصدام والصراع والتنافس والتطاحن والتحارب بين التفسيرات والتأويلات الدينيّة الثابتة الجامدة المنغلقة، فالحروب الدامية والدمار الشامل والتكفير المتبادل والكراهيّة وكلّ صور التوجّس والحيطة والحذر والاتّهامات التي كانت ولا زالت كائنة وستكون على امتداد تاريخ أصحاب الأديان، ليست بسبب الدين وإنّما بسبب تفسيراتنا المتضاربة والمتضادة للدين.
والصعوبة التي نحن بصدّدها هي؛ هل نحن نتحدّث عن الدين بصيغة المفرد أم نظلّ نتعامل معه بصيغة الجمع؟ وكيف يكون التعامل مع التعدّديّة الدينيّة، هل يمكن أن نعترف بها وهل نحن معها؟
إنّنا إذا تحدّثنا من وجهة نظر التاريخ والأحداث والوقائع التي مرّت بنا في تاريخ العلاقات بين الأديان، سنتحدّث بصيغة الجمع بما يمكن أن يدخل فيها من تفضيل لإحداها وإبعاد وإقصاء للآخر. وإذا تحدّثنا من وجهة نظر المصدر والمنبع والقلب البشريّ، من داخل كلّ دين أيّ لغة القلوب وقانون الرّوح ودستور المثل سنتحدّث عن الدين بصيغة المفرد.
من أين نبدأ إذن حتّى ينضوي المتعدّد والمختلف والمتنوّع في إطار مشترك؟ هل يمكن أن تسهم الفلسفة وهي أعلى درجات الوعي الإنسانيّ لدى هيجل في وعي المشترك الدينيّ؟ نحن نفترض أنّ الفلسفة بما هي تفكير في الكلّيّ والكونيّ ممّا يمكن أن يسهم في تحديد المشترك، والسّؤال الذي نطرحه هنا هو أيّ مجالات الفلسفة أو فروعها هو الذي يمكن أن يساعدنا في ذلك؟ يمكن منذ البداية افتراض أنّ فلسفة الدين وفلسفة الأخلاق والقيم تمثّل مدخلاً لبناء أو المساعدة في بناء برنامج يمكن أن يتّفق حوله حكماء وسياسيّو العالم ومفكّروه لمواجهة الدمار المرتقب وتحقيق المواطنة الكونيّة المرتجاة والعيش سويًّا في عالم واحد.
وعلى هذا ينقسم بحثنا إلى ثلاثة أقسام تتناول على التوالي: أوّلاً مفهوم الدين الكونيّ عند كانط وثانيًا النظريّة العامّة للقيمة باعتبارها تحقيقًا للخير الكلّيّ ثالثًا تجارب فلسفيّة في المشترك والعيش معًا.
أوّلاً: كانط والدين الكونيّ
يمكننا أن نشير إلى عدد من فلسفات الدين لدى كلّ من: كانط في كتابه "الدين في حدود العقل" وهيجل في "محاضرات في فلسفة الدين" وفويرباخ في "جوهر الدين". وإن كان هناك بعض التحفّظ على ما قدّمه هيجل في فلسفة الدين حول العرب والإسلام والشرق، الذي كان حذرًا للعداء للإسلام؛ فإنّنا نجد لدى كانط الذي ازداد الاهتمام بفلسفته اليوم وتمّ توظيف ما طرحه في دراساته حول ما التنوير؟ وما الثورة؟ في فهم الحاضر وما يحدث اليوم في العالم إضافة إلى الاهتمام الكبير حاليًّا بما جاء في كتابه "نحو سلام دائم" ويأتي كتابه "الدين في حدود العقل" ليقدّم لنا عونًا لا حدود له لفهم المشترك والكونيّ في الدين مقابل الخاصّ والتاريخيّ في العقائد.
يرى كانط إنّ أصل حاجة البشر إلى الدين لا تكمن في أيّ نوع من العبوديّة بل في قدرتهم على الحرّيّة وبالتحديد حرّيّة المصير، حرّيّة اقتراح غاية لوجودهم على الأرض تليق بعقولهم، فالإنسان غاية في ذاته ومن ثمّة فالحاجة إلى الدين لا تأتي إلى الأخلاق من خارج بل هي "فكرة تنبع من الأخلاق؛ بمعنى أنّه لا يصبح الإنسان متخلّقًا لأنّه متدّين، بل إنّه لا يصبح متدّينًا إلاّ لأنّه متخلّق. أيّ قادر على إعطاء قيمة أو غاية نهائيّة لحرّيّته.[1]
علينا أن نميّز عند كانط في أيّ إيمان بين "دين العبادات" وبين مفهوم "الدين الخلقيّ" النابع من حاجة العقل البشريّ إلى غاية نهائيّة لمصير البشريّة على الأرض. ولأنّ العقل البشريّ واحد، ولأنّ الجنس البشريّ واحد، فإنّه لا يمكن لنا التفكير إلاّ في " إله واحد" وبالتالي لا يمكن أن يوجد بالنسبة إلى عقولنا إلاّ "دين واحد": هو دين العقل هو "إيمان عقليّ محض" يمكن لأيّ كائن أن يبلغ إليه بواسطة عقلنا الخاصّ، وذلك انطلاقًا من أنّ إرادة الله المكتوبة في قلوبنا. وهو أمر يرغب كلّ دين نظاميّ في التغافل عنه. ولذلك ليس من مستقبل لأيّ نوع من دين الوحي سوى النجاح الكونيّ في ترجمة هذا الوحي إلى وحي عقلي محض في صلب الطبيعة البشريّة بما هي كذلك. لا مخرج من التعدّد الدينيّ إلاّ بالتنبيه على وجود مبادئ خلقيّة كونيّة للإيمان. ولذلك يثني كانط على جميع الأديان التي نعرفها بقدر ما تتأوّل العقائد الإيمانيّة "من أجل غايات حسنة وضروريّة بالنسبة إلى كلّ الناس".[2]
وذلك لأنّ من مصلحة العقل، على المستوى المدني، أن يبقى الدين صالحًا على الصعيد الأخلاقيّ. لذلك لا يتردّد كانط في الدعوة إلى مواصلة استعمال الكتاب المقدّس. ومن هنا يؤكّد؛ ليس مشكل الدين متعلّقًا بمدى إيماننا بما نظنّ أنّه مقدّس بالنسبة إلينا وحدنا، بل بمدى قابليّة ما نؤمن به لأن يكون مفكّرا فيه بوصفه "يكون أو لا يكون قابلاً للتواصل على نحو كونيّ" بين البشر كافّة.
يسعى مترجم "الدين في حدود العقل" في دراسة متفرّدة إلى بيان موقف كانط من الإسلام كما يظهر في عدد من كتابات الفيلسوف أو إشاراته المختلفة. ويحاول أن يبيّن لنا تفسير فهم كانط في كلّ عمل من هذه الأعمال الذي يصف فيها الإسلام والمحمّديّة. يدين الكبرياء، ويميّز بين الكبرياء والتكبّر والعنف ورفض الأديان الأخرى.
إنّ ما كتبه كانط عن العرب، في مقالة مبكرة حول مشاعر الجميل والجليل (1764م)، يكشف لنا عن تعاطفه الكبير مع شخصيّة "العربي"، في نطاق إحصاء أخلاقيّ وروحيّ شامل للطباع القوميّة للشعوب الأساسيّة للإنسانيّة الحديثة. يقول:" إذا ما اجتزنا، الآن، تلك الأجزاء الأخرى من العالم، إذا لالتقينا بالعربيّ، الإنسان الأكثر نبلاً في الشرق، ولكن المشوب بشعور كثيرًا ما ينقلب إلى مغامرة خطرة. إنّه مضياف، ذو سماحة وصادق؛ إلاّ أنّ حكاياته وقصصه، وأحاسيسه عامّة، مخلوطة، في كلّ آن، بشيء من الأعاجيب. إنّ خياله إنّما يقدّم له الأشياء في صور غير طبيعيّة، حتّى انتشار ديانته إنّما كان مغامرة كبيرة. إنّهم ليسوا بأتباع متشدّدين للإسلام، وإنّهم ليسمحوا لمزاجهم المشدود إلى المزاج بأن يتأوّل القرآن بقدر محمود من الترفّق والتلطّف. [3]
إنّ العرب عند كانط كما يشرح المسكينيّ شعب ينتظم طبعه القوميّ وفقًا للشعور بالجليل، باعتباره شعورًا بالخشية، ولا يجب، بأيّ حال، الخلط بين عاطفة الجليل، التي شخّصها كانط وبين التهمة الاستعماريّة، التي سيقترفها القرن التاسع عشر ضدّ العرب كونهم متعصّبين، وغير قادرين على التجريد العقلي. ذلك أنّ الشعور بالجليل طبع قوميّ يشترك فيه العرب مع الإسبان، والإنجليز، والألمان، وليس عاطفة "شرقيّة".
يبلغ حوار كانط مع الإسلام ذروته في هامش من كتاب "الدين في حدود مجرد العقل"، عندما يصف ما يسمّيه "المحمّديّة" بأنّها دين مؤسّس على الكبرياء. إذًا بدلاً من المعجزات، وجد التأييد الخاصّ بإيمانه في الانتصارات وفي قهر الشعوب الأخرى، وطقوس عبادته كلّها من نوع شجاع. يورد المسكيني الفقرة 42 من "نظريّة الفضيلة" في "ميتافيزيقا الأخلاق"؛ التي بسط فيها كانط تعريفه للكبرياء على النحو الآتي: "إنّ التكبّر، كما يعبّر هذا اللفظ عن ذلك الميل، دائمًا إلى السباحة في الأعالي، هو ضرب من الطموح (ambition) نطالب بمقتضاه أناسًا آخرين بأنّ يقدّروا أنّهم لا شيء بالمقارنة معنا، ومن ثمّ هو رذيلة تتناقض مع الاحترام، وهو شيء ينبغي أن نميّزه عن الكبرياء من حيث هو حب التكريم، بمعنى الحرص التامّ على عدم التنازل عن أيّ شيء من كرامتنا الإنسانيّة بالمقارنة مع الآخرين. إنّه دين كبرياء، بمعنى "حب التكريم" (EhrIiebe) لإنسانيّتنا باعتباره المقياس البعيد المدى لأيّ نوع من العبادة.[4]
هنا، يريد كانط أن ينبهنا إلى أنّ الكبرياء، هذه "الظاهرة المميّزة" لما هو "محمّديّ"، ليس "علمًا" يمتلكه شعب ما دون آخر، بل هو "بصر بالإيمان" الخاصّ به. إنّ كانط لم يتكلّم عن الإسلام، أو عن المحمّديّة، وفق المسكيني إلاّ من أجل وضع الإيمان المسيحي، في مرآة إيمان آخر يسمح له بالقدرة على التعبير عن نفسه بشكل شجاع، ومن ثمّ هو أقرب إلى حفظ الكرامة الإنسانيّة فهو أقرب إلى الدين العقليّ المحض، الذي أراد كانط تأسيسه فلسفيًّا.[5]
يمكننا إذن مع احتفاظ كلّ منّا بعقائده التوجّه إلى ما يطلق عليه كانط الدين في حدود العقل الذي يسمح لنا بفهم واحد للدين يقبل تعدّد الأديان.
ثانيًا – فلسفة الأخلاق والقيم
إنّ تصوّر القيم الذي لم يتّضح إلاّ في الفلسفة المعاصرة؛ صار يشغل منزلة الصدارة بين موضوعات الفلسفة من حيث الأهمّيّة. كما يؤكّد الفيلسوف الأمريكيّ المعاصر ولبر مارشال إيريان W. M. Uurban (1873-1952)؛ الذي يعدّ من أوائل الباحثين في نظريّة القيمة: و"نادرًا ما كان هناك في تاريخ الفكر وقت شغلت فيه القيمة مكان الصدارة بهذا الشكل مثل الوقت الحالي". تضمّ نظريّة القيمة كما نعرف جميعًا علومًا متعدّدة هي الأخلاق والنفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والجمال. وبالإضافة إلى العلوم الخاصّة بالقيمة هناك العدل والعلم والحرّيّة. ففي كلّ فروع المعرفة والقيم توجد فلسفة الدين التي هي أهمّ ما تعتمد عليه النظريّة العامّة للقيمة، فالدين يتعامل مع القيم سواسية، وهو في هذا يتعامل مع القيم كقوّة عليا مستمدّة من الله وهي المرجع للوجود كلّه، والدين ليس عنصرًا خاصًّا منفردًا للقيمة بل هو يعمل كإطار لكلّ القيم[6]، فالأديان السماويّة المنزّلة إلى الإنسانيّة في إطار نظريّة أو عقيدة التوحيد؛ جاءت كلّها لتؤكّد حرّيّة الإنسان وكرامته وعزّته وقاومت الظلم والعدوان عليه وأعلنت حقوقه كلّها. حيث نادت باستقلاله عن الضغوط التي تزهق أنفاسه وتشعره بالقهر والتسلّط والإذلال والمهانة سواء كانت ضغوطًا خارجيّة أو داخليّة تحدّ من حرّيّته وتفقده التحكّم في مبادراته وتحيطه بالأغلال، وهذا هو مجال القيم.
تظلّ الأديان والأخلاق والقيم محورًا أساسيًّا في حياة الإنسان المعاصر، وتظلّ هي البديل الفلسفيّ للعولمة التقنيّة والاقتصاديّة التي تسيطر على حياتنا اليوم؛ فكلّ ما حولنا يعيدنا إلى الإنسانيّ؛ وحرّيّات وكرامة الإنسان في المجتمع المعاصر، والتعايش الروحيّ في ظلّ التطاحن والصراع الحاليّ بين الرفاه البشريّة والعدالة الإنسانيّة. وتظلّ الأديان والقيم والفضائل الأخلاقيّة هي محور حياة الإنسان؛ فما هي مكانة الدينيّ وما هو دور القيم في عالمنا وهل يمكن أن تقيم رؤية كونيّة للعالم المعاصر؟
نتوقّف عند النظريّة العامّة للقيمة التي قدّمها الفيلسوف الأمريكيّ المعاصر رالف بارتون بيري والتي قدّم فيها كتابات كثيرة خاصّة كتابيه النظريّة العامّة للقيمة " 1926 ملكوت القيمة" 1954. المهمّة الأساسيّة بالنسبة لنظريّة القيمة، عند صاحب "النظرة العامّة للقيمة" و"آفاق القيمة" R. B. Perry. هي تعريف مفهوم القيمة؛ أيّ إعطاء تحديد عامّ يشمل كلّ أشكال وأنواع القيمة التي يسعى كلّ شخص مثلما يهدف أفراد الإنسانيّة إلى تحقيقها. وإذا كان هدف كلّ متخصّص هو تحديد مصطلحات علمه الخاصّ بدقّة؛ فإنّ الفيلسوف الذي يختص بالأكسيولوجي مهمّته تحديد كلمة value، التي تعدّ المحور الأساسيّ لاهتمامه، أو هي المصطلح؛ الذي ينبغي أن يحدّد له معناه الدقيق. والاهتمام interestكما يخبرنا هو المصدر الأساسيّ لكلّ قيمة، فأيّ موضوع يكتسب قيمة عندما يستوعب أيّ اهتمام أيًّا كان هذا الاهتمام؛ فمهما كان الاهتمام فهو في حقيقته قيمة.[7]
وتصنّف القيم المختلفة فيما يرى باصطلاحات الأشكال المختلفة للاهتمامات ومواضيعها. إنّ عزّو القيمة إلى الاهتمام له ما يبرّره في حقيقة أنّ حياة الإنسان الوجدانيّة الحركيّة والتي ينطبق عليها اصطلاح الاهتمام تقوم بالعمل في كلّ المواقف الخاصّة بالقيمة[8]. فالقيم تعتبر وظائف معيّنة خاصّة بالكائن الحي، وهو ما يطلق عليه اسم الاهتمام.
ومن تحليل مختلف أنواع القيم يمكن ترتيب الأشياء الخيّرة في سلّم متدرّج. وفي هذه الحالة توضع الأشياء الأكثر اشتمالاً في مكانة تعلو على الأقلّ اشتمالاً، ويتغلّب الأعلى على الأدنى، والدائم على العابر، وهكذا يكون لدينا سلّم متدرج من القيم حتّى نصل إلى مفهوم القيمة العليا أو الخير الأسمى. وتحقيق هذا الخير يغدو تنظيمًا لكلّ القيم والاهتمامات الأخرى في صلتها بعضها ببعض. التي تنتج من تنظيم منسجم للاهتمامات يطلق عليها اسم التوافق والانسجام أو السعادة التوافقيّة" أو القيم الإنسانيّة المشتركة.
ويذكر لنا بيري الأنواع المختلفة للاهتمامات بدءًا بأقلّها مرتبة حتّى أكملها. وبعد تناول أنواع الاهتمام يتحدّث عن تكامل الاهتمامات. والعلاقة التي تقوم بين اهتمام وآخر أو بين مجموعة من الاهتمامات وإنّ الاهتمامات يمكن أن تتكامل وتنسجم، أو أن تتصارع وتتنافر. وذلك في علاقتين أساسيّتين لنظريّة القيمة هما:
- التكامل والتوافق أيّ إنّ الاهتمامات تكون منسجمة، ومستقرّة، ووديّة، ويمكن الاصطلاح على أنّها تعاونيّة أو توافقيّة.
- التصارع والتنافس أيّ أن تكون غير منسجمة، وعدائيّة أو متقابلة، تواجه بعضها بعضًا؛ متصارعة. والمشكلة الرئيسيّة للتكامل هي تحقيق التعاون والانسجام بدلاً عن النزاع والصراع. وهذا هو مبدأ الخير الأقصى والمشترك الثقافي والحضاري بين البشر.
ومن هذه الخطوات ننتقل من الاهتمام الفردي إلى التكامل الاجتماعي للاهتمامات وتلك مسألة أساسيّة في مجال القيم المشتركة، حيث إنّ ما يبتغيه الفرد هو الخير الأقصى؛ الذي يعدّ عند بيري؛ افتراض الخير الكلّي الشامل هو المكافئ الذرائعي لفكرة الله لدى الفلاسفة الميتافيزيقيين ولدى رجال اللاهوت، فهذا الخير الأقصى إنّما هو التكامل التام الذي يدمج أنواع الاهتمام كلّها في اتّحاد كلّي يشمل الفاعلين جميعًا. وهذا التكامل ليس سوى مثل أعلى، وكلّ إنسان يصبح عنصرًا من عناصر الإرادة الكلّيّة الخيّرة حين يتّفق الجميع على تحقيق مثل هذا الانسجام الكلّي.[9]
ويقدّم لنا بيري نظريّة أساسيّة لتحقيق القيمة الكلّيّة والخير الأعلى والسعادة البشريّة وذلك عن طريق الحبّ بين البشر. ويمكن تحقيق مثل تلك النتيجة المنسجمة للحبّ؛ التي تعرف على أنّها اهتمام إيجابي لإرضاء اهتمام ثان، "والاهتمام الثاني هو شخص آخر، والحبّ خال من الأنانيّة "فالحبّ يبدأ وينتهي في الخارج" وهو تأييد مهتّم به لاهتمام آخر سابق في الوجود وموجود بطريقة مستقلّة[10]. وتعدّ هذه النظريّة "الحبّ"؛ الوسيلة الأخلاقيّة لإحلال التعاون، مقابل ما يسود حياتنا من العنف والرفض والإقصاء والصراع لحلّ التناقضات وتغيّر العلاقات الاجتماعيّة الجائزة والظلم لبعض طبقات المجتمع. والحبّ أساسًا هو اهتمام بآخر يسعى نحو التعاون. وهو "موقف اهتمام أو بشاشة خير عمومًا". ويمكن صياغته على النحو التالي "لا شرّ نحو أحد وإحسان نحو الجميع" وهو ما نطلق عليه المشترك الأخلاقيّ والعيش سويًّا؛ فالحبّ هو "تكامل شخصيّ ويعرف طبقًا لتقاليد الفلسفة الأخلاقيّة على أنّه الإرادة الخيّرة"[11].
إنّ المثل الأعلى يقدّم نفسه على أنّه يمكن تحقيقه، ويجب لإتمامه أن يكون متوقّعا بمقياس ما. ويجب أن تكون هناك لحظات يستطيع فيها المرء أن يمسك فيها بلون ومذاق أفضل شيء، أو كما نعبّر بطريقة عامّة يجب أن يكون هناك "قبس من الله في الإنسان". وهذه اللحظات يمكن الإحساس بها وهي موجودة كهدف يسعى في طلبه، ولها مثلها الأعلى، تتّخذ من صراع الاهتمامات نقطة بداية ومن تناسق الاهتمامات هدفّا مثاليًّا لها. "الأخلاق المشتركة هي محاولة التوفيق بين اهتمامات متصارعة تمنع النزاع حين يهدّد، والشقاق حين يحدث وتتقدّم من الموقف السلبي العداء وللصراع إلى الموقف الإيجابي للتعاون.
والسعادة التوافقيّة؛ هي المعيار الوحيد الكفء لكي يلتجئ إلى كلّ الناس؛ ليس فقط لكلّ فرد بمفرده ولكن للجميع معًا. وهو الوحيد الذي يعد بفوائد لكلّ اهتمام مع كلّ الاهتمامات الأخرى ونظرًا لأنّه يشمل كلّ الاهتمامات ويحقّق مصلحة الجميع فمن ثمّ يحصل على تأييد زائد يفوق كلّ خير آخر، وهذا ما يطلق عليه دليل الاتّفاق وبلغة اليوم المشاركة في الكونيّ. وفيها ينقل مفهوم الخير الأخلاقيّ عبر التواصل الإنسانيّ من المستوى الاجتماعيّ إلى المستوى الدوليّ بل والكونيّ وتصبح الحضارة مملكة القيمة.[12]
ولمّا كان الخير يعني السعادة التوافقيّة لأكبر عدد من الناس، فإنّه بهذا يحلّ الدافع الاجتماعيّ للتقدّم محلّ الصراع البيولوجي. وإذا كنّا على المستوى الأخلاقيّ نريد أن نحقّق السعادة؛ فإنّنا على المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ؛ نستهدف تأكيد الديمقراطيّة والسلام والتعاون الدولي واقتسام الكونيّ والمحبّة الكوكبيّة. "وبهذا يتّضح لنا أنّ الهدف الأقصى هو إيجاد نظريّة أكثر شمولاً للحضارة الإنسانيّة لا تكون نظريّة القيمة الأخلاقيّة إلاّ جزءًا صغيرًا منها"[13]
بإرساء المبادئ الأساسيّة لأخلاقيّات المستقبل، فإنّ مصير أجيالنا والأجيال المقبلة مرهون أكثر بقدرتنا على أن نجمع بين الرؤيا البعيدة المدى والقرارات الآنيّة. لكن إن لم نبادر إلى الفعل في الوقت المناسب فلن يكون للأجيال الآتية أيّ وقت للفعل.
ثالثًا: المشترك والغيريّة والعيش معًا
دعوني أنتقل من الفلسفة وفلسفة الدين والأخلاق إلى ترجمة المشترك الدينيّ والأخلاق إلى برنامج فلسفيّ معاش. هنا سوف أتوقّف عند القضيّة الأساسيّة التي تمثّل برنامج وإشكاليّة كرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربيّ وهي إشكاليّة الفلسفة وتجارب الغيريّة؛ التي حدّدها فتحي التريكي وفريق العمل معه في الكتاب الصادر عن افتتاح كرسي الفلسفة في تونس عن مفهوم جماليّة العيش المشترك وسعادة التحاور مع الغير دون أن يفقد المرء هويّته ونمط وجوده في العالم، ضمن التآلف والانسجام الذي لا يعبّر فقط عن عدالة مصحوبة بالحكمة والحب ولكن أيضًا عن الوفاق الممكن بين الأشخاص، فهو يعبّر عن إنسانيّة قوامها حقّ الاختلاف والاحترام والمحبّة.[14]
يبني البرنامج الذي نحن بصدّده على ضرورة أن يكون هناك توافق واع؛ يكون نتيجة تبادل مشترك بين الأنا والآخر، ليصبح الأرضيّة الرئيسيّة للعيش سويًّا، فلا وجود لحياة مشتركة دون توافق ودون حوار يؤكّد التريكي أنّ الأمّة لا تحقّق وحدتها وهويّتها إلاّ باتّفاقها من خلال عمليّة تحاوريّة ضخمة. تؤسّس فيها عوامل الارتباط وأسباب إنجاحها تحوّلها إلى عيش مشترك في ظلّ الكرامة والحرّيّة.
وتحدّث جاك دريدا في نفس هذا اللقاء الأوّل لكرسي اليونسكو عن قوانين الضيافة وهي مسألة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمشترك الإنسانيّ. ينطلق دريدا من كتاب كانط مشروع للسلام الدائم؛ حيث يطرح قضيّة الضيافة اعتمادًا على الفصل الثالث النهائي الذي يؤكّد على ضرورة أن يتحدّد القانون الكونيّ – المدني بشروط الضيافة الكونيّة. لقد شدّد كانط على حقّ مواطني العالم، أيّ أنّنا في مجال الحقّ. إنّ الضيافة الكونيّة إلزاميّة، إنّ حقّ الزيارة الذي هو حقّ متاح لكلّ البشر بمقتضى حقّ التملّك المشترك لسطح الأرض. وبما أنّ الأرض كرويّة وبالتالي متناهية. فإنّه على البشر أن يتدبّروا أمرهم في إيجاد كيفيّة تسمح لهم بالعيش معًا من أجل اقتسام سطح الأرض الذي هو ملكيّة مشتركة[15].
وقد شارك التريكي وكلّ من جاك بولان وكريستوف وولف في الإشراف ضمن برنامج كرسي اليونسكو للفلسفة على ندوة حول العنف والدين وتفاهم الحضارات؛ حوار أوروبا والبلدان الإسلاميّة " وجاء في مقدّمتهم للكتاب الصادر عن هذا اللقاء. إنّ الحروب وأشكال العنف التي سلّطتها بعض البلدان الأوروبيّة على بلدان مسلمة عملت بقوّة على إذكاء المشاعر السلبيّة تجاه الغرب. وهذا ما يفسّر أنّ عددًا كبيرًا من المسلمين غذّوا في نفوسهم حبّ العنف والأخذ بالثأر وإن كان في المسلمين أصوات ما فتئ عددها في ازدياد قد ارتفعت مشهّرة باللجوء إلى الإسلام لتبرير العنف ومؤكّدة وجود خلط بين اتّجاه سياسيّ والدين الإسلامي إلاّ أنّ الإسلام كغيره من ديانات التوحيد الأخرى دين سلم ومحبّة ولكن مواقف هؤلاء لا تحظى بنفس الاهتمام الذي تحظى به الأصوات التي تربط بين الإسلام والحرب والعنف.[16]
إنّ الخضوع لله في الإسلام وقيم الإحسان مثل الضيافة والكرم والتواضع والتقوى والتسامح؛ تلعب دورًا أساسيًّا؛ لأنّ حقيقة الإسلام تتألّف من تعاليم القرآن وسيرة الرسول وهي التي ترشد الأمّة الإسلاميّة في حياتها اليوميّة وفي وجودها وهي الضامنة لوحدتها والعرف والوحي والسيرة المستقيمة تمثّل وحدة الإيمان وعلى هذا الأساس ينخرط الفرد في الأمّة. إنّ الإسلام شأنه شأن اليهوديّة والمسيحيّة لا تحدّه أرض معيّنة وقد انتشر في كلّ أنحاء العالم تقريبًا فنشأت بذلك أمّة مسلمة عظيمة وكما هو الشأن بالنسبة إلى المسيحيّة ففي صلب الأمّة يوجد مزيج متنوّع من الثقافات، وجميع الأديان ترفض جعل الحياة مقصورة على النزعة الفرديّة والعقلانيّة وعلى العمل والإقصاء بل بالعكس فإنّ الاهتمام مركّز على ما للقيم الدينيّة والروحيّة من أهمّيّة في النموّ البشريّ ومن هذه القيم؛ السلم والتنوّع والدوام وهي قيم ثقافيّة يتوقّف عليها مستقبل البشر.[17] وفي إطار الحوار الذي يدور بين البلدان الأوروبيّة والبلدان المسلمة يقترح هذا الكتاب دراسة عدّة محاور كبرى هي الدين والعنف السياسة والدين، الكونيّة والثقافة وفي كلّ هذه المجالات فإنّ المدار يكمن في تبادل معلومات ومعارف وآفاق حتّى يتمّ توسيع حقل التفاهم المشرك بين البشر وتعميقه.
إنّ نقطة الانطلاق في هذا اللقاء كانت العلاقة بين الدين والعنف. وسوف نتبيّن في لقائهم أنّ ديانات التوحيد الثلاث تحتوي على عناصر تجعلها قادرة تمامًا على تشجيع إرادة الحياة بين البشر؛ حياة سلام ومحبّة؛ ففي كلّ هذه الديانات يتعيّن عدم العمل بالنصوص الدينيّة التي تدعو إلى العنف وبالعكس تنمية الطقوس الدينيّة التي فيها الدعوة إلى التصالح؛ ففي الديانات الثلاث توجّهات نحو السلم كثيرة ينبغي استثمارها واستثمار ما فيها من إمكانات لتثقيف البشر أيّ لتكوينهم وتربيتهم وللقيم في هذه العمليّة دور كبير؛ فهي تساعد على تنظيم الحياة المشتركة وخارج النطاق الذي تنخرط فيه فإنّ لها دورًا تطّلع به في الحياة داخل المجتمع المدني.[18]
ونذكر من الموضوعات المهمّة التي تناولها هذا اللقاء "الكونيّة" والتي لها تأثير في العلاقات بين البلدان الأوروبيّة والبلدان المسلمة. فهناك كثيرون يرغبون في الإسهام في رصيد التنمية الذي توفّره مسارات الكونيّة؛ إلاّ أنّهم ليسوا مستعدّين للتنازل عن هويّتهم الثقافيّة. وعندما تهدّد ظواهر الكونيّة الهويّة الثقافيّة بصورة دائمة فإنّ خطر ظهور أصوليّة دينيّة يزداد ويتجلّى في بروز مقاومة ضدّ ما يهدّد بفقدان الهويّة الثقافيّة وحتّى ينجح الحوار بين البلدان الأوروبيّة والبلدان المسلمة؛ يتعيّن على الطرفين إقامة علاقة بين الكونيّة والهويّة الثقافيّة على اعتبار أنّ ذلك يمثّل مشكلاً مشتركًا بينهما.
وينبّهنا هؤلاء إلى الشروط التي يجب أن تتوفّر حتّى يكون الحوار بين الثقافات في البلدان الأوروبيّة والبلدان المسلمة أمرًا ممكنًا وواجبًا ومن بين المنطلقات الأساسيّة التي يشيرون إليها وجود فضاء جغرافيّ مشترك على ضفّتي البحر الأبيض المتوسط وما نشأ بينها من حوار في عمليّات تبادل مكثّفة: اقتصاد وسياسة وثقافة. وقد طبعت طيلة قرون تعايش الشعوب في هذه المنطقة ومع مرور الزمن ظهرت عديد التقاليد السلميّة تنتمّي إلى ثقافات مختلفة ومن المهمّ المحافظة عليها وتنميتها؛ لأنّ الحوار بين الثقافة شرط من دونه لا يمكن تحقيق مثل هذا الهدف.
وبما أنّ الوعي التاريخيّ يجعل تصوّر ما هو مشترك يمتدّ إلى المشاكل الراهنة فإنّ وجوده سوف يعتبر عاملاً مهمًّا يساعد على تحسين العلاقات بين البلدان الأوروبيّة والبلدان المسلمة؛ غير أنّه إذا ما أردنا أن ننتمّي وعيًّا تاريخيًّا مشتركًا فإنّه يكون من الضروري لكلّ طرف أن يستعدّ لمناقشة أوضاعه بنفسه ونقدها وأن يتحلّى بالشجاعة ليتصدّى لذلك. ولإنجاح الحوار نحن في حاجة إلى رصيد مشترك من القيم الدينيّة... من أجل بناء مشروع حياة مشتركة تتحقّق في نطاق التنوّع الثقافيّ والسلم.[19]
وفي نفس برنامج كرسي اليونسكو للفلسفة يعرض بوحديبه لإشكاليّة الغير؛ حيث نحن نولد جميعًا في الغيريّة ونثبت ذاتنا في نطاق الغيريّة، ففي قلب الهويّة تقيم الغيريّة، فالغريب عنّا يسكن ذاتنا، والإنسان ليس إلاّ ذلك الكائن المغاير للغير، لذا يكون الوعي بالذات ثانويًّا على أساس أنّ الغير منذ البداية يسكن فيه ويتكوّن منه ويكشف عنه.
ينتهي بوحديبه إلى أنّ الغيريّة تعايش والتعايش رهان دائم لا بدّ من كسبه مهمّا كان الثمن. إنّ الغيريّة في الإسلام هي وضع الذات في منظور تتبادل مع الغير وهي قصد، ولئن كانت منبثقة من الداخل فهي دائمًا منفذ ومجهود يبذل من الذات وعمل إرادي. وعلى هذا الأساس فهي تلك التي بداخلنا تتولّى بكلّ جرأة مراقبة نزواتنا الحميمة وتطهيرها وتوجيهها وتأسيسها. إنّها تقيم الوئام الداخلي وترسم معالم مشروع حقيقي يتطلّع إلى المحبّة المشتركة الشاملة[20]، لنكون منها ونبني على أساسها تصوّرا وافتراضًا يمكن الاتّفاق عليه، ليكون نواة للمشترك.
رابعًا: جهود عربيّة في الحوار الإسلامي المسيحي
نواصل هنا بيان الجهود التي يمكن أن نواصل عليها افتراض المشترك الإنسانيّ وهنا أشير إلى بعض الجهود، التي أسهمنا فيها وفي هذا الإطار حرصت أوراق فلسفيّة ودفاتر فلسفيّة على الدعوة إلى الاتّجاه لدراسة الفلسفة المسيحيّة العربيّة المعاصرة كاهتمام علميّ أكاديميّ لم يوف حقّه من البحث والدراسة. فهناك الفلسفة المسيحيّة الغربيّة في العصور الوسطى، وقد ظهرت على استحياء بعض الدراسات في الفلسفة المسيحيّة العربيّة الوسيطة إلاّ أنّ الجهود الفلسفيّة العربيّة المسيحيّة التي تبنّت الاتّجاهات الفلسفيّة المعاصرة كالتوماويّة الجديدة والوجوديّة المسيحيّة لم تلق الاهتمام المناسب، من هنا أعددنا مجلدًا جماعيًّا حول الأب جورج شحاته قنواتي أحد أبرز وجوه الحوار الإسلامي المسيحي، أسهم فيه جان بيرينز الذي كتب عن قنواتي مسيحي مصري يلتقي بالإسلام وكتب جوزيف سكاتولين عن رجل الحوار بين الشرق والغرب ومحمّد صفار عن مفهوم الحوار بين الأب قنواتي والأب سكاتولين.
تتناول الدراسة الأخيرة نظريّة الفيلسوف الألماني مارتن بوبر في الحوار أساسا نظريًّا للمقارنة، وتعرّض لمعنى الحوار كما يظهر في كتابه "الأنا والأنت" الذي يميّز فيه بين نوعين من العلاقات بحسب طبيعة الموقف الذي يتّخذه الإنسان، وهما أنا – أنت، وأنا – ذاك. ولعلاقة أنا – ذاك؛ أيسر في فهمها لقربها من الموقف الطبيعي، ولأنّه بالاعتماد عليها سيسهل فهم علاقة أنا – أنت. وفي مقابل ذلك تقف علاقة أنا – أنت، وما تشير إليه الأنا بأنت ليس شيئا وليس موضوعا بين الأشياء أو الموضوعات ولا يتكوّن منهما. وعندما تقول الأنا تلك الكلمة الأوّليّة أنت، فإنّها لا تدرك هذا الأنت كموضوع أو شيء وإنّما تقف في علاقة مع خارج نطاق الإدراك والسببيّة.[21]
ويشير صوفار إلى التبادليّة على أنّها هي السمة الرئيسيّة للعلاقة بين الأنا والأنت؛ فالأنت الذي هو لي، يؤثّر عليَّ مثلما أؤثّر عليه. وعلاقة أنا – أنت تقود إلى علاقة أنا – أنت الأبديّ أو الله، إذ أنّ تلك العلاقة مع الأنت الأبديّ إنّما تضم كافّة علاقات أنا – أنت الأخرى. ومفاد هذا أنّ العلاقة بين طرفين بشريّين ستقود إلى صورة ما من صور العلاقة مع الله، والعكس صحيح أيضّا.
ورغم أنّ قنواتي لم يقدّم تأصيلاً نظريًّا لفكرة الحوار، في مجموعة المقالات التي كتبها عبر السنين عن الحوار بين الأديان، إلاّ أنّ هناك إشارات واضحة ومتكرّرة للإطار النظري لفكرة الحوار لديه.
ومقارنة بقنواتي، نجد سكاتولين وبرغم إشارته إلى مارتن بوبر وإيمانويل ليفيناس، باعتبارهما ممّن طوّروا فلسفة الحوار، إلاّ أنّه نحت بنفسه تأصيله النظري لفكرة الحوار، واستند في ذلك على مفهوم اللوجوس، الذي يدلّ على الكلمة الإلهيّة؛ التي تؤسّس لحوار دائم في إطار علاقة شخصيّة بين الله والإنسان محورها هو الكلمة. فالإنسان مدعوّ إلى إقامة صلة مع خالقه وخالق الكون، الذي يتكلّم مع الناس ويستجيب لدعائهم، وهو ربّ النعمة والرحمة ولا نهايّة لمحبّته وحكمته.[22]
تنبع نظرة قنواتي للإسلام كآخر في العلاقة مع الأنا من تحليله لتاريخ العلاقة أو اللقاء مع الإسلام وأثره. يؤكّد أنّ العلاقة مع الإسلام ليست وليدة اللحظة الحاضرة وإنّما تضرب بجذورها في قلب تاريخ الحضارتين الإسلاميّة والمسيحيّة. ويرغب قنواتي في تفادي موقفين متعلّقين بالحكم على العلاقة مع الإسلام: اوّلهما موقف الرفض القطعي لوجود أيّ تأثير للإسلام على أوروبا، بسبب عقم الوجود الإسلامي في أوروبا بحسب هذا الموقف، وثانيهما موقف التغنّي بالحضارة الإسلاميّة ونسبة كلّ ما هو جوهريّ في الحياة الفكريّة والعلميّة والفنيّة في العصور الوسطى، وكذلك روائع عصر النهضة لتأثير العرب. ومن أجل ذلك يتبنّى موقفًا وسطًا.
وفي مقابل ذلك تأتي نظرة سكاتولين للإسلام كآخر أو كشريك للحوار في إطار محاولته لتقديم إسهام من داخل اللاهوت المسيحي لإشكاليّة التعدّديّة الدينيّة. ولا ينبغي برأيه النظر إلى الخبرات الدينيّة، والتيّارات الروحيّة بداخلها، على أنّها مجرّد ثمرة لمجاهدات ورياضات إنسانيّة محضة، وإنّما باعتبارها طرقًا متعدّدة للخلاص يقودها ويساندها في البدء الحضور الإلهي.
وفي هذا الإطار، تأتي نظرة سكاتولين للإسلام، فهو يتوجّه صوب مركزه أو ما يطلق عليه الهويّة الأساسيّة له، وهي شهادة الإسلام بالتوحيد المطلق (لا إله إلاّ الله)، التي تمثّل "النقطة المركزيّة للدين الإسلامي إيمانًا وفكرًا وعملاً. ويسعى سكاتولين إلى لمس مضمون ذلك التوحيد عن قرب، ولهذا يفتّش عنه لدى من خبروه في بعده الأعمق وهم الصوفيّة.[23]
وتتجلّى علاقة عمليّة الحوار بالعلاقة مع الأنت الأبديّ، وفق تعبير بوبر، لدى قنواتي من خلال جملة مفتاحيّة: "لقد انطلق الحوار الإسلامي – المسيحي، إنّه مجرّد شعلة صغيرة للغاية ولكنّه بفضل من الرّوح القدس صار ظاهرة لا تقبل الارتداء للوراء". ويرتبط ذلك لديه بصورة لا تنفصم بالأمنية العزيزة على قلبه وهي أن يجيب ذلك "النداء الإلهي" الذي دعاه للتقريب الإسلامي المسيحي والعمل على تحقيق اللقاء الأخوي بين البشريّ على الصعيد الرّوحاني والفكري والثقافي.
خامسًا: تجربة جامعيّة في المشترك.
وهناك تجربة متميّزة فريدة أشير إليها لنؤكّد سعي الأجيال الجديدة للبحث في المشترك، فقد جاءتني مجموعة من تلاميذي يراودها طموح الكتابة عن "الأخلاق والقيم المشتركة بين الشعوب". ولاقت الفكرة قبولاً كبيرًا منّي، ليس فقط بسبب انشغالي بتلك المسألة التي صارت الشغل الشاغل للمفكّرين والمثقّفين في معظم دول العالم وأصبحت برنامجًا في المنظّمة الدوليّة للتربية والعلوم والثقافة؛ اليونسكو. بل مصدرها وسبب السعادة والقبول هو أن ينشغل الباحثون الجدّد بثقافة الحوار والمشترك الإنسانيّ والحياة في عالم واحد؛ بعدها علمت أنّ جامعة القاهرة طرحت هذه القضيّة لتكون أحد موضوعات الكتابة والتدريس وأعلنت عن مسابقة لحفز الأكاديميّين لتقديم كتاباتهم حولها.
إنّ من يتصفّح المحاور المطروحة للبحث يجدها تلبي الهدف منها، بداية من المدخل التأصيليّ للأخلاق والقيم المشتركة وهو ما شغل به الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع منذ بداية القرن العشرين ومرورًا بالقيم الإنسانيّة الواحدة: الدين، الحرّيّة العدالة الحقوق، التي صارت مناط التفكير الإنسانيّ في حاضر ومستقبل البشريّة، التي علينا الآن إعادة النظر فيها لتكون مصدر تلاقي، لا سبب شقاق ونزاع، إضافة إلى القيم الشخصيّة التي تهدف إلى تكوين الإنسان والقيم الاجتماعيّة التي تروم تأكيد التواصل البشريّ رغم التعدّد والتنوّع الثقافيّ. ومن هنا يمكن التأكيد على تلاقي مشترك بين حرص الجامعة وطموح الباحثين؛ على التوجّه "نحو أخلاقيّات المستقبل" L’ethique du future وهو ما ينبغي علينا التفكير فيه وتوجيه البحث نحوه؛ لما يمكن أن يكون نواة تتجمّع حولها البشريّة حماية لحاضرها المهدّد ومستقبلها الغامض وأجيالها الحائرة.[24]
يهدف هذا العمل إلى ما تهدف إليه الورقة التي نتقدّم بها إلى هذا الملتقى وهو بيان ما للأخلاق والقيم من إمكان أن تكون الغاية المشتركة لحياة إنسانيّة واحدة، تتجاوز أخلاق الجماعات وأخلاق الأمم إلى الأخلاق الكوسموبولتنيّة الكونيّة؛ التي تتجاوز الاختلافات والتناقضات بين الأخلاق الخاصّة إلى أخلاق وقيم إنسانيّة كونيّة عامّة؛ لديها القدرة على التخلّص من نسبيّة ومحدوديّة النظرات الإثنيّة والطائفيّة التي مرّت بها الجماعات الإنسانيّة حتّى اليوم.
لا تكتفي هذه الأخلاق الكونيّة المرجوّة بمواجهة القضايا التي يكتظّ بها عالم اليوم؛ الذي تسوده التقنيّة ويهيمن عليه الاقتصاد ويمزّقه التعصّب وتحيط به العشوائيّة ويطعنه العنف ويقتله الإرهاب؛ تلك القضايا التي يفيض بها العالم اليوم ولم تعهدها البشريّة؛ من تطوّر تكنولوجيّ يهدّد بل يكاد يقضي على ماهية الإنسان وثورة بيولوجيّة لم يعهدها الجنس البشرى تحقّق طفرات في عالم الأحياء وتغيّر في الحياة المتعارف عليها منذ بداية الإنسانيّة وهي متاحة فقط لمن يملكون دون الآخرين. وتطرح إشكاليّات لا عهد لنا بها تمثّل عنصريّة جديدة وحروبًا جينيّة بين الأفراد والسلالات؛ وتغيّرًا حراريًّا في مناخ العالم وتلوّثًا بيئيًّا يقضي على الأخضر واليابس، تلك هي القضايا التي على من ينشغل بالمشترك الدينيّ والأخلاقيّ أن ينشغل بها.
خاتمة:
ومن هنا نؤكّد على أخلاق المستقبل باعتبارها مواصلة للمشروع الأخلاقيّ البشريّ وعلى ضرورة بداية جديدة له من أجل علاج للتفاوت بين البشر ودواء لفيروس التكنولوجيا، الذي لا يمكن أن نحيا به أو بدونه. حيث تستشعر البشريّة حاجاتها إلى لغة إنسانيّة جديدة، قادرة على الحوار والتواصل والإقناع والتفاهم، مثلما هي في حاجة إلى التأكيد على أهداف وغايات مغايرة، لأهداف الحضارة التقنيّة الماديّة؛ التي تحيا في حيرة بين حرّيّات تعمّق التفاوت في الرفاه بين البشر وفي إقامة العدل والمحافظة على الكرامة الإنسانيّة وهي قيم تكاد تكون مفقودة لا تجد لها مكانًا في أسواق العولمة اليوم. ممّا يطرح علينا بإلحاح ضرورة التوجّه نحو المستقبل والحديث ليس فقط عن أخلاقيّات اليوم بل أخلاق الغد. ويأتي الحديث عن (أخلاقيّات المستقبل) في ذلك السياق الذي ينشد العيش المشترك والضيافة العالميّة والمواطنة الكونيّة ممّا أسماه الإمام القشيرى قديمًا "نحو القلوب " ويمكن أن نطلق عليه نحن "قانون الرّوح" و"دستور المثال الأعلى الكوني".
تتّسع أهداف المشترك الإنسانيّ لتتضمّن القيم الإنسانيّة بمفهومها الشامل، تلك التي تؤكّد عليها الأديان من فهم الذات واحترام الآخر وتعدّد ثقافاته وتنوّع معتقداته وتحقّق ذاتيّته ومثله علينا:
- التأكيد على ضرورة الوعي الشامل؛ المؤمن بحقوق الإنسان أيًّا كان بلده ودينه وعرقه. سواء أكان رجلاً أم امرأة؛ أفريقيًّا أم أمريكيًّا، يحيا في الصحراء أم في المدينة، يتمتّع ببيئة طبيعيّة خضراء متفائلة لا تنخر فيها نفايات العداوة والكراهيّة.[25]
- والأخلاق والقيم الكونيّة المشتركة أو ما نطلق عليه؛ "أخلاق المستقبل" و "قانون الرّوح" والمشترك الثقافي، هي ما يمثّل الأساس الذي يقوم عليه الحوار الدينيّ وهي قيم تقوم على الإيمان بالتعدّد والاختلاف واحترام الآخر والتنوّع الثقافيّ للجماعات والأمم وما قدّمته الحضارات المتعدّدة من إسهامات تمثّل فينومينولوجيا الرّوح للبشريّة؛ وذلك بما طرحته أحدث الفلسفات في عالم اليوم وهي الفلسفة النقديّة التواصليّة الداعيّة للحوار وجميع الأفكار المؤسّسة لتلاقي وتعاون وتلاقح الثقافات.
- وإنّ الحوار بين الثقافات يؤكّد أهمّيّة كلّ ثقافة وهويّتها وإسهامها التاريخيّ في تطوّر البشريّة، ممّا يطرح علينا التأكيد على مفهوم الهويّة المنفتحة باعتبارها أساس الوعي الجمعيّ التاريخيّ المتنوّع المنفتح على الغير.
لقد اجتهدنا ألاّ نكتفي بوجهة نظر واحدة بل كان من المناسب عرض أكثر من وجهة نظر في الموضوع الواحد، اتّفاقًا مع هدفنا الأساس في السعي إلى غاية كونيّة تتّسع لتنوّع وتعدّد واختلاف واحترام الآخرين لتجاوز الانكفاء على الذات والانغلاق على النفس؛ الذي يولّد الأفكار المتطرّفة وينمّي التعصّب بكافّة أنواعه؛ العرقيّ والدينيّ والطائفيّ؛ الذي لا يكتفي بنفي وإقصاء الآخر، بل تكفيره وقتله وإبادته جماعيًّا. [26]
[1] فتحي المسكيني، مقدمة ترجمته كتاب كانط الدين في حدود مجرد العقل، دار جداول، بيروت، ص20.
[2] المصدر السابق، ص23.
[3] فتحي المسكيني؛ كانط والإسلام أو الدين في حدود الكبرياء، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 22سبتمبر 2015م.
[4] فتحي المسكيني؛ كانط والإسلام أو الدين في حدود الكبرياء، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 22سبتمبر 2015م.
[5] المصدر السابق.
[6] أحمد عبد الحليم عطية، القيم في الواقعية الجديدة، دار التنوير، بيروت.
[7] أحمد عبد الحليم عطية، القيم في الواقعية الجديدة، دار التنوير، بيروت.
[8] المصدر السابق.
[9] أحمد عبد الحليم عطية، القيم في الواقعية الجديدة، دار التنوير، بيروت.
[10] المصدر نفسه.
[11] أحمد عبد الحليم عطية، القيم في الواقعية الجديدة، دار التنوير، بيروت.
[12] المصدر السابق.
[13] أحمد عبد الحليم عطية، القيم في الواقعية الجديدة، دار التنوير، بيروت.
[14] فتحي التريكي: جماليات العيش المشترك، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2016 ص5-6.
[15] جاك دريدا، قوانين الضيافة، المصدر السابق، ص23.
[16] فتحي التريكي، جاك دولان وكريستوف ودلف: العنف والدين وتفاهم الحضارات، حوار أوربا والبلدان الإسلامية، الوسيط للنشر تونس، 2008، ص13-14.
[17] المصدر السابق، ص 15.
[18] فتحي التريكي، جاك دولان وكريستوف ودلف: العنف والدين وتفاهم الحضارات، حوار أوربا والبلدان الإسلامية، الوسيط للنشر تونس، 2008، ص 16.
[19] فتحي التريكي، جاك دولان وكريستوف ودلف: العنف والدين وتفاهم الحضارات، حوار أوربا والبلدان الإسلامية، الوسيط للنشر تونس، 2008، ص 19.
[20] عبد الوهاب بوحديبة: القصد في الغيرية، التجارب العربية الإسلامية، تونس.
[21] محمد صوفار: مفهوم الحوار بين الأب قنواتي والأب سكاتولين، دفاتر فلسفية، ص31-33.
[22] محمد صوفار: مفهوم الحوار بين الأب قنواتي والأب سكاتولين، دفاتر فلسفية، ص31-33.
[23] المصدر نفسه.
[24] أحمد عبد الحليم عطية (مشرفاً): الأخلاق والقيم المشتركة بين الشعوب، كتاب غير منشور، جامعة القاهرة.
[25] أحمد عبد الحليم عطية (مشرفاً): الأخلاق والقيم المشتركة بين الشعوب، كتاب غير منشور، جامعة القاهرة.
[26] المصدر نفسه.